كيف تصبح علاّمة في عشرين عاماً؟!

كيف تصبح علاّمة في عشرين عاماً؟!

كيف تصبح علاّمة في عشرين عاماً؟!


07/11/2022

لو كنت مخرجاً أو منتجاً سينمائياً، لما تردّدت في صنع فيلم يصوّر حياة ياقوت الحموي وبطولاته المعرفية! ولن أقلق أبداً بخصوص مدى نجاح الفيلم؛ لأن سيرة ياقوت الحموي وإنجازاته العلمية تنطوي على كل عناصر الإثارة والتشويق فضلاً عن أنّها تواكب المفصل الأكثر مأساوية في التاريخ العربي.

وُلد ياقوت الحموي في بلاد الروم عام 575هـ. ولم يكد يُتمّ عامه الخامس حتى أُسر طفلاً، وراحت الأيدي تتخاطفه حتى بيع لتاجر طيّب من تجار بغداد اسمه عسكر الحموي، فحمل لقب سيّده بعد ذلك حتى توفي في عام 626هـ. ورغم أنّ الحياة ستبتسم كثيراً لياقوت بعد أن صار عبداً لعسكر الحموي، إلا أنني كلّما عدت إلى كتاب من كتبه الزاخرة، أو طالعت أطرافاً من سيرته هنا أو  هناك، أو سردت على مسامع طلّابي قصة حياته، غلبني التأثر وأنا أستحضر بعين خيالي مشهد الطفل الوسيم المذعور الباكي، وقد انتزع من بيته وعائلته وبلده، في سن لا يكاد يفقه فيه شيئاً مما حدث له؛ وكيف ظلّت تتقاذفه أيدي النخّاسين حتى ألقت به الأقدار في بيت تاجر بغدادي رحيم!

أُسر ياقوت طفلاً وراحت الأيدي تتخاطفه حتى بيع لتاجر طيّب من تجار بغداد اسمه عسكر الحموي فحمل لقب سيّده

أيّاً كان الأمر، فقد حنى عليه مولاه وأكرم مثواه، وزاد على ذلك أن أسدى له صنيعاً لا يقدّر بثمن؛ إذ لم يتردّد في إلحاقه بالكتاتيب لِمَا رآه من نباهته ونجابته، وحتى يكون عوناً له في أعمال القراءة والكتابة والحساب التي لا يستغني عنها تاجر من التجار. ويبدو أن صاحبنا قد استثمر هذا الامتياز أحسن استثمار، فلم يقتصر على تعلم أصول القراءة والكتابة والحساب فقط، بل راح يلتهم ضروب المعرفة التهاماً، قراءة وسماعاً؛ فلم يدع حلقة من حلقات العلم إلا غشيها، ولم يدع فرصة للالتقاء بعالم من علماء بغداد إلا اغتنمها، ما جعل سيّده يزداد ثقة به وبمؤهلاته، فلم يتردّد أيضاً في إرساله للتجارة، فجاب ما لا يُعدّ أو يُحصى من البلدان، تاجراً ورحّالة وطالب علم؛ فلم يدع مكاناً زاره إلا ووثّقه ولم يدع عالماً مذكوراً إلا وسعى للقائه، ولم يدع مخطوطاً نادراً إلا وطالعه أو نسخه.

وإن كنت سأظل أستغرب إصراره على العودة إلى سيّده في كل مرة ارتحل فيها متاجراً له – وكان يمكنه أن يفرّ دون عناء- فإنني لم استغرب اتجاه العلاقة بينه وبين سيده إلى التأزم، فالمصادر التاريخية تشير إلى حدوث (جفوة) بينهما، وعين خيالي تجنح إلى رؤية تصاعد (هاجس الحرية) لدى ياقوت، وخاصة بعد أن حاز ما حاز من معارف وخبرات، وبوجه أخص بعد أن أثبت لسيده زهده في الفرار رغم اقتداره عليه، وكأنّ لسان حاله يقول لعسكر الحموي في أعقاب كل رحلة: لقد أحسنت إليّ بأن امتلكتني وآويتني وعلّمتني، فأتم إحسانك لي وامنحني حرّيتي بمحض إرادتك؛ لأنني لن أستعيدها بالفرار كأي عبد آبق!

أهدى الحموي الحضارة العربية الإسلامية والعالم سِفْرين جليلين يصعب تجاهلهما على أي باحث هما: معجم البلدان ومعجم الأدباء

بغض النظر عن أسباب هذه (الجفوة) التي شابت علاقته بسيده، فقد انتهت بعتقه في عام 596هـ. لكن الحرية لم تجلب له ما تمنّاه؛ فساءَت أحواله المعيشية حتى اضطرّ للعمل في نسخ الكتب، ما دفع سيده الطيّب للإشفاق عليه مجدّداً، فدفع له مبلغاً من المال وكلّفه باستئناف ما كان يجيده وهو الارتحال للتجارة. ولما عاد من رحلته فُجِع بخبر وفاة سيّده، فأعطى زوجته وأولاده ما لَهُم واحتفظ لنفسه بما لَهُ، ثم راح يضرب في أرجاء الأرض حتى استقرّت به عصا الترحال في دمشق، لكن تعاطفه مع الخوارج أحفظ عليه أهلها، فغادرها إلى الموصل ثم إلى خوارزم التي صادف وصوله إليها انطلاق طلائع جيوش التتار في عام (616هـ) والتي لم تتوقف حتى بلغت بغداد، فاحتلتها وأحرقتها وعاثت فيها فساداً كبيراً، مثّل البداية المؤسفة لأُفول نجم الحضارة العربية الإسلامية، فاضطر صاحبنا للعودة إلى الموصل وقد ساءَت أحواله المعيشية مجدّداً، ثم ألقت به عصا التسيار في حلب، فقضى في أحد خاناتها ما تبقى له من أعوام، يقرأ ويكتب ويعلّم، ولما أحس بدنوّ منيّته أوصى صديقه المؤرّخ والأديب الكبير ابن الأثير بأن يهدي مكتبته إلى المسجد الزبيدي في بغداد.

وعلى كثرة المؤرّخين القدامى الذين أشادوا بعلم ياقوت الحموي وفضله ورصانته، وعلى كثرة ما ألَّف وصنَّف، فقد أهدى للحضارة العربية الإسلامية وللعالم، سِفْرين جليلين، يصعب تجاهلهما على أي باحث عربي أو أجنبي في هذه الحضارة، بغض النظر عن حقل تخصصه وهما: (معجم البلدان) و(معجم الأدباء) اللذان يمثّلان بحق موسوعتين موثوقتين إلى حد بعيد. ولو طلب مني أن أضرب مثالاً على من أرضعته الحياة حليباً أسود لكنه أصرَّ رغم ذلك على المقاومة وتوجيه كل مأساته باتجاه إيجابي منتج، لما وجدت أفضل من ياقوت الحموي نموذجاً لتجاوز الألم والإصرار على الحضور الطاغي في سجلاّت التاريخ، رغم أنّه فشل في إقناع الناس بعدما أُعتق بأن ينادوه بـ(يعقوب) بدلاً من (ياقوت)! وأنّى له أن ينجح؛ فقد اعتاد العرب آنذاك على ادّخار أجمل الأسماء لعبيدهم (ياقوت، زمرّد، لؤلؤ، مُرجان) واختيار أخشن الأسماء لأبنائهم (صخر، كُليب، رعد، غضنفر) حتى يدبّوا الرعب في قلوب أعدائهم!



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية