كيف تحولت المؤسسات الدستورية في إيران إلى أدوات للصراع السياسي؟

كيف تحولت المؤسسات الدستورية في إيران إلى أدوات للصراع السياسي؟


22/01/2020

أعلن "مجلس صيانة الدستور" في إيران خلال المرحلة الأولى من عملية التدقيق في المرشحين لخوض الانتخابات البرلمانية المتوقعة في شباط (فبراير) 2020، أنّ 90 من أعضاء البرلمان الحالي غير مؤهلين لخوض الانتخابات مرة أخرى. ومن بين الذين رفض ترشيحهم أصوات بارزة في المجلس مثل؛ محمود صادقي، وعلي مطهري.

اقرأ أيضاً: نصرالله يقود بإشراف إيراني مصالحة بين الصدر والفصائل الشيعية
وبحسب الدستور الإيراني، فإنّ بإمكان القائد الأعلى علي خامنئي إلغاء قرارات "مجلس صيانة الدستور". وهو ما فعله خامنئي في الماضي أكثر من مرة، ويرجّح أن يكرره قبل الانتخابات المقبلة إذا شعر بأنّ عملية الرفض الجماعي للمرشحين ستؤدي إلى مقاطعة عامة لانتخابات شباط (فبراير) 2020. وهو ما من شأنه أن يتسبب بالإحراج لخامنئي، خاصة بعد تحذيرات رموز الإصلاحيين المتكررة له بشأن انهيار شعبية النظام، وتناقص شرعيته. وعلى سبيل المثال توقع الرئيس الأسبق، محمد خاتمي، عزوف قطاعات واسعة من الإيرانيين عن المشاركة في الانتخابات المقبلة؛ لأنهم يئسوا من إمكانية إصلاح النظام.

لكن ما هو "مجلس صيانة الدستور"؟ ولماذا يفعل ذلك؟ وما هي طبيعة علاقته بباقي المؤسسات الدستورية في إيران، مثل: "مجلس الشورى الإسلامي"، و"مجمع تشخيص مصلحة النظام"، و"مجلس خبراء القيادة"؟

أفضت "الحركة الدستورية" الإيرانية عام 1906 إلى تشكيل أول برلمان وطني إيراني (مجلس). ووافق أعضاء البرلمان آنذاك على تشكيل هيئة منفصلة تضم خمسة من كبار رجال الدين، لضمان توافق القوانين التي يقرها البرلمان مع أحكام الشريعة الإسلامية.

بدلاً من حماية الدستور أصبح مجلس صيانة الدستور حامياً للقائد الأعلى وللمؤسسات التي تخضع لسيطرته وعلى رأسها الحرس الثوري

وبعد نحو 70 عاماً وفي أعقاب ثورة عام 1979 عَيَّنَ آية الله الخميني الدكتور حسن حبيبي (أحد خريجي جامعة السوربون) لصياغة الدستور الإيراني التمهيدي، بالاستعانة بالدستور الفرنسي كمرجع. وقدم حبيبي إلى جانب العديد ممن شاركوه في صياغة الدستور الجديد، نصيحةً تَتَمَثَّل بتشكيل هيئة تسمى "مجلس صيانة الدستور"، تتولى دور مطابقة كافة القوانين مع الدستور والشريعة الإسلامية. ومع أنّ الدور التمهيدي لهذا المجلس تمثل في أسلمة القوانين التي يقرها البرلمان، غير أنّ المجلس تحول مع مرور الوقت، وبعد رحيل الخميني، وتعديل الدستور (تموز/يوليو 1989) وبداية عهد خامنئي في حزيران (يونيو) 1989 إلى كيان سياسي. وباختصار، فقد تحول "مجلس صيانة الدستور" كما نعرفه اليوم إلى كيان يقوم بدور حماية المصالح السياسية للنظام، خاصة تلك في معسكر التشدد.

اقرأ أيضاً: النظام الإيراني.. وسقطت ورقة التوت

ولعلّ أحد المزايا الفريدة التي لعبت دوراً مُهماً في بقاء الجمهورية الإسلامية، تَتَمَثَّل في الطبيعة المعقدة للمؤسسات التي تمتلك واجهة ديمقراطية، غير أنّها في الحقيقة تحمي المصالح السياسية لمراكز القوة. وتدعم هذه المؤسسات "مجموعات مصالح خاصة" داخل النظام في الوقت الذي تستخدم فيه قناع الديمقراطية والالتزام بالإجراءات الديمقراطية الغربية. وعملت هذه المؤسسات مثل مجلس صيانة الدستور على تشكيل نظام مستبد داخل فقاعة ديمقراطية. وقال أكبر هاشمي رفسنجاني الذي يُعَدُّ أحد مهندسي الجمهورية الإسلامية الحالية خلال خطبة جمعة في 31 آذار (مارس) 1984: "خلال الانتخابات السابقة كنا نتنافس مع ليبراليين أو مجاهدين (مجاهدي خلق إيران)، ونحن بالطبع لسنا ودودين معهم، غير أنّ كافة الأشخاص الذين يتنافسون الآن هم أتباع نهج الإمام (مصطلح يستخدم لوصف الأتباع المخلصين لأية الخميني). وإذا ما استمر هذا التنافس الانتخابي غير الصحي، وتحول إلى صراع فإننا قد نواجه عواقب يصعب إصلاحها".

وبناء على خطاب رفسنجاني هذا، فإنّ بالإمكان التأكيد أنّ مجلس صيانة الدستور حظي منذ أيامه الأولى، بدور كبير لمصلحة مجموعات المصالح تلك التي عملت على التخلص من منافسيها السياسيين منذ قيام ثورة 1979. وبعبارة أخرى شَكَّلَ المجلس أداة مهمة في أيدي قلة، امتلكت أو كانت تمتلك عند نقطة معينة علاقات وثيقة مع الخميني، وبعد ذلك خامنئي.

اقرأ أيضاً: لماذا يشيطن الإعلام الإيراني الرئيس العراقي ويتهمه بـ"الخيانة"؟

وتعلّم مهندسو الجمهورية الإسلامية دروسهم من التاريخ، وبالتالي لم يرغبوا في تكرار أخطاء الشاه من خلال تركيز "سلطة مطلقة" في يد شخص واحد أو مجموعة بعينها. وعمل هؤلاء المهندسين على تصميم نظام تتماشى فيه كافة مراكز القوة مع أهداف وأجندة الطبقة الحاكمة، وفي الوقت نفسه تحظى بمظهر الديمقراطية واختيار قادتها عبر أنظمة انتخابية ديمقراطية. وبعبارة أخرى، تحول مجلس صيانة الدستور إلى أداة للسيطرة على العملية الانتخابية من خلال توفير مناخ انتخابي تنافسي وهمي والاحتفاظ بحق النقض ضد كافة القوانين التي يقرها البرلمان.

ويضم مجلس صيانة الدستور في عضويته اثني عشر شخصاً من كبار رجال الدين. ويقوم القائد الأعلى (علي خامنئي حالياً) بشكل مباشر بتعيين 6 من كبار رجال الدين الأعضاء في المجلس. بعد ذلك يقوم رئيس السلطة القضائية بترشيح الأعضاء الستة الآخرين الذين يجب المصادقة على تعيينهم من جانب البرلمان لفترة مدتها ستة أعوام. وبما أنّ القائد الأعلى هو من يعين رئيس السلطة القضائية أيضاً، فإنّه في الحقيقة يسيطر على تعيين كافة أعضاء مجلس صيانة الدستور. ويمتلك كافة أعضاء مجلس صيانة الدستور إمّا آراء غير سياسية أو محافظة تتماشى مع آراء النخبة الحاكمة المتشددة في إيران. كما أنّ أياً منهم لا ينتمي إلى أي مجموعة معارضة أو حتى المعسكر الإصلاحي.

خلال العقود الثلاثة الأخيرة في حكم إيران استغل خامنئي سلطات مجلس صيانة الدستور في المصادقة النهائية على القوانين

ويمنح دستور الجمهورية الإسلامية صلاحيات لمجلس صيانة الدستور تشمل: صلاحية تأييد أو رفض أي قوانين يقرها البرلمان لتعارضها مع الدستور أو الشريعة الإسلامية، وصلاحية تشكيل "محكمة دستورية" وتفسير الدستور الإيراني، وصلاحية التدقيق في أي مرشح لخوض انتخابات "مجلس خبراء القيادة" و"الرئاسة" و"البرلمان" من خلال عملية "إشراف وسيطرة تقديرية". ويحظى مجلس صيانة الدستور بسيطرة على السلطة التنفيذية من خلال امتلاك صلاحية التدقيق بالمرشحين لخوض انتخابات الرئاسة، وبالتالي فإنّ المجلس وأعضاءه الاثني عشر يمتلكون صلاحية السيطرة على من سيصادق على القوانين، والقوانين التي يمكن المصادقة عليها، وعلى من سينفذ هذه القوانين.
وفي حال وجود أي خلاف بين البرلمان ومجلس صيانة الدستور حول أي قانون، يتم تحويل الخلاف إلى مجلس "تشخيص مصلحة النظام"، الذي يرأسه حالياً هاشمي شاهرودي. وبما أنّ تعيين أعضاء "مجلس تشخيص مصلحة النظام" هي أيضاً من صلاحيات القائد الأعلى، فخامنئي يتحكم إلى حد كبير بكل جانب من السلطات الثلاث في الدولة.


ويُشَكِّلُ "الإشراف والسيطرة التقديرية" أحد أكثر صلاحيات مجلس صيانة الدستور المثيرة للخلاف؛ فبعد اندلاع ثورة عام 1979 مباشرة، وخلال انتخابات أول برلمان في عهد الجمهورية الإسلامية، قرر محافظ طهران عدم أهلية مرشحي حزب توده (الحزب الشيوعي)، ومرشحي (مجاهدي خلق) لخوض الانتخابات. وبعث مكتب المحافظ بقراره إلى مجلس صيانة الدستور للمصادقة عليه. وشَكَّلَتْ هذه الحادثة بداية "الإشراف والسيطرة التقديرية" من جانب المجلس. وتعني عبارة الإشراف والسيطرة التقديرية، أنّ بإمكان مجلس صيانة الدستور رفض ترشيح أي شخص لخوض انتخابات (الرئاسة والبرلمان ومجلس خبراء القيادة أو أي انتخابات أخرى) في أي وقت يرى فيه المجلس أنّ المرشح لا يتماشى مع توجهات القيادة. وبالفعل، واصل مجلس صيانة الدستور رفض ترشح الكثير من منتقدي النظام بحجة عدم التزام المرشحين عملياً بالدين الإسلامي و/أو حكم القائد الأعلى طوال العقود الأربعة الماضية.

اقرأ أيضاً: إيران: الأخبار السيئة لا تأتي فرادى
يقول حميد جرهمي (عضو برلمان عن منطقة نيشابور) في مقابلة له: "كافة أعضاء البرلمان يخشون من رفض ترشيحهم خلال الانتخابات المقبلة، لذلك يؤدي هذا الخوف للتأثير على سلوكهم وقراراتهم أيضاً. وفي بعض الحالات يعمد أعضاء البرلمان إلى تغيير مواقفهم حول قضية ما، خشية أن يتعارض هذا مع قرار النظام".
وقال أحمد مزاني؛ رجل دين وسياسي إصلاحي، وعضو في البرلمان عن منطقة (ري-شميرانات-وإسلام شهر) الانتخابية في طهران: "عندما يتعلق الأمر بالانتخابات وبدلاً من الخوف من الله، فإننا نخاف من مجلس صيانة الدستور والأجهزة الأمنية التابعة للحرس الثوري، ووزارة الإعلام وأذرعها التنفيذية. لذلك أنا أتصرف بطريقة تجعلني أتأهل لخوض الانتخابات المقبلة. وهذا يقود إلى ضعف الفاعلية لأي عضو في برلمان بغض النظر إن كان رئيساً للبرلمان أو مجرد عضو في المجلس".

وأدت عملية الإشراف والسيطرة التقديرية إلى تغيير المشهد البرلماني في الجمهورية الإسلامية تماماً. ولعل المجلسين السادس والسابع أفضل مثال على مثل هذا التغيير؛ فقد شَكَّلَ الإصلاحيون أغلبية المجلس السادس برئاسة مهدي كروبي، غير أنّ الخلافات بين البرلمان والقائد الأعلى والحرس الثوري أدت إلى رفض ترشيح معظم أعضاء البرلمان لخوض انتخابات المجلس السابع. وتمثلت القضايا الخلافية بين الطرفين بحرية التعبير، وحرية الصحافة (والقوانين المعدلة التي تحكم وسائل الإعلام والصحافة)، وفكرة دمج القوات المسلحة والحرس الثوري في قوات موحدة. وعلى إثر هذه الخلافات، رفض مجلس صيانة الدستور في طهران وحدها ترشح 890 شخصاً لخوض انتخابات المجلس السابع، ونتيجة لذلك شَكَّلَ المتشددون (الأتباع المخلصون للقائد الأعلى) الأغلبية المطلقة في ذلك المجلس.

اقرأ أيضاً: العراق وإيران: بين الوردي وشريعتي
ويخضع مجلس صيانة الدستور كما حال المؤسسات المهمة الأخرى في إيران لسيطرة القائد الأعلى التامة، ويقوم بالتدقيق بالمرشحين لعضوية مجلس خبراء القيادة (الذي يتولى مسؤولية الإشراف على نشاطات القائد الأعلى والمؤسسات الخاضعة لسيطرته). وقد عمد خامنئي خلال الأعوام الثلاثين الماضية إلى تغيير هياكل مجلس صيانة الدستور، ومجلس خبراء القيادة بطريقة جعلت المجلسين مجرد أدوات لسلطته المطلقة، بدلاً من الإشراف على نشاطاته!

يقول آية الله علم الهدى؛ وهو أحد رجال الدين المتشددين، وعضو مجلس خبراء القيادة في خطاب له: "الدور الإشرافي لمجلس خبراء القيادة على أفعال القائد الأعلى يستند للحفاظ على مبادئ الولي الفقيه وحماية قيادة القائد الأعلى".


واستغل خامنئي صلاحيات مجلس صيانة الدستور لإقصاء خصومه، ومنتقديه السياسيين مرات عديدة؛ فقد استخدم سلطة الاعتراض الممنوحة لمجلس صيانة الدستور خلال دورتين متتاليتين للانتخابات الرئاسية، لإقصاء الرؤساء السابقين محمود أحمدي نجاد (2017)، وهاشمي رفسنجاني (2013) من الانتخابات. كما استخدم هذه السلطة الممنوحة لمجلس صيانة الدستور مرة أخرى في انتخابات مجلس الخبراء في عام 2015 لإقصاء سيد حسن الخميني (حفيد آية الله الخميني) من الانتخابات، خوفاً من أنّه قد يسعى ليُصبح القائد الأعلى للثورة الإسلامية المقبل. وخطّط مجلس صيانة الدستور انتخابات مجلس الخبراء في عام 2015؛ بحيث تم استبعاد جميع القادة المنتقدين للقائد الأعلى للثورة الإسلامية، وتم اختيار أعضاء المجلس العشرين قبل أن يبدأ التصويت. وبذلك، ضمن مجلس صيانة الدستور أن جميع أعضاء مجلس الخبراء الجدد مؤيدين للقائد والحرس الثوري.

اقرأ أيضاً: الإخوان وإيران.. تحت عباءة الخميني

وخلال العقود الثلاثة الأخيرة في حكم إيران، استغل خامنئي سلطات مجلس صيانة الدستور في المصادقة النهائية على القوانين، ولضمان منع المصادقة على أي تشريع من شأنه أن يعرّض سلطاته كقائد أعلى في الدولة للخطر، أو يُثير تساؤلات حول شفافية أنشطة المؤسسات الخاضعة له. وعلى سبيل المثال: صادق البرلمان الإيراني على اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الجريمة المُنظّمة العابرة للحدود الوطنية (تُعرف أيضاً باسم اتفاقية باليرمو)، بيد أنّ هذه الاتفاقية قد تكبح بشدة الأنشطة الإقليمية والعابرة للحدود الوطنية للحرس الثوري الإسلامي، خاصة دعمه لجماعات مثل "حزب الله اللبناني"، وبالتالي، أصدر خامنئي بياناً بهذا الخصوص قال فيه: "من الممكن أن بعض بنود هذه الاتفاقية جيدة للمعاهدات الدولية، بيد أنّه لا لزوم للانضمام لمثل هذه الاتفاقيات، والتي يكتنفها بعض الغموض، والتي لا نعلم نواياها وأهدافها".


وثمة تطابق بين أهداف الحرس الثوري الإسلامي، وأهداف علي خامنئي، ويتمثّل دور الأخير بحماية مكانة وأهداف القائد الأعلى للثورة. ولذلك، ازداد توجه مجلس صيانة الدستور لإقرار ترشيح أعضاء سابقين في الحرس الثوري في الانتخابات، وهو ما برز بشكل واضح في الانتخابات البرلمانية، والانتخابات الرئاسية لعام 2013، حيث كان هناك 4 مرشحين من أصل 6 من جنرالات سابقين في الحرس الثوري الإسلامي. ويُرسل مجلس صيانة الدستور استفسارات إلى الحرس الثوري الإيراني وأجهزته الأمنية للحصول على معلومات أساسية عن الأفراد المعنيين، وفي حالة تقديم مشروع قانون إلى البرلمان للمصادقة من شأنه تعريض مصالح الحرس للخطر، يتدخل مجلس صيانة الدستور فوراً ويحل المشكلة لصالح الحرس.

وخلاصة القول إنه بدلاً من حماية الدستور، فقد أصبح مجلس صيانة الدستور حامياً للقائد الأعلى الإيراني، وللمؤسسات التي تخضع لسيطرته، وعلى رأسها الحرس الثوري الإيراني.



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية