كيف تُهدّد الغازات الناتجة عن انفجار مرفأ بيروت حياة سكان المدينة المنكوبة؟

كيف تُهدّد الغازات الناتجة عن انفجار مرفأ بيروت حياة سكان المدينة المنكوبة؟


06/08/2020

كانت الشابة الثلاثينية ريم (اسم مستعار) تظنه يوماً عادياً، حتى سمعت صوت انفجار قوي، ورغم أنّه لم ينل من زجاج منزلها البعيد نسبياً عن موقع الحادث، لكنها وهي تحمل جنينها الأول في الشهر الأول، يصبح كلّ شيء محلّ فزع مضاعف. 

رغم أنّ الانفجار لم ينل من منزل ريم البعيد نسبياً، إلّا أنّ خوفها كان مضاعفاً على جنينها الذي يبلغ شهراً واحداً 

بعد دقائق بدأت الأمور تتضح أكثر لتستدعي مزيداً من الهلع. ثمّة انفجار ضخم في مرفأ بيروت غير معلوم الأسباب آنذاك، مقاطع مصوّرة للحظة الانفجار ومناشدات بالتوجّه إلى المشافي للتبرع بالدم، كلّ هذا وريم لا تستطيع أن تتوقف عن البكاء، تخشى على جنينها من أن يصبح أحد الضحايا. 

هاتفت الشابة صديقتها زاهية، غير أنّ الأخيرة كانت فاجعتها أكبر؛ لأنّ منزلها يقع في نقطة أقرب إلى المرفأ، تحطّم منزلها بالكامل، واستقبلت الانفجار على أعصابها ككلّ اللبنانيين، نصحتها الأخيرة أن تمكث في منزلها عملاً بالتعليمات، وألّا تغادره، "هو أكثر أمناً من الخارج على أيّ حال". 

الركام يغطّي المدينة كلها، الشهود في كلّ مكان، كلٌّ يملك جزءاً من الرواية، وكلٌّ يصلح راوياً للحدث كأحد ضحاياه، بات في بيروت نحو مليوني قصة عن يوم مفزع نُكبت فيه المدينة كما لم يحدث من قبل، لكن الأسوأ أنّ الشهود قد لا يقتصرون على من تواجدوا أحياء على الأرض تلك الليلة في تلك البقعة، بل من المرجح أن يمتدّوا لجيل قادم، كانوا محض نطف في بطون أمهاتهم وقت الانفجار. 

والأجنة أيضاً، منهم الأسوأ حظاً ومنهم الأحسن، والأسوأ حظاً هم من كانت أمهاتهم أقرب إلى المرفأ، بحيث تصبح كميّة الغازات المنبعثة أكبر من أن تُقاوم، أو تحدث أضراراً قد تصل إلى تشويهات الأجنّة والعقم. 

اقرأ أيضاً: شاهد.. عروس بيروت تتحدث عمّا حدث عقب الانفجار

يقول الباحث الكيميائي في معهد بحوث البترول في القاهرة عادل إبراهيم لـ"حفريات": إنّ تأثيرات انبعاثات مادة نترات الأمونيوم، التي كانت مخزّنة في المرفأ، بعضها مباشر على من استنشقها مباشرة، حيث تتسبب في اختناق، وقد يصل الأمر إلى الوفاة، غير أنها ذات تأثيرات بعيدة وطويلة الأمد، أخطرها حدوث تشويهات للأجنة، والعقم لدى الرجال والسيدات، فضلاً عن أخطارها المسرطنة، أو تسببها في المدى البعيد بشلل عضلي. 

يشرح إبراهيم: نترات الأمونيوم عبارة عن ملح يأخذ شكل الكرستالات، يُستخدم في الأساس سماداً بنسب معيّنة غير مضرّة، هو عنصر غير موجود في الطبيعة، أي لا بدّ من تصنيعه كيميائياً، ولكي يُحدث انفجاراً لا بدّ أن يكون هذا العنصر هو التكوين الأكبر للمفجّر بنسبة حوالي 95%، والباقي ديزل (وقود) أو TNT (مادة مفجّرة) وعناصر أخرى لتحفيز التفاعل بينها. 

الباحث الكيميائي عادل إبراهيم: قد تُسبّب الغازات الناجمة عن الانفجار تشوّه الأجنّة والعُقم والشلّل العضلي والسرطان

ويضيف: ما حدث في لبنان، سواء كان سوء تخزين أو حريقاً أو قنبلة أو صاروخاً، كلّ ذلك من شأنه أن يتسبب في احتراق نترات الأمونيوم، وعند احتراق كمية كبيرة منه يتسبب بـ "shock wave" وهي السحابة الكبيرة التي رأيناها في بيروت.

وتابع الباحث الكيميائي: ناتج الاحتراق يكون مجموعة أكسيدات، منها أوّل أكسيد الكربون، وهذا  مصيبة في حدّ ذاته؛ لأنه يتحد مع هيموغلوبين الجسم مكوّناً شيئاً يُسمّى "كربوكسي هيموغلوبين"، والذي بسببه يعجز الهيموغلوبين عن تأدية دوره الطبيعي في نقل الأكسجين داخل الجسم، ما يتسبب في تأثيرات على الجهاز العصبي، كما يمكن أن يؤدي إلى الاختناق والموت، وهذا هو التأثير اللحظي لتلك الانبعاثات. 

صورة تظهر سحابة من الانبعاثات السامة عقب الانفجار

ويردف إبراهيم: إنّ المركّب الجديد هذا إذا اتحد مع عناصر أخرى في الجسم فقد يسبب السرطان، وهذا يتوقف على الكمية التي تمّ استنشاقها، لافتاً إلى أنّ احتمالية حدوث السرطان لمن تعرّضوا له لا تتوقف على اعتبارات أخرى، كعمر الشخص، أو سجله الطبي، حيث إنّ تلك المادة التي تتكوّن عند احتراق نترات الأمونيوم هي في ذاتها "مسرطنة". 

وبخصوص العقم وتشوّهات الأجنة يقول: هذا يحدث بسبب النوع الثاني من الأكسيدات التي تتكون نتيجة احتراق نترات الأمونيوم، وهو "النيتريك داى أكسيد"، وهذا المكوّن موجود في البيئة، وينتج عن احتراق الوقود في السيارات، لكنه يوجد بكمية قليلة، فيكون عديم اللون، لكن في انفجار بيروت كان بكميات كبيرة، لذا كوّن السحابة البنيّة الضخمة تلك. 

اقرأ أيضاً: بروفيسور فيزياء يكشف مفاجأة جديدة عن انفجار مرفأ بيروت

يضيف: عند استنشاقه يؤثر على الحويصلات الهوائية ويتسبب بانقباضها، وبالتالي تفقد وظيفتها في نقل الأكسجين، فيسبب الاختناق والموت، أو يتمّ استنشاقه فيقوم بعمل تغيرات في كرات الدم الحمراء "irreversible"، وهو نوع من التغيرات لا يمكن علاجه، وقد يؤدي على المدى الطويل إلى "شلل عضلي". 

ولفت الباحث الكيميائي إلى أنّ تلك المادة الناتجة عن الاحتراق هي ثالث شيء  يؤثر على خصوبة الرجل، عبر التأثير على الخلايا المولدة للحيوانات المنوية، ومن ثمّ يحدث العقم. 

وبالنسبة إلى السيدات، تعمل تلك المادة على تغيرات في الأعضاء التناسلية، عن طريق التسبب في تلف في المبيض، ما يبكّر سنّ اليأس، فبدلاً من حدوثها في عمر 45 يمكن أن تصبح في عمر 20 عاماً، وذلك يتوقف أيضاً على النسب التي تمّ استنشاقها. 

 وحول إمكانية تلافي تلك الآثار يقول: تأثيراتها سريعة للأسف، لكن من الممكن تناول مضادات الأكسدة لكي تقلل من تلك التأثيرات. 

تقول زاهية صديقة ريم: كانت ريم خائفة على حملها من كورونا، الآن لا تدري من أيّ شيء يجب أن تخاف

ويتطرّق الباحث الكيميائي إلى ضرر غير مباشر (على المدى الطويل) عبر تضرّر المياه والمحاصيل الزراعية بتلك المواد، حيث يتحد الأكسيد مع المياه، مكوّناً "حمض النيتريك" أو "الأمطار الحامضية". 

تقول الإعلامية اللبنانية زاهية ناصر لـ"حفريات": سمعنا عن الآثار الصحية لتلك الانبعاثات، لكن من يلتفت وسط كلّ هذا الدمار والنكبة إلى ما يمكن أن تخلفه على صحته غداً، وأيّ مشفى يستطيع أن يستقبل آلاف السيدات الحوامل للاطمئنان على أجنتهن. 

وتوضح: المستشفيات في لبنان تأثرت بشكل كبير، بعضها تضرّرت على نحو مباشر، والأخرى اكتظت بالجرحى، حتى أنها تعجز عن استقبال آخرين من جرحى الانفجار، فكيف الحوامل؟

مستشفى الروم لم يعد مؤهلاً للعناية الطبية، حيث تحطم كثيراً إثر الانفجار، وانقطعت الكهرباء عنه، واستشهد العديد من أفراد الطاقم الطبي، بحسب زاهية. 

وتتابع الإعلامية التي اضطرت إلى ترك منزلها ليلة الانفجار نتيجة آثار التدمير فيه: "الخطر من كلّ النواحي، نحن في صدمة صدقاً، خائفون جداً من الهواء والدخان نتيجة الانفجار، ولن نصمت على ما حدث، اللبنانيون ينادون بالمشانق لكلّ من تسبّب في تلك الكارثة". 

تتذكّر زاهية صديقتها "ريم"، تقول: كانت خائفة في الأصل على حملها من كورونا، الآن لا تدري من أيّ شيء يجب أن تخاف. 

اقرأ أيضاً: هذه قصة أحد الناجين من انفجار مرفأ بيروت... بقي في البحر 30 ساعة

وفيما بدأت الأجواء تهدأ في بيروت قليلاً، والمساعدات بدأت تصل إلى المدينة المنكوبة، وأهلها المعروفون بحيويتهم وحبّهم للحياة ومقاومة الموت والدمار يلملمون آثار عدوان الإهمال والفساد، وتظهر حملات للملمة الحطام من الشوارع كي تعود جميلة، وتجلس سيدة تعزف على البيانو وسط الدمار، في رسالة كسبت رواجاً عبر مواقع التواصل، تعكس تصميماً لدى اللبنانيين على الانتصار، ستظلّ آلاف الأمهات في قلق من أن يستقبلن أطفالاً تشوهوا، وسيظل اللبنانيون يحصون أضرارهم التي قد تظهر فجأة بعد ذلك في صورة أضرار صحية. 

ولن تُمحى بسهولة ذكريات مشهد دوّنه ناشط عبر فيسبوك، كتب يقول: ‏مستشفى الكارنتينا، دقائق بعد الانفجار، 4 أمهات يحملن رُضّعاً، جلسن على الرصيف وعيونهنّ تنظر إلى اللّامكان. اقتربتُ من إحداهنّ فبادرتني بالقول: "هياه نايم متل موعدو كل يوم"، وابتسمت! ‏كان الطفل أزرق ميّتاً. تدلت من رأسه إبرة! ثوانٍ وانفجرت بالبكاء: دقلي لزوجي! لكنها لم تتذكّر الرقم، "#بيروت_منكوبة". 


آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية