كيف غيّر التدخل التركي في سوريا المشهد؟

كيف غيّر التدخل التركي في سوريا المشهد؟


30/12/2019

ترجمة: علي نوار


كان للعملية التركية في شمال سوريا نتائج عميقة من الناحية الاستراتيجية. فمن جانب، تمكّنت تركيا من تحقيق أهدافها جزئياً فيما يتعلّق بالأمن، عن طريق الحدّ من القدرات العملياتية لـ "وحدات حماية الشعب" و"حزب الاتحاد الديمقراطي" الكرديين، ما أدّى لتدهور العلاقات مع الولايات المتحدة. والأخيرة تعرّضت مصداقيتها في المنطقة للانتقاص بصورة كبيرة للغاية، فيما سنحت لكل من روسيا ونظام الرئيس السوري بشار الأسد، اللذين عزّزا مواقعهما بقوة، فرصاً جديدة لتأكيد نفوذهما.

تبعات التدخل التركي في الحرب على داعش دفعت الدول الأوروبية لاتخاذ موقف مناهض لـ"نبع السلام"‎

ففي التاسع من تشرين الأول (أكتوبر) الماضي، عبر الجيش التركي الحدود السورية ليبدأ بذلك عملية أطلق عليها "نبع السلام". كان لهذه العملية هدف مزدوج؛ أولاً إقامة منطقة آمنة بعمق 30 كلم على الأقل بطول الحدود تخلو من أي وجود لمقاتلي "وحدات حماية الشعب" وهي الميليشيا التابعة لـ "حزب الاتحاد الديمقراطي"، الفرع السوري من حزب العمال الكردستاني التركي. لا تخفى الصلات بين حزب العمال الكردستاني في تركيا وحزب الاتحاد الديمقراطي في سوريا على أحد، لذا فإنّ الأخير بالنسبة لتركيا وبكل بساطة "منظمة إرهابية" يجب مواجهتها. وكان بتر الروابط الجغرافية بين الحزبين على جانبي الحدود هدفاً رئيساً للعمليات العسكرية والأمنية التي شنّتها تركيا ضد حزب العمال الكردستاني على أراضيها.

أما الهدف الثاني، فقد تبيّن من إعلان الحكومة نيّتها إنشاء هذه المنطقة بغرض إعادة توطين ثلاثة ملايين و600 ألف لاجئ سوري تستضيفهم أنقرة على أراضيها. لا سيما وأنّ هذا الوضع يعني حملاً كبيراً على اقتصاد تركيا، علاوة على وجود عقبات في عملية الاندماج وتهديدات للأمن الداخلي التركي. كما أنّ تصاعد الضغط من الداخل أسهم في بلورة خطة إقامة مناطق آمنة على الأراضي السورية لإعادة اللاجئين، بحيث باتت أولوية قصوى بالنسبة للسلطات التركية.

اقرأ أيضاً: من هم رجال تركيا في سوريا؟

وبعد مرور شهرين من بدء الحملة العسكرية التركية، ظهرت بعض العوامل التي تسمح بتكوين تصوّر حول نتائجها. فما الذي حدث منذ ذلك الحين؟ هل تحقّقت هذه الأهداف؟ والأهم؛ كيف تغيّر الوضع الاستراتيجي في سوريا؟ هذه هي الخطوط العريضة التي يتطرّق لها هذا التحليل.

سمح الدور العسكري والدبلوماسي المزدوج لروسيا بتقرير مواقيت وبنود ووتيرة تقدّم المفاوضات حول مستقبل سوريا

وفي الحقيقة فإنّ الموقف على الأرض في سوريا غاية في التعقيد، كما أنّ الكثير من الأمور جرت وكان لها تأثير استراتيجي منذ ذلك الوقت.

1- إذا كانت الولايات المتحدة قادرة في مناسبات سابقة على إثناء تركيا عن شنّ عمليات عسكرية أحادية الجانب، فإنّ إعلان الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، الانسحاب من سوريا بعد محادثة هاتفية مع نظيره التركي، رجب طيب أردوغان، في السادس من تشرين الأول (أكتوبر) الماضي، تمّت ترجمته على أنّه مؤشّر لا لبس فيه على وجود اتفاق ضمني حول تنفيذ العملية. وبالفعل عبرت القوات التركية الحدودية بين منطقتي تل أبيض ورأس العين، فور بدء القوات الأمريكية انسحابها، وبعد قصف عنيف.

2- نفّذت القوات المسلحة التركية العملية بالتعاون مع فصيل "الجيش الوطني السوري" الذي تشكّل في كانون الأول (ديسمبر) من عام 2017 وكان نواته الجيش السوري الحر. ووفقاً لحصيلة الضحايا (11 قتيلاً في صفوف الجيش التركي و224 قتيلاً من الجيش الوطني السوري)، يتّضح أنّ ثقل العمليات كان يقع على كاهل الجيش الوطني السوري.

اقرأ أيضاً: التغلغل الثقافي الإيراني في سوريا ليس الوحيد لكنه الأخطر

3- كان سير العمليات بالنسبة للقوات التركية يسير على ما يرام؛ حيث نجحت خلال أقل من أسبوع في الوصول للطريق الرابط بين شرق وغرب سوريا الموازي للحدود التركية وعلى مسافة 30 كلم. إلا أنّ الضغط الدولي المكثّف أدّى لتقليص فترة العملية، وبالتالي المكاسب من حيث مساحة الأراضي التي أمكن السيطرة عليها. وقد أعرب الزعماء الأوروبيون جميعاً تقريباً عن إدانتهم للعملية التركية، وكانت المفاجأة الأكبر في تبنّي الإدارة الأمريكية للموقف الرافض ذاته على خلفية انتقادات حادة من الكونغرس، ما أجبر ترامب على التراجع عن قراره وتوقيع مرسوم تنفيذي بفرض عقوبات على أفراد في الحكومة التركية طالما استمرّت العملية العسكرية في شمال سوريا.

4- وفي إطار جهود دبلوماسية مضنية، نجح نائب الرئيس الأمريكي مايك بينس أثناء تواجده بأنقرة يوم 17 تشرين الأول (أكتوبر) في إبرام اتفاق لوقف إطلاق النار يتضمّن إنشاء منطقة آمنة لا وجود فيها لعناصر "وحدات حماية الشعب". وكان اللافت للانتباه أنّ الاتفاق يذكر هذه الميليشيا الكردية بشكل مباشر وليس تحالف "قوات سوريا الديمقراطية". كانت نتيجة هذا الاتفاق هدنة مبدئية لمدة 120 ساعة أمكن تمديدها لوقت غير محدّد بعد تأكيد واشنطن في 22 تشرين الأول (أكتوبر) انسحاب عناصر "وحدات حماية الشعب" من المنطقة المتفق عليها. وبموجب الاتفاق، لم تطبّق الولايات المتحدة العقوبات التي كانت قد هدّدت بتوقيعها.

اقرأ أيضاً: الأطفال في إيران وسوريا وقود لأيديولوجيا الحرس الثوري

5- تخلّت الولايات المتحدة في المرحلة الأولى من العملية عن مواقع عسكرية بعينها قريبة من المنطقة المحاذية للحدود، رغم أنّها عاودت استرداد بعضها لاحقاً. واحتفظت الإدارة الأمريكية بوجود عسكري في هذه المواقع على الأراضي السورية حيث كانت تسيطر منها على آبار النفط والغاز. لكن خفض قوام القوات المسلحة- وليس الانسحاب الكامل- تمّ في مطلع كانون الأول (ديسمبر) الجاري، بحيث ظل ما يقرب من 600 عسكري أمريكي على الأراضي السورية. ومرة أخرى لم يحدث الانسحاب ما يعني بكل جلاء استمرار مصالح الولايات المتحدة واهتمامها بموارد الطاقة في سوريا.

من المتوقّع أن تحتفظ إيران بوجودها في سوريا وبنفس الظروف التي تتواجد بها حالياً وتحاول تعزيزها

6- لم تقف روسيا موقف المتفرّج إزاء هذه الأحداث. فبالتزامن مع الانسحاب الأمريكي، سهّلت روسيا المفاوضات من أجل اتفاق بين "وحدات حماية الشعب" و"حزب الاتحاد الديمقراطي" من جانب والنظام من جانب آخر، الأمر الذي نتج عنه تمكين القوات الحكومية السورية وبالتنسيق مع القوات الروسية من السيطرة على طرق المواصلات والمواقع الاستراتيجية التي كانت في قبضة "قوات سوريا الديمقراطية" بما فيها نقاط على الحدود التركية-السورية إلى جهتي الشرق والغرب من المنطقة التي عملت فيها تركيا. لا تزال تفاصيل هذا الاتفاق غير معروفة، لكن النتيجة كانت دخول القوات الروسية والسورية إلى مواقع كانت تحتلّها القوات الأمريكية بدون مقاومة. وخلال هذه العملية، أجرت القوات الأمريكية اتصالات مع نظيرتيها الروسية والسورية بحيث تسنّى تلافي وقوع أي حوادث.

اقرأ أيضاً: "حفريات" توثّق عمليات مصادرة ممتلكات الأكراد في سوريا وسرقة أعضائهم في أنقرة

7- وعلى التوازي مع النشاط الدبلوماسي الأمريكي، وفي 22 تشرين الأول (أكتوبر) أيضاً التقى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بمجمّع سوتشي نظيره التركي رجب طيب أردوغان ليوقّعا اتفاقاً يضمن بقاء القوات التركية بالمنطقة الواقعة بين تل أبيض ورأس العين بعمق 32 كلم. وتتأكّد القوات الروسية من انسحاب "وحدات حماية الشعب" لمسافة 30 كلم من باقي الشريط الحدودي حيث ستسيّر دوريات مشتركة روسية-تركية في قطاع عمقه خمسة كلم. ويعدّ هذا الاتفاق إزالة للغبار عن اتفاقية أضنة الموقّعة عام 1998 بين الحكومتين التركية والسورية للتنسيق للحرب ضد حزب العمال الكردستاني والتي أسهمت وقتها في طرد زعيم الحزب عبد الله أوجلان من سوريا. وقد دعت روسيا في الأشهر الأخيرة لإعادة تفعيل هذه الاتفاقية كأساس للتعاون في مجال مكافحة الإرهاب بين البلدين.

8- لكن من حيث السيطرة على الأراضي بالنسبة لكل من أطراف النزاع فلا يزال الوضع كما هو دون أي تعديلات. لكن ذلك لا يحول دول نشوب مناوشات واشتباكات مسلّحة بين "وحدات حماية الشعب" والقوات التركية والميليشيا الموالية لها. بل ووصل الأمر في إحدى المرات لاشتباك بين قوات نظام دمشق في مواقعها الجديدة وعناصر "الجيش الوطني السوري".

9- كانت هناك تخوّفات في بداية العملية التركية من حدوث فرار جماعي لأسرى تنظيم "داعش" السجناء بمراكز احتجاز تديرها "وحدات حماية الشعب". إلا أنّه ورغم وقوع بعض الحالات، بيد أنّ الرقم أقل بكثير مما كان مقدّراً في البداية. وقد ألمح ترامب خلال مؤتمر صحفي عقب الاتفاق بين تركيا والولايات المتحدة إلى عدد محدود للغاية من الحالات الموّثقة، وأغلب من نجح في الفرار أمكن القبض عليه مرة أخرى.

اقرأ أيضاً: تقرير: طموحات تركيا في سوريا خير دليل على اتباع أردوغان النهج العثماني للتغيير العرقي

10- وفي خضمّ التوتّر في العلاقات بين البلدين، استقبل الرئيس ترامب يوم 13 تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي في واشنطن الرئيس أردوغان. وأعرب رئيس الولايات المتحدة خلال الاجتماع- الذي كانت سوريا أحد الملفات التي جرى التطرّق لها خلاله- عن دعمه الصريح لأردوغان في تدخّله على الأراضي السورية. لكن الكونغرس بمجلسيه- النواب والشيوخ- هدّدا عن طريق مبادرات تشريعية بفرض عقوبات لا تستهدف فقط الإضرار بالاقتصاد التركي، بل الممتلكات الشخصية لأفراد في الحكومة التركية، بما فيهم الرئيس أردوغان. ودفع ذلك الخارجية التركية للتصريح بأنّه حال تطبيق العقوبات، فإنّ أنقرة قد تطرد القوات الأمريكية المتمركزة في قاعدة أنجرليك على أراضيها والتي تخزّن فيها القوات الأمريكية أسلحة نووية.

اقرأ أيضاً: "اللاعبون الكبار" في سوريا.. بين سيناريوهات التعاون والاصطدام

وبعيداً عن هذا المشهد الجغرافي، لا تزال الحرب جارية في باقي أرجاء البلاد. وإثر فترة توقّف نتيجة التدخل التركي، أدّى استقرار الوضع للسماح لقوات نظام دمشق- مستندة إلى الدعم الروسي- باستئناف وبقوة العمليات ضد بؤر المقاومة في محافظة إدلب شمال غربي سوريا. وكانت هذه المنطقة تحديداً قد شهدت في 26 تشرين الأول (أكتوبر) الماضي مقتل زعيم "داعش" أبو بكر البغدادي على يد القوات الأمريكية. ورغم عدم الكشف عن كثير من تفاصيل العملية، لكن يُعتقد أنّ تركيا شاركت فيها. ونالت تركيا- إضافة إلى روسيا وسوريا والعراق- إطراء الرئيس ترامب أثناء مؤتمر صحفي عقد في أعقاب العملية المذكورة.

وتفضي الاعتبارات السالف ذكرها لطرح تساؤل ألا وهو: هل تحقّقت الأهداف المنشودة؟

جزئياً، لم تمكن إقامة المنطقة الآمنة بطول الحدود، لكن الضمانات المُقدّمة سواء من جانب الولايات المتحدة أو روسيا لها نفس الأثر. وطالما تُحترم الاتفاقات، ويبدو أنّ هذا هو ما يحدث. لا يمكن لتركيا ادّعاء تحقيق أهدافها بنسبة 100%، بيد أنّ النتيجة النهائية مُرضية إلى حدّ بعيد. ومع الأخذ في الاعتبار السيطرة التي كانت تمارسها أنقرة في المنطقة الغربية نتيجة لعمليات سابقة، فإنّ "نبع السلام" أسهمت في تعزيز هذا النفوذ لأكثر من نصف الحدود البالغ طولها 911 كلم. كما أنّ تطلّعات "وحدات حماية الشعب" و"حزب الاتحاد الديمقراطي" بإنشاء إدارة مستقلّة أو على الأقل الحصول على الحكم الذاتي في شمال شرقي سوريا تضرّرت بصورة بليغة وربما بشكل لا يمكن إصلاحه. وفوق كل ذلك، أبرزت السلطات التركية أنّها تمكّنت من الوصول إلى جزء كبير من ترسانة "وحدات حماية الشعب"، وفي حال تأكّد هذا الأمر، فإنّه يمثّل ضربة قاصمة لقدرات هذه الميليشيا العملياتية.

اقرأ أيضاً: هكذا تضامن السوريون مع الثورة اللبنانية: قادمون لاستنشاق الحرية

لكن إن كانت نتائج العمليات العسكرية إيجابية بشكل عام، فإنّ الأمر ذاته لا ينطبق على الجبهة الإعلامية. فبنيّة كسب تأييد المجتمع الدولي، لا سيما الدول الأعضاء في حلف شمال الأطلسي "ناتو" والاتحاد الأوروبي، وضعت الحكومة التركية ونفّذت حملة إعلامية استراتيجية شاملة في محاولة لتوضيح دوافعها، بيد أنّ نتائج الحملة لم تكن على النحو المنشود.

وبعيداً عن التقبّل- الذي لا يعني بالضرورة التأييد- الروسي، والأمريكي بصورة جزئية- فقط من قبل الرئيس-، فإنّ الدعم من جانب المجتمع الدولي كان متواضعاً للغاية. فقد دعت الصين منذ البداية للهدوء، بينما أعلنت الدول الأوروبية باستثناء المجر استهجانها ورفضها للعملية، مع فرض قيود على صادرات الأسلحة والمعدّات العسكرية التي قد يجري استخدامها في النزاع.

وتتباين الأسباب التي دفعت الدول الأوروبية لاتّخاذ هذا الموقف المناهض لعملية "نبع السلام". لكن العامل الرئيس بصورة عامة كان تبعات التدخّل التركي على الحرب ضد "داعش" والتي كانت أبرز مصادر الانتقادات، رغم أنّ سير الأحداث لاحقاً أثبت عدم صحّة هذه المخاوف. لكن الأمر الذي لا يوجد ثمة شكّ فيه، هو أنّ ترحيل مقاتلي "داعش" المنحدرين من أصول أوروبية والمحبوسين بالسجون التركية أو معسكرات الاعتقال في سوريا إلى بلدانهم الأصلية كان مبعثاً لاحتكاك جديد بين تركيا وبعض دول الاتحاد الأوروبي.

اقرأ أيضاً: "حفريات" توثّق الانتهاكات التركية في سوريا: اعتقالات عشوائية وتحويل المدارس إلى سجون

كما أنّ أسباباً إنسانية، مثل موجة اللاجئين والنازحين المحتملة جراء العملية العسكرية وتداعيات ذلك على القارة الأوروبية، كانت إحدى الدوافع التي عُبّر عنها في أكثر من مناسبة، لكن وكما حدث في المرّة السابقة، لم تجد التخوّفات المبدئية أي سند بالأرقام لها. كذلك لا يمكن استبعاد التبعات السلبية للعملية التركية على المصالح الخاصة بموارد الطاقة بالنسبة لبعض الدول الأوروبية وفي مقدّمتها فرنسا وبريطانيا، وهو ما كان أبرز مسوغات الرفض الأوروبي. وكانت حكومات معدودة جداً هي التي تفهّمت أو حتى استوعبت الاعتبارات الأمنية التي أجبرت تركيا على التحرّك بهذه الطريقة، لتصبح وحيدة عملياً.

سعت الدبلوماسية التركية، وخصوصاً رئيس البلاد، لكسر حالة العزلة هذه أثناء قمة الناتو الأخيرة في لندن يومي الثالث والرابع من كانون الأول (ديسمبر)، حيث عقد على هامشها اجتماع رباعي مع زعماء كل من فرنسا وألمانيا وبريطانيا. وتعهّد الرباعي باللقاء لمرّة على الأقل سنويًا للتباحث بشأن سوريا، على أن تُعقد أولى القمم في شباط (فبراير) 2020 باسطنبول. ولكن رغم كل هذه الجهود لم يتحقّق سوى القليل. فقد كانت تركيا تتطلّع لإدراج كل من "وحدات حماية الشعب" و"حزب الاتحاد الديمقراطي" كمنظمات إرهابية بداعي وجود علاقات لهما مع حزب العمال الكردستاني التركي، بيد أنّ الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي يرفضان اتخاذ هذا الإجراء. لكن وكما أقرّ وزير الدفاع التركي خلوصي آكار بنفسه خلال تصريحات لاحقة، فإنّ الجهود التركية فشلت في بلوغ الأهداف في هذا الصدد كذلك.

إلّا أنّه وعلى الرغم من كل ذلك، فإنّ المعايير التي يُحتكم إليها لتقييم تصرّف الدول في منطقة مثل الشرق الأوسط- حيث القوة هي اللغة المسُتعملة- لا تتوافق مع مثيلتها الغربية. ففي مقال رأي نشرته صحيفة "وولستريت جورنال"، أكّد الرئيس التركي أنّ "تركيا وصلت إلى الحافة، ونظراً لعدم تحرّك المجتمع الدولي، فقد قرّرت تركيا تطبيق مخطّطها الخاص في شمال سوريا". وبكل تأكيد كان إصرار أنقرة على التحرّك بشكل أحادي لحماية مصالحها الرئيسة رسالة قوية جابت أرجاء المنطقة.

أما على مستوى الجبهة الداخلية، فالوضع يختلف كلّية. فطبقاً لاستطلاعات الرأي، كان الدعم الشعبي للعملية العسكرية كاسحاً سواء بين مؤيدي الحزب الحاكم أو تيارات المعارضة. لكن ذلك لم يرفع من شعبية أردوغان ذاتها، ورغم أنّها شهدت ازدياداً طفيفاً، لكنّها لا تصل لمستويات مرتفعة للغاية حدثت في مناسبات سابقة مثل محاولة الانقلاب العسكري الفاشلة في تموز (يوليو) 2016، وقبلها في عام 2014.

اقرأ أيضاً: العملية التركية في سوريا: هل ارتكب حلفاء تركيا جرائم حرب ضد الأكراد؟

بينما يبدو الهدف الثاني من العملية، وهو إعادة توطين جزء من ثلاثة ملايين و600 ألف لاجئ تؤويهم تركيا على أراضيها، أصعب بكثير من حيث القابلة للتحقيق. ويُعزى ذلك في المقام الأول إلى أنّ هذا الأمر يتطلّب وجود إرادة لدى اللاجئين أنفسهم. وإذا كانت عودة أبناء المنطقة ممكنة، فإنّ الشيء ذاته لا ينطبق على إعادة توطين قطاع من اللاجئين كان يعيش بمناطق أخرى من سوريا، ولا يمكن ترحيلهم سوى بالقوة.

العامل الآخر وراء صعوبة إعادة توطين اللاجئين، سواء بصورة طوعية أو قسرية، هو أنّ هذه العملية تستلزم إعادة تشييد البنية التحتية كي تتوفّر المنطقة على الظروف الدنيا كي تكون صالحة للسكنى. وفي المنطقة التي يسيطر على الجيش التركي وحدها تتطلّب إعادة الإعمار 27 مليار دولار، وهو المبلغ الذي يرتفع إلى 400 مليار دولار إذا أشرنا إلى إعادة إعمار سوريا بالكامل. ورغم إعلان تركيا أثناء قمة الناتو الأخيرة عزمها الدعوة لمؤتمر دولي للمانحين من أجل هذا الملف، إلّا أنّ شيئاً لم يحدث في هذا الصدد.

اقرأ أيضاً: ما هي عواقب العدوان التركي على سوريا؟

ومن المؤكّد أنّ إعادة الإعمار لا يمكن تنفيذها بالجهود السورية الوطنية وحدها بل بمشاركة المجتمع الدولي، لا سيما دول الغرب، فيما أبرز الاتحاد الأوروبي بشكل قاطع أنّه لن ينخرط في هذه العملية بينما لا يشهد التحوّل السياسي في سوريا أي تقدّم.

كيف تغيّر المشهد الاستراتيجي في سوريا؟

كانت عملية "نبع السلام" زلزالاً لا تزال توابعه حاضرة في الإقليم بالكامل. وبتنفيذها، تعاملت تركيا جزئياً مع مخاوفها الأمنية، حاصلة على دعم رئيسي من الولايات المتحدة وروسيا لتمديد وجودها في شمال سوريا، وفوق كل ذلك الخروج بتعهّدات تقضي بإبعاد "وحدات حماية الشعب" و"وحدات حماية الشعب" الكرديين عن حدودها. وهذا ليس بالأمر الهيّن.
لكن على الرغم من كل ذلك، فإنّ نجاح العملية ليس تاماً. فرغم توجيه ضربة قوية للعلاقة الخاصة بين الولايات المتحدة والفصيلين الكرديين السوريين، والتي كانت تستهدفها "نبع السلام" على وجه الخصوص، إلّا أنّه لا يمكن اعتبار تلك العلاقة انفكّ وثاقها نهائياً. كما أنّ تركيا لم تستطع التخلّص بالكامل من شبح العقوبات الإضافية من جانب مجلسي النواب والشيوخ الأمريكيين، ما يضفي على العلاقات بين أنقرة وواشنطن توتّراً إضافياً. وجاء الردّ التركي متمثّلاً في التلويح بطرد القوات الأمريكية من قاعدة أنجرليك، وهو ما يقود نحو فصل جديد من التوتّر الحاد سيؤثّر بشكل كبير على العلاقات الثنائية بالقطع. أما على الصعيد الأوروبي، فقد فشلت تركيا كذلك في تلطيف العلاقات مع دول الاتحاد الأوروبي بل وأضافت مزيداً من التعقيد إلى العلاقات الشائكة بالأساس.

اقرأ أيضاً: أردوغان ومشروع الجيب الإخواني شمال سوريا

بالمثل، بدا واضحاً عجز الولايات المتحدة مرة أخرى عن صياغة وتفعيل استراتيجية متماسكة في المنطقة. ويرجع ذلك في جزء كبير منه إلى الخلافات المستمرة بين ترامب والسلطة التشريعية. وفي تصريحات أدلى بها عقب توقيع الاتفاق مع تركيا، كشف الرئيس الأمريكي عما يمكن اعتباره "مذهب ترامب" حين أكّد "ينبغي علينا الدفع بالقوات المسلّحة إلى جبهات القتال حين تتعرّض مصالحنا القومية العليا للتهديد وعندما نكون بصدد هدف واضح، وخطّة تقود نحو النصر واستراتيجية للخروج. ليس منوطاً بقواتنا العسكرية أن تلعب دور شرطي العالم".

اقرأ أيضاً: غزوة "نبع السلام" ومخاطرها الكبرى على سوريا وكُردها

ويتضمن ذلك انتقاداً لسياسات الإدارات الأمريكية السابقة التي يعتبر ترامب أنّها أدخلت الولايات المتحدة في طريق مسدود. وفي الوقت الحالي صار احتواء إيران أولوية قصوى بالنسبة لواشنطن على الصعيد الإقليمي، لذا فإنّ الأمر لا يتطلّب فقط إطلاق الموارد العسكرية، بل وأيضاً التزامات قد تكون متضاربة مثل التحالف مع الميليشيات الكردية. وجدير بالذكر أنّ التعاون مع تركيا في السياق الحالي سيكون أكثر منفعة. وبالتالي من المحتمل أن توجّه الموارد إلى مناطق أخرى من الشرق الأوسط مثل الخليج، وأقاليم أخرى صعدت إلى قمة الأولويات الأمريكية وخاصة منطقة آسيا-المحيط الهادئ حيث تسعى واشنطن لوقف النمو المطّرد في القوة العسكرية الصينية.

اقرأ أيضاً: العدوان التركي والمقاتلون الأجانب.. تعرف إلى أخطر مخيمات داعش بسوريا

لكن الأصوات الرافضة من داخل الإدارة الأمريكية لإجراء تغييرات جذرية ليست بقليلة. وربما هذا هو السبب وراء عدم تحقّق الانسحاب بعد الإعلان عنه. فقد برزت السيطرة على موارد الطاقة كعنصر رئيس وراء التراجع عن الانسحاب في اللحظة الأخيرة. وهو ما عنى بالطبّع حججاً إضافية في جعبة هؤلاء الذين يشكّكون منذ فترة في مشروعية الوجود الأمريكي في البلد العربي.

لقد أصبحت الولايات المتحدة بحاجة لإعادة تعريف أهدافها في سوريا وتحديد الوضع النهائي الذي تتطلّع إليه بعد توقّف العمليات العسكرية. ومن بين هذه الملفّات يبرز القضاء على الجماعات الإرهابية، إضافة إلى "داعش"، التي تهدّد باستمرار أو حتى تؤدّي لتعزيز المواقع الأمريكية في شمال غربي سوريا وتحديداً بمحافظة إدلب التي تنتشر بها تنظيمات متفرّعة من تنظيم القاعدة.

لم يعن الانسحاب الأمريكي من شمال سوريا هزيمة نهائية للأكراد، لكن موقفهم وقدرتهم على التأثير تراجعت بصورة كبيرة. ومرّة أخرى استغلّت روسيا هذا الوضع لتؤكّد دورها كفاعل لا غنى عنه. فمن جانب، تمكّنت من إبرام اتفاق مع نظام الأسد و"وحدات حماية الشعب" يمهّد الطريق أمام مد نظام الأسد نفوذه لاحقاً على كامل الأراضي السورية، الشيء الذي بدا الأسد غير مستعد للتخلّي عنه. وعلى الجانب الآخر، ظهرت روسيا كطوق نجاة لـ"وحدات حماية الشعب". فقد أصبح مستقبل هذا الفصيل الكردي يعتمد كلّية على روسيا بوصفها الوسيط الوحيد القادر على ضمان قدر أدنى من الاستقلالية في بعض المناطق بسوريا، حتى لو كانت تقلّ مساحة عن الأراضي التي كانت تسيطر عليها "وحدات حماية الشعب" قبل التدخّل التركي المدعوم أمريكياً. بيد أنّه يتعيّن على روسيا كذلك إدارة الوضع بتأنّ والحدّ من امتداد نفوذ أكراد سوريا لما يخرج عن المقبول بالنسبة لتركيا، والحفاظ بالتالي على علاقة مميّزة مع أنقرة بُنيت خلال الأعوام الأخيرة رغم أنّها لا تخلو من العثرات.

اقرأ أيضاً: العدوان التركي على سوريا: النتائج المتوقعة وأبرز الخاسرين

سمح الدور العسكري والدبلوماسي المزدوج لروسيا ليس فقط بالتأثير على الأوضاع على الأرض، بل تقرير مواقيت وبنود ووتيرة تقدّم المفاوضات حول مستقبل سوريا. وأثمر ذلك عمّا يُعرف باسم "عملية أستانة" التي شاركت فيها تركيا وإيران وكذلك ممثّلون عن النظام والمعارضة السورية، والتي تمخّضت مؤخراً عن تشكيل لجنة دستورية من 150 عضواً ستعمل على صياغة الدستور الجديد لسوريا. وبالتالي تراجعت الولايات المتحدة والدول الأوروبية كي تكتفي بدور الشاهد.

وعُقد الاجتماع الأول للجنة في 30 تشرين الأول (أكتوبر) بجنيف، تحت رعاية الأمم المتحدة، وبدأ العمل الفعلي في 20 تشرين الثاني (نوفمبر) الذي أعقبه. لكن السيطرة التي يمارسها نظام الأسد على أغلب أعضاء اللجنة تسبّبت في توقّف العملية. لذا يبدو أنّ نيّة الأسد هي تقليص الإصلاحات الدستورية، بحيث يتمكّن من الاستمرار على رأس السلطة حتى الانتخابات الرئاسية المرتقبة في 2021 والتي يرى أنّ بوسعه الفوز بها بكل سهولة. وفي الوقت الراهن لا وجود لضمانات لاستمرار عمل اللجنة، كما أنّ الكثيرين تراودهم شكوك حول ما قد ينتهي بها الحال إليه.

أما من ناحية إيران، فلم يهتزّ وضعها على مدار هذه الأحداث، كما أنّها نظرت بعين الرضا إلى إضعاف "وحدات حماية الشعب". ومن المتوقّع أن تحتفظ إيران بوجودها في سوريا وبنفس الظروف التي تتواجد بها حالياً وتحاول تعزيزها، عن طريق توسيع المناطق التي يسيطر عليها نظام الأسد في المقام الأول. ومن شأن نجاح هذه الخطة أن تحقّق أخيراً لإيران حلم الحصول على منفذ على البحر المتوسط عن طريق الممر البرّي حتى ميناء اللاذقية، الذي وقّعت مؤخّراً اتفاقاً تستأجر بموجبه طهران الميناء لإدارة قسم الحاويات. رغم أنّ القرار الأمريكي باستمرار انتشار القوات المسلحة يعدّ عقبة في وجه هذه التحرّكات.

اقرأ أيضاً: الحركة السياسية الكردية في سوريا.. ما هي أبرز مراحلها وتحوّلاتها؟

لقد فتحت عملية "نبع السلام" الباب أمام فرص تعزيز هيمنة نظام الأسد وروسيا اللذين نجحا في تحسين مواقعهما بصورة كبيرة. بينما لا يزال الوجود الأمريكي في شمال سوريا يطرح تساؤلات عديدة، وخاصة أنّها القوى العظمى الأولى في العالم ما يعني بالتأكيد أنّ الولايات المتحدة لن تكتفي بدور ثانوي. وبالطبع ستسعى واشنطن لاستعادة زمام المبادرة، ما يشمل أعمال اللجنة الدستورية ضمن عملية جنيف.

إنّ عملية "نبع السلام" دفعت باتجاه نهاية، ربما لا تزال بعيدة، نزاع طويل تميل الكفة فيه بشكل مستمرّ نحو حل يضمن بقاء النظام السوري.


رابط الترجمة عن الإسبانية:

https://bit.ly/37cx3Yw



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية