كيف نجعل من متلازمة داون متلازمة محبة؟

كيف نجعل من متلازمة داون متلازمة محبة؟


24/02/2020

متلازمة داون، التي تصيب نسبة قليلة من الأفراد وهم أجنة، وتسمى أيضاً "التثالث الصبغي"؛ وهي متلازمة صبغوية أو جينية المنشأ، تنتج عن تغيّر في الكروموسومات؛ حيث يتسبب وجود نسخة إضافية من كروموسوم 21 أو جزء منه في الخلايا، بتغيّر في المورثات، حسب ما جاء في الموسوعة الحرة؛ ويكيبيديا. وتتسم الحالة بوجود تغيّرات كبيرة أو صغيرة في بنية الجسم، وكثيراً ما تترافق مع ضعف في القدرات الذهنية.

اقرأ أيضاً: "هدف".. مطعم مغربي يدعم ذوي الاحتياجات الخاصة
ولا يمتلك أفراد هذه الفئة المهمشة في بعض المجتمعات، كالمجتمع السوري، على سبيل المثال، إلاّ بعض الخصائص الفطرية، التي تظهر على سلوكهم مع الأفراد الأصحاء، ومع الأفراد المصابين مثلهم؛ مثل "الحب" والنقاء والصفاء.
وقبل أن أتجه إلى جمعية "أنا أستطيع"، التي تضم مجموعة متفاوتة الأعمار من أطفال وشبان مصابين بمتلازمة داون، في محافظة السويداء السورية؛ كنت أحسب أنّ "الحب" يحتاج إلى ذكاء ليصبح "فناً"، حسب رأي إريك فروم، لكنني أيقنت أنّه يحتاج إلى رعاية واهتمام، كما لاحظت في تلك الجمعية.

كنت أحسب أنّ الحب يحتاج إلى ذكاء ليصبح فناً لكنني أيقنت أنه يحتاج إلى رعاية واهتمام

تعدّدت أنواع الحب، وتعددت الأحاديث عنه واختلفت مقاربات الفلاسفة والمفكرين لـ "الحب اللاهوتي" و"الحب العذري" و"الحب الحسي"، الذي أصبح عيد الحب موسوماً به عند بعض المجتمعات، أما تلك الفئة فإنّ أفرادها لا ينشدون عيداً للحب؛ بل ينشدون عالماً يسوده الحب النقي، المجرد من كل ما يوصف به وكل ما ينسب إليه من أنواع وأنماط، إنهم ينشدون أن يقابلوا بابتسامة تشبه ابتسامتهم، ونظرة مهتمة، بريئة من أمراض التمييز والتباهي والتعالي والتعصب التي يتصف بها كثير من الأفراد العاديين.
لعلّ مبعث الحب الذي يغمر أرواحهم البريئة ويفيض عنها ابتسامات عذبة، أنّهم لا يعرفون الكذب، ولا يستطيع أحدنا أن يكذب عليهم؛ لأنهم يفهمون العالم والناس بحواسهم وفطرتهم، لذلك يمكن أن نتعلم منهم أنّ الحب لا يحتاج إلى ذكاء ليصبح فناً، بل يحتاج إلى صدق، ولا بأس بالذكاء.

اقرأ أيضاً: بمناسبة اليوم العالمي لمتلازمة داون.. شاهد كيف تحتفل أمهات بأطفالهن المصابين
تبعث السيدة "حياة"، التي أسست جمعية "أنا أستطيع"، في كل لحظة، الحياة والحب في قلوب أفراد يعتبرهم المجتمع مرضى "غير عاديين"، وينظر إليهم بازدراء وقسوة، علّمتهم الأعمال اليدوية؛ كصناعة الإكسسوارات النسائية بالخرز والإبرة والخيط، رغم أنّ جميع من في الجمعية ذكور تتراوح أعمارهم بين 10 و20 عاماً، وعلمتهم صناعة ذوات حرة ومستقلة عن التبعية الاقتصادية، كي لا يكونوا عالة على ذويهم وعلى المجتمع الذي يعتبرهم كذلك.
وتساعد الجمعية هذه الفئة، التي تعاني من أشد أنواع الإقصاء؛ ابتداءً من المجتمع وانتهاءً بالمؤسسات الحكومية؛ كمؤسسة التربية والتعليم، ومؤسسات الرعاية الاجتماعية، والتأهيل الذهني والنفسي، في تحقيق الاندماج في الحياة الاجتماعية على أدنى تقدير؛ فالجمعية قائمة على التبرعات من المجتمع الأهلي والأقارب والأصدقاء.    
تلك الفئة، صاحبة الكروموسوم الزائد في جيناتها، الذي يبدو أنّه يمنحها الابتسامة الدائمة والحب الفطري، الذي لا يعرف التفريق بين إنسان أبيض وآخر أسود، ولا يعرف التفريق بين مسلم أو مسيحي، ولا يعرف التعصب السياسي أو الديني أو الاجتماعي، مع هذا كله فهي فئة تعاني من الإقصاء وأقصى درجات التهميش من قبل المجتمع والدولة.

ليس غريباً أن تكون متلازمة داون مهمشة ومقصيّة في مجتمعات تعاني من الجهل والمرض والتخلف والصراعات

ليس غريباً أن تكون متلازمة داون مهمشة ومقصيّة في مجتمعات تعاني من الجهل والمرض والتخلف، والصراعات السياسية والدينية والاجتماعية، وتعاني أيضاً من نزاعات مسلحة تتآكل خلالها البنى الاجتماعية والبنى التحتية للدولة. هذه العوامل تتسبب في تهميش الأفراد الفاعلين والفاعلات، والمتفاعلين والمتفاعلات، في المجتمع، وتقضي على كل أشكال الحب والتواصل الإنساني؛ ليحل محلها الدفاع البدائي عن النفس من أجل البقاء، فكيف لا تُهمش فئة ساكنة لا تجيد الفعل أو التفاعل في المجتمع.
لكنّ السيدة "حياة"، تجاوزت كل هذا التهميش وعملت على بناء القدرات الذهنية لتلك الفئة وإدماجها في المجتمع والمؤسسة التربوية والتعليمية، لتصبح فئة فاعلة، تجيد العمل والرقص والآداب العامة؛ كإلقاء التحية وآداب الطريق وآداب الطعام واللعب، وتجيد التواصل مع الآخرين، والأهم من ذلك أنّها أصبحت فئة مُنتِجة تستطيع أن تعتمد على ذاتها في الحياة العامة.

اقرأ أيضاً: الإعاقة الحركية لا تمنع ممارسة الكاراتيه في غزة
قبل 6 أعوام، صادقت اليابان على اتفاقية "حقوق الأشخاص ذوي الاحتياجات الخاصة"، بعد أن أصدرت قانوناً يحمي هؤلاء الأشخاص، ويعاقب كل من ينظر إليهم نظرة ساخرة أو يعنّفهم جسدياً ونفسياً، كما جهزت لهم تسهيلات في الأماكن العامة، والطرقات ووسائل النقل، وأحدثت مراكز للتنمية الذهنية والتأهيل النفسي، ممّا جعلهم يندمجون في المجتمع بشكل طبيعي، ويشعرون بذواتهم وعدم اختلافهم عن بقية أفراد المجتمع، مع أنّ تلك الخطوة أتت متأخرة بالنسبة لبلدٍ مثل اليابان.

من أخطر الأمراض الاجتماعية؛ التمييز والتفاضل بين الأفراد والتفاوت في الإنسانية والمواطنة غير المتساوية

إذن، الدولة هي المسؤول الأول عن ذوي الاحتياجات الخاصة، فالدولة هي الحياة الأخلاقية للشعب، بحسب تعبير "ماركس"، من ثمّ المجتمع، الذي هو جسم الدولة وروحها الديناميكية، فإذا اعتنت الدولة بجسمها وروحها ستكون بعيدة عن الأمراض الاجتماعية، ومن أخطر هذه الأمراض؛ التمييز والتفاضل بين الأفراد، والتفاوت في الإنسانية، والمواطنة غير المتساوية، كما هي الحال في سوريا، التي تعاني من حرب أنتجت ضعفاً وترهلاً في الحياة الاجتماعية (الإنسانية) وأزمات اقتصادية تسببت في عدم القدرة على احتواء ذوي الاحتياجات الخاصة، وكبار السن وغيرهم من القوى غير الفاعلة في المجتمع، والعاجزة عن إدارة الحياة الطبيعية التي تعطيها الحق بالفعل والتفاعل.
فعندما تنعدم خيارات الأفراد، يزداد منسوب القهر والاغتراب والاستلاب، لينتج هدراً لكرامة الإنسان وحريته وحقه في العيش الكريم، وهذا ما يسميه مصطفى حجازي بالهدر الإنساني أو المعنوي؛ "هو التنكر لإنسانية الإنسان، أو تجاهلها، أو التلاعب بها، أو الحرب عليها"، فإذا كان الفرد هو المحور الأساسي في تنمية المجتمعات ونموها وازدهارها، وتقدمها نحو الحداثة، فكيف لمجتمع أن يخطو خطوة واحدة إلى الأمام ونسبة كبيرة من خلايا جسده مريضة؟ هل سترتقي إنسانيتنا يوماً فننظر إلى المصابين بمتلازمة داون وغيرهم من ذوي الاحتياجات الخاصة، نظرة إنسانية بعيدة عن التمييز العقلي؟

الصفحة الرئيسية