كيف تسعى تركيا لتطويق المنطقة العربية بالحزام الأفريقي؟

كيف تسعى تركيا لتطويق المنطقة العربية بالحزام الأفريقي؟


04/08/2020

على تخوم المجال الجغرافي العربي، وفي ظلّ التحولات التاريخية المتتابعة، ومنذ الحرب العالمية الثانية، لعبت تركيا لعدة عقود دوراً وظيفيّاً لصالح القوى الغربية، بداية من انخراطها ضمن حلف الناتو، وضلوعها في تنفيذ المخططات الإمبريالية عبر حلف بغداد، والتحرّش الدائم بالمنطقة العربية، وفق سيناريوهات أعِدت سلفاً في الدوائر السياسية الغربية، مع دعم وتأييد إسرائيل، منذ اعترفت أنقرة بالدولة الصهيوينة في العام 1949، قبل أن تقوم بالدور الوظيفي الأكثر شهرة في تاريخها، كحائط صد أمام التمدّد السوفييتي، إبّان الحرب الباردة.

 نجحت عناصر تركيا الثقافية بالتسلل إلى البنية العميقة لمجتمعات شمال أفريقيا بفعل التحولات السياسية العنيفة التي أصابتها

ومع صعود حزب "العدالة والتنمية"، حوّل المتغير الإسلاموي وجهة السياسة التركية نحو المنطقة العربية، في إطار مشروع توسّعي يهدف إلى تحقيق جملة من الأهداف الاستعمارية، باستهداف منطقة جنوب المتوسط، لاعتبارات الإرث التاريخي، والعوامل الدينية والمذهبية، وفق تشكيلات إيديولوجية، نجحت عناصرها الثقافية في التسلل إلى البنية العميقة لمجتمعات شمال أفريقيا، بفعل التحولات السياسية العنيفة التي أصابتها، وأنشطة التيارات الإسلامية المرتبطة بالأجندة التركية، وعلى رأسها جماعة الإخوان المسلمين.

اقرأ أيضاً: أفريقيا بعيون أردوغان: قارة تحتاج إلى مُنقذ وأطماع كبرى

وعلى الرغم من أنّ معطيات الجغرافيا السياسية تقف عكس اتجاه هذا المشروع، باعتبار القوقاز أو البلقان هي مناطق الامتداد الطبيعي للمجال الحيوي التركي، إلّا أنّ مشروع أنقرة التوسعي ذهب إلى أبعد من ذلك، عبر استهداف المنطقة العربية من المحيط إلى الخليج، ثمّ السعي نحو تكوين حزام أفريقي، تتمتع فيه تركيا بنفوذ سياسي، وقواعد عسكرية، تسمح لها بتطويق المنطقة المستهدفة من الجنوب، للتغلب على عوامل الجغرافيا، وتسهيل عمليات الدعم اللوجستي، وعدم الاكتفاء بخط واحد للإمداد والتعبئة يمرّ عبر المتوسط.

السيطرة على الصومال مدخل إلى أفريقيا

يملك الصومال مجموعة من المزايا، جعلته عرضة للأطماع التركية، فالبلد العربي الإسلامي  يتحكّم في مدخل مضيق باب المندب، أهمّ ممرٍّ بحري حيوي، وعلى مقربة من دوائر الصراع الملتهبة في اليمن، وكدولة يضربها الفساد، يمكن السيطرة على دوائر الحكم وصناع القرار فيها، ومن ثمّ التوغل بعمق نحو منطقة شرق أفريقيا، بكلّ ما يعنيه ذلك من السيطرة على أهمّ تخوم العالم العربي، مع جني مجموعة من الفوائد السياسية والاقتصادية.

 مشروع أنقرة التوسعي يسعى لتكوين حزام أفريقي تتمتع فيه بنفوذ سياسي وقواعد عسكرية

تسللت تركيا إلى الصومال عبر غطاء المساعدات الاقتصادية، وعن طريق وكالة تيكا للإغاثة، قامت بعدّة مشروعات تنموية، حيث دشّنت تركيا خطة لإعادة إعمار الصومال، أنفقت فيها الملايين، بالإضافة إلى حزمة من المساعدات الإنسانية، بلغت نحو 370 مليون دولار، وفي المقابل نجحت في توقيع عدة اتفاقيات اقتصادية في المجالين الزراعي والصناعي، كما حصلت أنقرة على امتيازات تتعلق بالصيد في المياه الإقليمية الصومالية، وتدفقت الاستثمارات التركية بشكل غير مسبوق، فحصلت شركة "البيراك" التركية على امتياز إدارة ميناء مقديشو لمدة 20 عاماً، كما ازداد حجم التبادل التجاري بين البلدين بصورة ملفتة.

وكان المدّ الثقافي التركي في الصومال أحد أبرز أدوات الهيمنة التركية، عن طريق السيطرة على المؤسسات التعليمية، حيث شيّدت أنقرة عدداً كبيراً من المدارس في مختلف مراحل التعليم، ويقوم عدد من المستشارين التعليميين الأتراك بالتحكم الكامل في عملية وضع المناهج، كما يحصل الصومال على 20 في المئة من المنح التعليمية التي تقدمها الجامعات التركية إلى بلدان أفريقيا.

اقرأ أيضاً: كيف استغلت تركيا كورونا للتغلغل في أفريقيا؟

كان الإنجاز الأكبر الذي حققته أنقرة من وراء نفوذها في الصومال، هو إنشاء قاعدة، توركسوم، العسكرية، في العام 2017، بطاقة تدريبية تصل إلى عشرة آلاف جندي، وهي تُعدّ أكبر قاعدة عسكرية تركية خارج البلاد، وتستخدمها أنقرة حالياً في تدريب المرتزقة الصوماليين، تمهيداً لإرسالهم إلى خطوط المواجهة في ليبيا، حيث أكدت تقارير نشرها موقع "صومالي جارديان" أنّ هناك نحو ألفي مقاتل صومالي، تمّ الزج بهم في الخطوط الأمامية للمعارك في ليبيا.

تسللت تركيا إلى الصومال عبر غطاء المساعدات الاقتصادية وعن طريق وكالة تيكا للإغاثة

في ضوء ذلك، يمكن فهم تحفظ الصومال على البيان الختامي للاجتماع الطارئ لوزراء الخارجية العرب في جامعة الدول العربية، في 12 تشرين الأول (أكتوبر) العام 2019، لبحث العدوان التركي على سوريا، حيث أكّد القائم بأعمال السفارة الصومالية بالقاهرة، توفيق أحمد عبد الله، أنّ تركيا "دولة صديقة قدّمت الكثير للصومال حكومة وشعباً، عبر مساهمتها في بناء جميع المؤسسات الحكومية، بعد سنوات من الأزمات والحروب الأهلية".

وعليه نجحت أنقرة في اختطاف الصومال، والهيمنة شبه الكاملة عليه، ودون مقاومة تذكر من حكّامه، وسط تقارير تشير إلى ضخّ مبالغ هائلة، جرى استخدامها كرشاوى سياسية لوكلاء محليين، لتكريس المزيد من الولاء لتركيا، كما أصبح الصومال ممراً خلفياً لتهريب وغسل أموال جماعة الإخوان المسلمين، في أعقاب سقوطها المدوي في مصر في العام 2013.

عناصر الطوق الأفريقي من جيبوتي إلى النيجر

منذ صعود حزب "العدالة والتنمية" إلى الحكم، أشرف رجب طيب أردوغان بنفسه، منذ العام 2003، على الملف الأفريقي، ويمكن الوقوف على الأهمية التي يمثلها الحزام الأفريقي لسياسات أردوغان، من خلال تعدّد زياراته إلى دول القارة السمراء، والتي بلغت نحو 30 زيارة، ما أسهم في اختيار الاتحاد الأفريقي تركيا شريكاً استراتيجياً له في العام 2008.

وتزامن إحكام السيطرة التركية على الصومال مع تصاعد لافت لنفوذ أنقرة في إثيوبيا، حيث افتتحت مكتباً لوكالة تيكا للإغاثة في العاصمة، أديس أبابا، والتي باشرت عدة مشاريع تنموية، وقدّمت جملة من المساعدات الإنسانية، حصلت تركيا في مقابلها على اتفاقية عسكرية شاملة، احتكرت بموجبها تسليح وتدريب الجيش الإثيوبي.

تزامن إحكام السيطرة التركية على الصومال مع تصاعد مُلفت لنفوذ أنقرة في إثيوبيا

ومع تراجع نفوذ إيران في جزر القمر، افتتحت وكالة تيكا للإغاثة مكتباً رسمياً لها في العاصمة القمرية، موروني، في نيسان (إبريل) من العام 2017، كما شيّد وقف الديانة التركي التابع لرئاسة الشؤون الدينية مسجداً كبيراً على الطراز العثماني في جيبوتي، أطلق عليه مسجد عبد الحميد الثاني، على مساحة 10 آلاف متر مربع، بالإضافة إلى مجموعة من المساعدات الاقتصادية، ما دفع آدم حسين عبد الله، سفير جيبوتي في أنقرة، إلى الإعلان عن رغبة بلاده في إنشاء قاعدة عسكرية تركية على أراضيها.

وجاء الاتفاق العسكري التركي الأخير مع حكومة النيجر، ليعطي دلالة مهمّة على المدى الذي يمكن أن تذهب إليه المغامرة التركية جنوب الصحراء، في ظل مساعي أردوغان لربط الوجود العسكري التركي في النيجر بالقواعد ذات الصلة في الصومال وإثيوبيا، وتقديم دعم لوجستي هائل يصعب رصده، للميليشيات التابعة لأنقرة في ليبيا، والتي ترتبط بحدود جنوبية مع النيجر.

اقرأ أيضاً: أردوغان وأفريقيا الجنوبية.. أجندة تطمس بريق الثروات

وعليه، يمكن القول إنّ سعي تركيا إلى مدّ طوق سياسي يمتد من الصومال نحو جنوب الصحراء، وحتى منطقة الساحل والمحيط الأطلسي، يهدف إلى تحقيق جملة من الأهداف المرتبطة بالجانب الاقتصادي والعسكري، أو بكليهما معاً، من خلال مبيعات السلاح التركي لمناطق الصراع المسلح في أفريقيا، مع توظيف العامل الإيديولوجي، والتماهي مع منطلقات المذهب السنّي، عبر وقف الديانة التركي، بتشييد المساجد وإرسال الدعاة.

 السلطات النيجيرية اعترضت شحنة كبيرة من الأسلحة التركية في ميناء لاجوس في العام 2017

وتلفت تقارير متعدّدة إلى وجود روابط تنظيمية بين أنقرة والجماعات الإسلامية المسلحة في شمال مالي، والتي تحاول تركيا توظيفها، مثلما فعلت في سوريا، وتفعل في ليبيا، من أجل مدّ نفوذها غرب أفريقيا، وإرباك الوجود الفرنسي في مالي، كردّ فعل على موقف فرنسا من الوجود التركي في ليبيا، كما ثبت تورّط المخابرات التركية في عمليات نقل أسلحة إلى مجموعات مسلحة في نيجيريا، وكانت السلطات النيجيرية قد اعترضت شحنة كبيرة من الأسلحة التركية في ميناء لاجوس، في العام 2017.

وتتبع تركيا استراتيجية متدرجة في تطوير علاقاتها مع الدول الأفريقية، عبر عدّة آليات، تبدأ بتقديم المساعدات، والبحث عن فرص الاستثمار، وتطوير أنشطة البعثات التجارية، ثم توقيع مذكرات التفاهم والاتفاقيات الاقتصادية، وإقامة المعارض، وإنشاء المساجد، مع دعمها بأئمة أتراك، بالإضافة إلى المنح الدراسية وإنشاء المدارس، وصولاً إلى توقيع الاتفاقيات العسكرية، وعقد صفقات السلاح، يتزامن ذلك مع إنشاء القواعد العسكرية، ومن ثمّ إضافة حلقة جديدة للطوق الأفريقي، لفرض مزيد من الحصار على الشمال العربي، وخدمة لأجندات التوّسع والهيمنة في المنطقة.



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية