كيف حطمت سينما الواقعية الجديدة المحظورات في مصر؟

كيف حطمت سينما الواقعية الجديدة المحظورات في مصر؟


16/11/2019

حتى بداية الثمانينيات كانت السينما في القاهرة، بشكل ما، منبتّة الصلة عن تصوير الواقع المصري، بغضّ النظر عن أعمال المخرج صلاح أبو سيف في الخمسينيات، الذي يعدّ رائد الواقعية المصرية، ومن أفلامه: "شباب امرأة"، و"بين السما والأرض"، و"بداية ونهاية"، و"القاهرة 30"، أيضاً قدّم المخرج كمال الشيخ أفلام: "حياة أو موت"، و"اللص والكلاب"، و"غروب وشروق"، إلى جانب فيلم "باب الحديد"، للمخرج يوسف شاهين.

من بين المخرجين الكبار في السينما المصرية ينفرد محمد خان بمكانة خاصة باعتباره أهمّ مؤسّسي حركة الواقعية الجديدة

بيْد أنّ جيلاً من الشباب قدم أفلامه في الثمانينيات من القرن الماضي، تمكّن من رصد الحياة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية في مصر، بصورة أسّست لموجة جديدة في السينما، أطلق عليها الناقد الراحل، سمير فريد، سينما الواقعية الجديدة، على غرار سينما الواقعية الجديدة في إيطاليا، التي ظهرت نتيجة لحياة الفقر والبطالة التي خيمت عليها بعد انتهاء الحرب، وتميزت هذه المدرسة بالتصوير الخارجي في الشوارع والميادين والأسواق، والابتعاد قدر المستطاع عن التصوير داخل الاستديوهات، التي قد تُفقد العمل الفني مصداقيّته، فكانت في البداية أفلام الواقعية الجديدة أشبه بالأفلام التسجيلية.
بدأ تلك الموجة في مصر، المخرج الراحل محمد خان، وانضمّ له كلّ من عاطف الطيب وداوود عبد السيد، وخيري بشارة، ورأفت الميهي.
 المخرج داوود عبد السيد

محظورات على الشاشة
سينما الواقعية الجديدة في مصر حطمت التابوهات، وتجاوزت كليشيهات السينما، ورصدت الواقع في مصر بصدق شديد، حتى أصبحت كتاب تاريخ مصور عن الحياة في مصر، في العقود الخمسة التي أعقبت ثورة تموز (يوليو) 1952، واستطاع الناقد السينمائي، أحمد شوقي، رصد أفلام تلك الموجة في كتابه "محظورات على الشاشة.. التابو في سينما جيل الثمانينيات"، والصادر عن سلسلة "آفاق السينما" من منشورات وزارة الثقافة المصرية.

اقرأ أيضاً: كيف عالجت الأعمال السينمائية جرائم الشرف؟
تناول شوقي في كتابه، بالرصد والتحليل، سينما داوود عبد السيد، وخان، والطيب، وبشارة، والميهي، منطلقاً من التابوهات الثلاثة: الجنس والدين والسياسة، وكيف حطمت سينما الثمانينيات تلك التابوهات وطوعتها في خدمة الأفلام التي قدمتها، في محاولة لكشف ما الذي حدث في مصر في النصف الثاني من القرن العشرين.

يتّجه عاطف الطيب إلى تفصيل عيوب المجتمع في فيلمَيه "التخشيبة" و"ملف في الآداب" بعد إجمالها في فيلم "سواق الأتوبيس"

البداية كانت مع فيلم "الصعاليك"، للمخرج داوود عبد السيد، وهو أول أعماله الروائية، كتب عنه شوقي: "لم يكن فيلم "الصعاليك"، أول أعمال المخرج داوود عبد السيد الروائية، مجرد تدشين لمشوار صانع أفلام يمتلك لغة سينمائية وعوالم شديدة الخصوصية، أو حتى حدثاً فنياً يستحق التوقف عنده؛ بل إنّ مرور الزمن أثبت أنّه كان أيضاً أشبه بتحليل اجتماعي وسياسي لحقبة مثلت التغير الأكبر في شكل قيم المجتمع المصري والنسق الذي يحكمه، وهي بالطبع المرحلة الانفتاحية التي كان لها نصيب الأسد من العوامل التي أوصلت مجتمعنا المصري لما هو عليه حالياً".
الفيلم يرصد حكاية صعود صلاح (نور الشريف)، ومرسي (محمود عبد العزيز)، اللذين يصعدان السلّم الاجتماعي من أدنى درجاته: "مجرد صعلوكَيْن يعيشان على هامش الحياة، يرتضيان بتهريب صندوق سجائر مستوردة من الميناء، أو بأكلة كباب يهربان قبل دفع ثمنها، ويرافقهما الفيلم في انغماسهما في التجربة الانفتاحية حتى يصلا أعلى السلم الإاجتماعي والسياسي".

اقرأ أيضاً: المخرج كوستا غافراس.. الاحتفاء بالوعي الإنساني سينمائياً
يرصد شوقي ثاني أفلام عبد السيد "البحث عن سيد مرزوق"، للنجم نور الشريف، والذي يمثل شخصية مثقف الطبقة المتوسطة الذي غاب بإرادته أو دونها عن الحراك الاجتماعي الذي شهده المجتمع المصري خلال السبعينيات والثمانينيات، ليعود فيجد خللاً هائلاً في منظومة القيم التي يعرفها، ذلك الغياب الذي رصده عبد السيد في فيلمه الأول "الصعاليك"، وصعود طبقة اجتماعية جديدة بمعايير تمجّد المادة، وتتزاوج مع السلطة، ليكمل في مشروعه السينمائي الثاني "البحث عن سيد مرزوق" ما حققته تلك الطبقة من سيطرة ونفوذ، وعن رسالة الفيلم كتب شوقي: "من الواضح تماماً أنّها رسالة شديدة الثورية، مفادها أنّ السادة يعيثون في الأرض فساداً بدعم ومحاباة وتحيز واضح من السلطة التي تثقلنا بقيود وهمية لا يحتاج التخلص منها سوى اتخاذ القرار المناسب".
أزمة السنوات السّت
تستمر سينما الواقعية الجديدة في محاولة كشف سرّ تلك التحولات التي أصابت الشخصية المصرية، من خلال الأفلام التي قدمها محمد خان، يقول عنه شوقي: "من بين المخرجين الكبار، موضوع دراستنا، ينفرد محمد خان بمكانة خاصة، باعتباره أهم مؤسّسي حركة الواقعية الجديدة، فكان أول من بدأ الإخراج من بين الأسماء الخمسة، وشارك بشكل إيجابي واضح في كثير من أفلام زملائه الآخرين، خاصة عاطف الطيب".

المخرج عاطف الطيب
يتحدّث خان في أفلامه بشكل واضح عن أزمة السنوات الست، عقب نكسة حزيران (يونيو) 1967، ليخرج ذلك الجيل من الجيش بعد حرب 73 ليصطدم بالواقع الجديد الذي انغمست فيه الشخصية المصرية، نرى ذلك في فيلم "الرغبة"، للسيناريست بشير الديك، وفيلم "الثأر" من بطولة محمود ياسين.
يستمرّ خان في أعماله، التي كان البطل فيها هو الشخص وليس الحدث، كما يشير شوقي، بداية من "طائر على الطريق" للفنان أحمد زكي، مروراً بـ "الحريف" للفنان عادل إمام، ثم "موعد على العشاء" للفنانة سعاد حسني، وفيلم "زوجة رجل مهم" للفنان أحمد زكي.

بوستر فيلم: سواق الأتوبيس

سوّاق الأتوبيس
يأخذ عاطف الطيب الخيط من سابقيه، ليقدّم لحظة سينمائية فارقة، في فيلمه "سواق الأتوبيس" للفنان نور الشريف، يقول عنه شوقي: "المجتمع هنا هو عالم نهاية السبعينيات، وفترة ما بعد انتصار أكتوبر ومعاهدة السلام، وهي الحقبة التي تزامنت فيها صدمة شباب عاشوا الحلم القومي، وحاربوا من أجله أهدافاً، ليكتشفوا أنّ انتصارهم كان أول مسمار في نعشها، مع حراك اجتماعي واقتصادي سريع وغريب، غير كلّ المفاهيم والقوانين الحاكمة للعلاقات بين البشر".
يتّجه عاطف الطيب إلى تفصيل عيوب المجتمع في فيلمَيه اللاحقين "التخشيبة"، و"ملف في الآداب"، بعد إجمالها في فيلم "سواق الأتوبيس"، ثم تتوالى أعمال الطيب، الكاشفة لحقيقة المجتمع الجديد الذي نعيشه، في أفلام "الحب فوق هضبة الهرم"، و"البريء"، و"الهروب"، و"ضد الحكومة".

بوستر فيلم: الحب فوق هضبة الهرم
يستمر شوقي في رصد وتحليل سينما موجة الواقعية الجديدة في مصر، من خلال أفلام أخرى قدمها خيري بشارة، ورأفت الميهي، بلورت حقيقة ذلك العالم، الذي خرج من رحم التغييرات الجديدة التي ضربت الشخصية المصرية، عقب حزيران (يونيو) 67، معتبراً إياهم أول موجة سينمائية حقيقية في مصر، ساد فيها المخرج كأب شرعي للفيلم، وتحطّمت على أعتابه التابوهات، التي اهتمّ شوقي برصدها في كتابه، وربطها بلحظات تحوّل العمل الدرامي أولاً، والمشروع السينمائي للمخرجين ككل، على وجه الخصوص تابوه الجنس، ثم الدين والسياسة، مقدّماً عملاً تأريخياً، يحمل دلالات شديدة الأهمية، عن حقيقة الذي حدث للشخصية المصرية في النصف الثاني من القرن العشرين، ذلك السؤال الذي انشغل به كثيرون، وحاولوا تقديم تفسيرات عدة لتلك التحولات، لكن يظلّ أصدقها وأدقّها، ما قدمته سينما الواقعية الجديدة في مصر وأبطالها: خان، وداوود عبد السيد، والطيب، وبشارة، والميهي.



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية