كيف يمكن "صناعة السعادة" مع وباء كورونا؟

كيف يمكن "صناعة السعادة" مع وباء كورونا؟


18/03/2020

لا يمكن التخلص من سؤال البحث عن السعادة لدى البشر، وما يمكن فعله من أشياء أو ممارسته من أشياء، من أجل الشعور بالسعادة، وقد بقيت السعادة عبر العصور مرتبطة بالفضيلة والخير والجمال والمحبة، إلى أن جاء القرن العشرون، تصحبه العديد من الشركات والمؤسسات ومن خلفها رؤوس الأموال، التي أصرت على أنّ السعادة أمر يمكن صناعته بكل بساطة.

درست الشركات كيفية نحت أساليب السعادة والتعاسة في الدماغ   البشري، وكيف يصبح هناك تأثيرٌ يجلب الشعور بهما إلى الفرد

وبعد كلّ الوصف والشرح المطول في الكتاب عن كيفية نشأة ما يمكن تسميته "علم السعادة"، واستثماره رأسمالياً وتجارياً وسياسياً أيضاً، وقيام شركاتٍ كثيرة بخلق قوائم سلعٍ لا تنتهي، تلح على الأفراد حول العالم، أنّها مصدر بهجتهم، وأنّه لا بديل لها إلا ما يشبهها، تأتي أهمية كتاب ديفيز، في قول إنّ السعادة ليست مرهونة في هذه السلع فعلاً.
إنّ السعادة "هي في قدرة الإنسان على اتخاذ شيءٍ من قراراته، وامتلاكه السلطة المناسبة للتحكم بقدرٍ معين من بيئته المحيطة به"، وبقصد ديفيز أنّ أسباب السعادة الذاتية لا يمكن أن تنهار تماماً؛ لأنّ تعاسة البشر غالباً ما تنتج عن عدم قدرتهم على السيطرة على أحداث حياتهم.

 


وفي عالم اليوم يضطر كثيرون للسير في مساراتٍ مرسومة، تتعلق بالدراسة ثم العمل ثم محاولة صنع حياة كريمة مثلاً، إلى أن يوقفهم الموت في لحظة ما، وطوال تلك الرحلة، يظلون مثل الفئران في المتاهة، التي رسمتها الشركات، وبعض تلك الشركات تتجاوز أدوار الحكومات في السيطرة الاقتصادية منذ زمن طويل، إذ يترقبون دفقة من السعادة، تخرجهم من تلك المتاهة، إلا أنّهم يصطدمون بسلعة أخرى، ربما تتطور من كونها إجبارية إلى كونها ضرورية، ثم طبيعية، وهذا كلّه لا ينفي أنّ كثيراً من صناعة السعادة، هي مجرد وهم.

 

اقرأ أيضاً: "كورونا" يقلب المعادلات ويخلط الأوراق
ويبدو أنّ الباحث، في كتابه الذي صدر عام 2018، عن "سلسلة عالم المعرفة"، وأتى في 285 صفحة، من ترجمة مجدي خاطر، حاول التركيز على أنّ أسباب السعادة التي ظلت قائمة عبر التاريخ، لا يجب أن تسقط، حتى لا تصبح الأخلاق مجرد أداة لكسب المزيد من الأرباح، بعد تسلّل رأس المال إلى علم النفس وإلى السعادة، والاكتئاب والحزن وكلّ شيء، من أجل تعظيم الأرباح، وتحويل مشاعر الإنسان إلى مواضيع مجردة، وحتى لا تكون تعاسة الإنسان، تعني فقط قصوره عن تحمل تكاليف استهلاك، يتمّ الترويج له على أنّه هو الرفاهية.الباحث الاجتماعي والكاتب البريطاني، ويليام ديفيز، بقي مدة طويلة ينظر بتعجب، كيف أنّ صناعة السعادة تمّت ممارستها في أنحاء مختلفة من العالم، على اختلاف ثقافاته وشعوبه وعاداته، وقد أثمرت هذه الفكرة كثيراً في جيوب أصحابها، الذين باعوا السعادة للناس، دون أن يتساءل أحد بوضوح ما إذا كان قد حصل على سعادته حقاً، بعد أن دفع ثمنها، مما جعل ديفيز يفكر في إنجاز كتابه هذا "صناعة السعادة: كيف باعت لنا الحكومات والشركات الكبرى الرفاهية؟".

يركّز الكتاب على استغلال الإنسان خلال مسيرته للبحث عن السعادة

ضدّ التعاسة
يرى مؤلف الكتاب، ويليام ديفيز، أنّ صناعة السعادة مسألة ليست جديدة، بل بدأت منذ القرن الثامن عشر، على يد فيلسوفٍ إنجليزي، هو جيريمي بنتام، الذي انطبقت عليه مقولة نيتشة "لا يبحث كلّ الرجال عن السعادة، بل يفعل ذلك رجلٌ إنجليزي"؛ إذ أراد بنتام مجتمعات أكثر حرية وسعادة في ظلّ السلطات التي تحكمها، فرأى أنّ "الحكومات والدول يمكن أن تتجرد من أيّة أيديولوجيا أو قيمٍ شكلية أو أخرى أخلاقية، مقابل أن تستند إلى مؤشراتٍ حول تأثير عملها وخدمتها للأفراد والمجتمعات، بما تقدمه إليهم من سعادة ورفاهية، وذلك بالاعتماد على الأرقام، وبناء على نتائج قابلة للقياس فقط".

اقرأ أيضاً: في ظلّ كورونا: 10 أفلام تنبأت بنهاية العالم
ولعلّ بنتام أراد نوعاً من السعادة والرفاهية الواضحين والدائمين للشعوب، من خلال رؤيته هذه، إلا أنّ ما تمّ استغلاله من كلّ هذا، هو ما قال بنتام أنّه "قابل للقياس؛ أي إنّ مشاعر الإنسان وكيفية صنعها في دماغه، تظهر آثاراً قابلة للقياس، من خلال دراسات فسيولوجية وسيكولوجية، تقيس نبض الإنسان، وسلامة أعصابه، حتى يتم الكشف دون مواربة، عن مستوى الرفاهية أو السعادة اللذينِ يمكن أن يتمتع بهما".
ويعتقد ديفيز أنّ هذه الرؤية شكّلت "أصل العلاقة بين علم النفس البشري للفرد، والشركات العالمية الكبرى خلال القرن العشرين، مما جعلها تقوم بأعمال تجارية جديدة، على هذا الأساس، تعتمد في لبّها على فكرة صناعة السعادة وتحويلها إلى سلعة"، ثمّ نقل هذه (السلعة) من كونها أمراً ذاتياً يختلف بحسب الفرد والموقف والظروف، إلى أمرٍ سرعان ما سوف يصبح عالمياً، ومفروضاً في بعض الأحيان، على أنه يجب استهلاكه، من أجل تحصيل نوعٍ من السعادة، التي تتم بثمن.

 

 

لكنّ المسألة ليست في أنّ السلعة إجبارية، بمعنى أنّ الكثير من أنماط الاستهلاك أصبحت اليوم إجبارية، إلا أنّ الأهم هو جعلها "طبيعية"، إن صحّ التعبير، وضرورية.
ويكمن التعقيد في أنّ الإنسان الذي يشعر بهمومٍ كبيرة، ويعيش في مكانٍ ما من الشرق الأوسط مثلاً، ربما يشعر بالسعادة حين يحصل على عملٍ جيد، وبالتالي يتمكن من القيام بتسديد تكاليف حياته الأساسية؛ كتأمين السكن، والمصاريف، والسعي نحو علاقاتٍ ذات نمطٍ معينٍ مع الآخرين، تقوم على (رفاهية) في التصرفات والاستهلاك، لكنّ ذلك لن يعني أنه سعيدٌ فعلاً، فقد يمر بتأثيراتٍ ذاتية وتجارب شخصية أو علاقات فاشلة، تجعله تعيساً.

اقرأ أيضاً: فيروس كورونا كمصدر لظاهرة إنسانية جديدة
الشركات الكبرى، وفق كتاب ديفيز، لا تفكر بهذه الطريقة، إنّما لديها فكرة مثيرة، تتمثل في "دراسة كيفية نحت أو حفر أساليب السعادة والتعاسة في الدماغ البشري، وكيف يصبح هناك تأثيرٌ ما، يجلب الشعور بالسعادة إلى الفرد"، حيث لا بدّ من أنّ أقرب طريق إلى ذلك هو السلعة، أو شيء يمكن شراؤه من أقرب متجر، من المتاجر المنتشرة حول مدن العالم.
أسواق السعادة
منذ نهاية القرن العشرين؛ تضافرت جهود الإعلام والإنترنت، وتطور علم الأعصاب معاً، تحت مظلة العديد من الشركات العالمية، لأجل خلق أنواعٍ من المستهلكين، وليس الاكتفاء بالاعتماد على مستهلكين مستقلين، وقد تمّ ذلك من خلال دراسة أساليب "الإعلان المتقدمة، وتسهيل الوصول إلى المستهلك أياً كان، وبأساليب عرض وتوصيل للسلع بطرقٍ جذابة، إضافة إلى دراسة أفكار؛ كفكرة (الترقب) وفكرة (المكافأة)، اللتين يمكن الاعتماد عليهما في جذب الزبائن، ليشعروا بالسعادة حين يتلقون شيئاً إضافياً فوق سلعتهم، عدا عن سعادتهم المحتملة لدى ترقبهم الحصول على شيءٍ جديد".

اقرأ أيضاً: كورونا بين المؤامرة والعولمة.. كيف تتعامل مجتمعاتنا مع المرض؟
وربما تكون الأمثلة كثيرة على هذه الأمور، فالهواتف الحديثة جداً، تقدّم على أنّها تزيد من ذكاء أصحابها، والأطعمة التي توصف بأنّها صحية، أصبحت تعني عمراً أطول، بحسب الدعايات مثلاً، أما السيارات المتقدمة التقنيات، فهي دعوةٌ معلنة للشعور بالسرعة والقوة لدى من يقتنيها، وكلّ ذلك يفترض به أن يقود أصحابه إلى السعادة، أما عدم امتلاكها، فربما يعني التعاسة.

التعاسة والضياع في متاهة البحث عن السعادة

وبعد كلّ الوصف والشرح المطول في الكتاب عن كيفية نشأة ما يمكن تسميته "علم السعادة"، واستثماره رأسمالياً وتجارياً وسياسياً أيضاً، وقيام شركاتٍ كثيرة بخلق قوائم سلعٍ لا تنتهي، تلح على الأفراد حول العالم، أنّها مصدر بهجتهم، وأنّه لا بديل لها إلا ما يشبهها، تأتي أهمية كتاب ديفيز، في قول إنّ السعادة ليست مرهونة في هذه السلع فعلاً.
إنّ السعادة "هي في قدرة الإنسان على اتخاذ شيءٍ من قراراته، وامتلاكه السلطة المناسبة للتحكم بقدرٍ معين من بيئته المحيطة به"، وبقصد ديفيز أنّ أسباب السعادة الذاتية لا يمكن أن تنهار تماماً؛ لأنّ تعاسة البشر غالباً ما تنتج عن عدم قدرتهم على السيطرة على أحداث حياتهم.

لا يجب أن تنهار أسباب السعادة الذاتية لأنّ تعاسة البشر تنتج عن عدم قدرتهم على السيطرة على أحداث حياتهم

وفي عالم اليوم يضطر كثيرون للسير في مساراتٍ مرسومة، تتعلق بالدراسة ثم العمل ثم محاولة صنع حياة كريمة مثلاً، إلى أن يوقفهم الموت في لحظة ما، وطوال تلك الرحلة، يظلون مثل الفئران في المتاهة، التي رسمتها الشركات، وبعض تلك الشركات تتجاوز أدوار الحكومات في السيطرة الاقتصادية منذ زمن طويل، إذ يترقبون دفقة من السعادة، تخرجهم من تلك المتاهة، إلا أنّهم يصطدمون بسلعة أخرى، ربما تتطور من كونها إجبارية إلى كونها ضرورية، ثم طبيعية، وهذا كلّه لا ينفي أنّ كثيراً من صناعة السعادة، هي مجرد وهم.
ويبدو أنّ الباحث، في كتابه الذي صدر عام 2018، عن "سلسلة عالم المعرفة"، وأتى في 285 صفحة، من ترجمة مجدي خاطر، حاول التركيز على أنّ أسباب السعادة التي ظلت قائمة عبر التاريخ، لا يجب أن تسقط، حتى لا تصبح الأخلاق مجرد أداة لكسب المزيد من الأرباح، بعد تسلّل رأس المال إلى علم النفس وإلى السعادة، والاكتئاب والحزن وكلّ شيء، من أجل تعظيم الأرباح، وتحويل مشاعر الإنسان إلى مواضيع مجردة، وحتى لا تكون تعاسة الإنسان، تعني فقط قصوره عن تحمل تكاليف استهلاك، يتمّ الترويج له على أنّه هو الرفاهية.

الصفحة الرئيسية