كيف غيّرت كورونا أنماط العيش لدى هؤلاء؟

كيف غيّرت كورونا أنماط العيش لدى هؤلاء؟


23/07/2020

وكأنما كان العالم على موعد واحد مع أزمة كورونا، وتحديداً في منتصف آذار (مارس) من العام الجاري، حين قرّرت معظم الدول تعليق كلّ شيء إلى إشعار آخر: الوظائف والترفيه والسياحة، وحتى الخدمات الصحية، غير تلك المرتبطة بالوباء وتداعياته.

تأثّر اقتصاد الدول برمّتها أيّما تأثر، لكنّ الحياة الشخصية وأنماطها وطبيعتها تأثرت بشكل يكاد يكون أكبر، ليكون الإنسان هو الخاسر الأول والمتضرّر الأبرز، بيد أنّ المعظم لم يستسلم، فراح يجترح نمطاً خاصاً تعايشَ فيه مع تبعات الجائحة.

"حفريات" تلقي أضواء ساطعة على تجارب إنسانية لأفراد تأثرت حيواتهم وأنماط عيشهم ووظائفهم بالجائحة، على أصعدة عدة.

حياة شُلّت بالكامل

تقيم روض الدبس في مدينة فينيتسيا الإيطالية منذ أعوام طوال، برفقة زوجها الجرّاح وأبنائها الذين جمعتهم من المدن الإيطالية المتفرقة عند بدء الأزمة، بما يشبه عمليات الإخلاء، بكلّ ما يحفل به ذلك من رعب من إصابتهم بالعدوى في الوسط الجامعي الذي ينخرطون فيه.

تقيم روض الدبس في مدينة فينيتسيا الإيطالية منذ أعوام طوال

تقول: "تروي لي نادلة في أحد المطاعم، الذي اعتدت زيارته في ساحة سان ماركو المشهورة في فينتسيا، أنّ مالك المطعم اضطر للاستغناء عن معظم العاملين فيه؛ ذلك أنّ مجموع ما يحققه من أرباح في اليوم الواحد حالياً لا يتجاوز مئة يورو".

وتستدرك: "حاولت الحكومة الإيطالية تدارُك شيء من الخسائر، منذ الثالث من أيار (مايو)، من خلال فتح الحدود مع الدول الأوروبية، كما ألغت حجر الـ 14 يوماً الذي كان مفروضاً على من يدخل إيطاليا، وسنّت قانوناً بدعم أفراد العائلات محدودي الدخل في حال أرادوا قضاء عطلة الصيف في داخل إيطاليا، ضمن فنادق محددة وبمساعدة قيمتها 500 يورو، للعائلة التي لا تقل عن ثلاثة أفراد، ورغم هذا فإنّ الكساد يهيمن على كلّ شيء".

رئيس سلطة إقليم البتراء، سليمان الفرجات لـ"حفريات": القطاع السياحي هو أول المتضررين وآخر المتعافين، وتكمن الخطورة في توقف الحجوزات المستقبلية، بعد أن سجلت المملكة حجوزات للعام الجاري والمقبل

ترصد الدبس عدداً من الظواهر الاجتماعية التي كادت تغيب عن المجتمع الإيطالي، ومنها الأعراس داخل المنازل، على حدّ قولها، موضحة: "ما تزال التجمعات ممنوعة، لا يُسمح بتجمّع أكثر من عشرة أشخاص في مكان واحد، وبالتالي؛ فإنّ الأعراس تقام داخل المنازل، وبعدد قليل من أفراد العائلتين"، مردفة: "بل حتى المواعيد الطبية ما تزال مشكلة كبيرة حتى الآن، وإن كانت الحياة داخل المستشفيات قد بدأت تعود لطبيعتها".

خلال أزمة كورونا تمّ تأجيل كلّ شيء، كما تقول الدبس وشمل ذلك "المواعيد والعمليات، وكلّ ما هو غير متعلق بكورونا، النتيجة أنّ لائحة الانتظار الآن باتت طويلة للحصول على موعد طبي، كثيرون يذهبون للعيادات الخاصة باهظة الثمن للحصول على العلاج، الذي ما يزال مرتبكاً بعد كورونا"، لتسوق المثال عن صديقتها الغزية، التي لا تتقن الإيطالية، والتي ذهبت برفقتها للمستشفى لمساعدتها "ليخبرنا الطبيب أنّ الانتظار قد يمتد لعام كامل الآن؛ في ظلّ الظروف التي شهدتها البلاد خلال كورونا".

أكثر ما يؤلم الدبس الآن، رغم محاولتها التجوّل برفقة أبنائها في الطبيعة الإيطالية؛ للتخفيف من الضغوطات التي تزامنت والحجر الطويل، هو عدم قدرتها على زيارة والديها في بيت لحم هذا العام، وتقول: "يحزنني هذا، لم تفتح الحدود، فلسطين تعاني كذلك من كورونا، أهجس بسلامة الجميع؛ عائلتي هنا وعائلتي في بيت لحم، كورونا حِمل ثقيل ألقاه علينا عام 2020".

موسم نتاج

بمجرد أن أعلن الأردن عن تاريخ الحظر الشامل، في منتصف آذار (مارس)، يمّمت الفنانة التشكيلية جمان النمري وجهها شطر مدينة الزرقاء، حيث تقطن عائلتها، فيما مرسمها الذي كانت تقضي فيه جلّ وقتها، والذي يقبع في جبل اللويبدة، في العاصمة عمّان، بات خالياً من الروّاد الصغار الذين كانوا يرتادون حصص الرسم.

الفنانة التشكيلية جمان النمري

اصطحبت النمري معها بعض الألوان والأدوات التي تعينها على ترجمة ما تراه من كارثة إنسانية عالمية إلى عمل فني يخلّد المرحلة، بيد أنّه لم يدر في خلدها أنّها ستخرج بمجموعة كبيرة من اللوحات التي حضر فيها الطفل، الذي تهجس به دوماً، لا سيما عند الكوارث الإنسانية، وتحضر فيه المرأة التي جعلتها شبيهتها تماماً في الوِحدة والقلق، كما تقول.

اصطحبت الفنانة التشكيلية جمان النمري معها بعض الألوان والأدوات التي تعينها على ترجمة ما تراه من كارثة إنسانية عالمية إلى عمل فني يخلّد المرحلة

تضيف النمري، التي تُعرَض لوحاتها المستلهمة من الكورونا في "غاليري نبض" حالياً؛ إنّها لطالما كانت معتادة على البقاء لفترات طويلة مع لوحاتها، منذ كانت في مرسمها في اللويبدة.

ورغم أنها برعت في استثمار الوقت خلال أزمة كورونا، "إلا أنّ قلقاً كبيراً كان يساورني على صحة كلّ مَن أعرف، والأطفال خصوصاً؛ لذلك لم أفطن لحضورهم الكثيف في لوحاتي إلا حين فرغت منها وتأملتها".

تستحضر النمري "المرات الكثيرة التي أنقذها فيها الفنّ من الأزمات الصعبة"، كما تقول، وتوضح "بمجرد أن أبدأ بالرسم والألوان أنفصل عن العالم من حولي، ويتشتّت ذهني تماماً عن الألم والقلق، وهكذا كان الأمر خلال أزمة كورونا، لكن يبدو هذه المرة تحديداً أنّ شيئاً من هذا القلق والهمّ قد تسلّل للوحات، الظرف استثنائي ولم نخبره من قبل".

كمّامات فلسطينية

يقطن عيسى القواسمي البلدة القديمة في القدس، ويحار من يحدّثه في التصنيف الذي ينتمي إليه؛ فهو يلتقط الصور الفوتوغرافية البديعة للبلدة القديمة على مدار العام، آناء الليل وأطراف النهار، كما يعدّ ناشطاً على وسائل التواصل الاجتماعي؛ لنقل كلّ ما يجري داخل القدس بما يفوق وكالات الأنباء في مرات عدة، إضافة إلى إتقانه فنّ التطريز والخياطة ويُطوّع كلّ ما يقع تحت يديه من قماش لثيمة فلسطينية.

عيسى القواسمي

خلال أزمة كورونا، تمكّن القواسمي من صناعة كمّامات فلسطينية بامتياز، وبمحض الصدفة، ويقول: "كلّ شيء كان مشلولاً تماماً في القدس، كنت أجلس وحيداً، وإذ بصديقي، حسام أبو عيشة، يأتي لي من دون كمامة، قمت وصنعت له بسرعة واحدة باستخدام قطعة تطريز موجودة لديّ، ومن هناك انبثقت الفكرة التي لاقت هذا الرواج كلّه".

يكمل القواسمي بأنّ "القدس تضرّرت بشكل بالغ خلال أزمة كورونا، ليس من الجانب السياسي وحده؛ بل وكذلك المعيشي والسياحي أيضاً".

اقرأ أيضاً: رواية "حلم": الرغبات السرية المدفونة في المخيلة

ويوضح: "المرافق السياحية والمحال التجارية والفنادق، كلّ شيء تضرّر بشكل بالغ؛ لا سيّاح، ولا حركة، ومعنويات الناس في النازل".

لكنّ القواسمي يستدرك: "تغمرني الفرحة ويعتريني قليل من الأمل حين يأتي إليّ الناس في القدس القديمة طالبين مني صناعة كمامات مطرزة لهم، أشعر أنهم يريدون تغيير أجواء النكد التي هيمنت على المدينة وعلينا؛ لذلك أصنع هذه الكمامات بكل الحب، لشعبي في القدس وفي كل فلسطين".

آلة القانون تحيي الشجن

في مكناس المغربية، حيث تتألّق آلة القانون الموسيقية، تحديداً لدى جمعية "السنابل الإسماعيلية للموسيقى العصرية والإبداع"، يبدو كلّ شيء متوقفاً تماماً أيضاً؛ لا دورة خامسة لمهرجان القانون الذي شهِد نجاحاً لافتاً في دوراته الأربع الماضية، والتي عُقِدت بشكل متتابع، بإشراف شيخ الطريقة القانونية، إن جاز التعبير، مولاي إدريس الشاهدي الوزاني، ومدير المهرجان يوسف مدني علوي، وغيرهما من رفاق أرادوا تكريس مكناس كعاصمة لآلة القانون عربياً وعالمياً.

مولاي إدريس الشاهدي الوزاني

يقول علوي: "كلّ شيء توقف تماماً منذ بدء الجائحة، كانت الخطة هي استقطاب أسماء عربية وعالمية بارزة في عزف القانون، كنا نتطلّع لتظاهرة فنية جميلة كالتي صنعناها طوال الأعوام السابقة، لكن كان الظرف أكبر من الجميع".

اقرأ أيضاً: الموت يغيّب إلياس فركوح: طيور عمّان تحلق منخفضة

يستدرك علوي بأنّ آلة القانون واحدة من بين آلات موسيقية كثيرة "تملك إحياء الشجن ومناجاته والتخفيف من احتقانه أيضاً"، على حدّ وصفه، موضحاً "الآلات الموسيقية خير رفيق في الأزمات، صحيح أنّ المهرجانات الموسيقية توقفت، ولا أحد يعلم متى يمكن لهذه المهرجانات أن تعود، لكنّك حين تلامس آلة القانون، أو أيّة آلة موسيقية، وتجلس برفقتها، فإنّك تنسى قليلاً من الهمّ في العالم الخارجي، كما أنّ هذه الآلات ستكون رفيقة وحدتك، حين ينفضّ الرفاق من حولك لسبب أو لآخر"، مكملاً: "ومَن يعلم! فقد تجود قريحتك بمقطوعة موسيقية جديدة أيضاً، فيما أنت منعزل عن العالم وعن الضجيج وصخب الحياة اليومية".

البتراء وحيدة

كان رئيس سلطة إقليم البتراء، سليمان الفرجات، ينظر بقلق، طوال أزمة كورونا، لما ستؤول إليه الأمور في المدينة الوردية التي اتخذت مكانة لها من بين عجائب الدنيا السبع.

يقول: "بعد أن ارتفع مجموع الدخل السياحي في الأردن، عام 2019، بنسبة 25% عن عام 2017، أي من دخل بَلَغَ 3.293 مليار دينار إلى 4.108 مليار دينار، وارتفع عدد العاملين في مختلف الأنشطة السياحية بنسبة 4.1% بين العامين نفسهما، ليصل إلى أكثر من 53 ألف شخص، فإنّنا كنا ننظر خلال أزمة كورونا لكلّ شيء يُشلّ تماماً، دون أن نعلم أفقاً زمنياً لهذه الجائحة".

اقرأ أيضاً: مغربيون: هدم مقهى الأوداية في الرباط إعدام للثقافة

ورغم أنّ البتراء تحاول الوقوف على قدميها مجدداً عقب الضرر الذي ألمّ بالقطاع السياحي في الأردن، كباقي دول العالم؛ فإنّ نبرة القلق لا تكاد تختفي من صوت الفرجات؛ إذ يقول: "القطاع السياحي هو أول المتضررين وآخر المتعافين، وتكمن الخطورة في توقف الحجوزات المستقبلية، بعد أن سجلت المملكة حجوزات سياحية جيدة على مدى أشهر العام الجاري والعام المقبل 2021 ، إضافة إلى توقف الطلب على البرامج السياحية، وهو ما سينعكس بالمحصلة على جميع مزوّدي الخدمات السياحية، البطالة تلوح في الأفق، ويبدو أنّ كثيرين سيبحثون عن مصدر دخل آخر عوضاً عن السياحة، بعد كلّ هذا الضرر الحاصل".

البتراء تحاول الوقوف على قدميها مجدداً عقب الضرر الذي ألمّ بالقطاع السياحي في الأردن،

يضيف الفرجات: "إغلاق المعابر الحدودية، البرية والبحرية والجوية، كإجراء احترازي في وجه كورونا، كان سابقة عالمية وليس محلية فحسب؛ كلّ شيء كان يشهد نمواً متزايداً في الإقبال والأرقام والخدمات، حتى منتصف آذار (مارس)، لكن كأنما توقّف العالم عن الحركة فجأة ومن دون سابق إنذار"، مكملاً: "لكنّ الأردن استطاع من خلال الإجراءات هذه، على قسوتها الاقتصادية والنفسية، أن يعبر نحو برّ الأمان، وما السيطرة على الأرقام التي نشهدها حالياً سوى دليل على حسن إدارة الأزمة، رغم الأثمان الباهظة التي دفعناها جميعاً".

اقرأ أيضاً: 48 عاماً على اغتيال الأديب الفلسطيني غسان كنفاني

لا ينفكّ الفرجات يردّد أنّ البتراء هذا العام أغلقت أبوابها في وجه السيّاح "رغماً عنها"، مكملاً "كانت تلك أهم ثلاثة أشهر خلال العام، لكنّ الأمر خارج عن اليد تماماً، كانت البتراء وحيدة في تلك الأشهر، لكنني أنظر بعين الأمل لما هو قادم، وإن كان نصب عينيّ سيناريوهين:

الأول: سيناريو متفائل قد تخسر فيه البتراء كلّ صافي المقبوضات السياحية حتى نهاية شهر آب (أغسطس)، ويعود بعض الدخل السياحي في كانون الأول (ديسمبر) وشباط (فبراير) من العام المقبل 40% من مستوى 2019، ويعود لينمو في أشهر تشرين الأول (أكتوبر) وتشرين الثاني (نوفمبر) وكانون الأول (ديسمبر) 2021 بزيادة 30% عن مستوى 2019، وفي هذا السيناريو المتفائل سيقلّ صافي المقبوضات السياحية بشكل كبير جداً عن مستوى 2019".

اقرأ أيضاً: ماذا قال مثقفون عرب لـ"حفريات" بخصوص الابنة غير الشرعية لمحمود درويش؟

 وأما في السيناريو المتشائم، "فلربما نخسر كلّ الموسم السياحي لباقي العام لينخفض صافي المقبوضات السياحية بشكل حادّ عن مستوى 2019؛ ذلك أنّ البتراء تعوّل على السياحة الخارجية، لا الداخلية، نظراً إلى تدنّي منسوب دخل الفرد الأردني ولعدم إيلائه اهتماماً كبيراً للأنشطة الترفيهية والسياحية".



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية