لا تجردني من ثوبي قبل أن تؤمّن لي ما يدفئني

لا تجردني من ثوبي قبل أن تؤمّن لي ما يدفئني


12/05/2019

من القرى القليلة التي لم تتعرض لطغيان تنظيم داعش، ولم يتعرض أهلها لجرائمه قرية واقعة في الجهة الشرقية لدير الزور المحاذي للعراق، ويبدو الأمر مستغرباً بالنسبة إلى من لم يتوغل في فهم الطابع القبلي للمحافظة من جهة، و إلى من يدرك التوق إلى هوية محلية عند أصحاب الشعارات الأممية.

اقرأ أيضاً: تركيا تضغط على أمريكا وحلفائها في ريف دير الزور
يقطن في تلك القرية أفراد عشيرة لها امتداد في العراق، وقد كان من محاسن الصدف بالنسبة إلى أهلها أنّ يسيطر عليها أفراد من تنظيم داعش من أصول عراقية ينتمون إلى الأرومة نفسها.
لا يثير استغرابنا -نحن أبناء المحافظة- أن يتعصب أبناء القرية لأبناء عمومتهم متناسين أي خلافات أخرى، مقدمين الرابطة العشائرية على غيرها من الوشائج.
ولكن ما يمكن أن يكون مستغرباً تجاوز أفراد تنظيم داعش كلّ ما يتلطّون خلفه من إدعاءات عالمية دعوتهم، وأن يضيق لديهم أفق الانتماء إلى أضيق حدود المحلية.

إنّ مطالبة القبليّ بالخروج من جلده من دون تقديم انتماء بديل حقيقي يلبي حاجة الانتماء الطبيعية مطالبةٌ بمستحيل

والحق أنّ البحث عن انتماء محليّ نزوع طبيعي لدى الإنسان يحيله التنكّر المدّعى له بتوسل مقولات عابرة للانتماءات المحلية إلى حاجة ماسة يتشبث  صاحبها بأي فرصة للارتماء في حضن الانتماء المحليّ الدافئ الذي يخفّف برودة الانتماء العالميّ المزعوم.
إن عواقب اجتثاث الانتماء المحليّ بالقوة من الخطورة بمكان، فقد أثبتت دراسة ميدانية لمنطقة القبائل في الجزائر أن المناطق التي حطم فيها الاستعمار الفرنسي البنى القبلية إبان احتلاله الجزائر هي نفسها المناطق التي أفرزت أعنف الجماعات المتطرفة، وتفسير ذلك كامن في أن تحطيم الانتماء الذي يركن الفرد إليه، ويستظلّ بظله يجعله يبحث عن أي بديل يعوضه، ولما كانت الصيغة العنيفة للفكر الإسلامي هي المتوافرة، وهي التي تنطوي على مفردات يفهمها الباحثون عن انتماء بديل، فإنه من الطبيعي أن تحلّ محل الانتماء المفقود.
فالقبيلة أو العشيرة وحدة اقتصادية سياسية اجتماعية، وهي بحكم ماهيتها هذه تنطوي على ممكن الانغلاق أكثر من ممكن الانفتاح، بل إن انقسامها إلى فروع يجعلها أكثر قدرة على التشظي الذي لا يحول دونه إلا التعصب ضد الآخر.

اقرأ أيضاً: العراق يحبط مخططاً لإعادة تشكيل خلايا داعش.. تفاصيل
ففي حادثة يرويها أحد الخارجين من سجن تدمر الصحراوي رفض فيها عجوز مريض ينتمي إلى قبيلة شمر مساعدة طبيب إخواني قائلاً: اغرب عن وجهي أيها الظفيري، لقد كان جدك عدواً لجدي ولا يمكن أن أصدق أنّ ظفيرياً مثلك يمكن أن يساعد شمرياً مثلي.
كان العجوز أنموذجاً متعيناً للبنية القبلية التي لم يستطع حتى جحيم سجن تدمر الرهيب أن يرخي روابطها التي استحكمت حلقاتها لكي تخنق عقل ووجدان المنتمي إليها.
بينما كان الإسلامي أنموذجاً متعيناً للقفز على الانتماءات المحلية نحو انتماء إلى متخيّل، ولهذا لم يكن ممكناً أن يلتقيا في منتصف الطريق.
وهو موضع في الطريق لا تشيده إلا الهوية الوطنية التي تضمّ كل الانتماءات الضيقة، وتصهرها في إطار انتماء حقيقي جامع.

اقرأ أيضاً: هل تنصف مفوضية حقوق الإنسان قبيلة الغفران هذه المرة؟!
وبالعودة إلى شرق سورية كان طبيعياً أن يكرّس نظام الاستبداد انغلاق البنى القبلية على ذاتها ما عدا قنوات مفتوحة مع النظام وأجهزته الأمنية، ولكن سلوك النظام لم يكن إلا حلقة في سلسلة عبث بهذه البنية واستثمار غير صحي لها قبل ذلك بكثير.
فالأمة المتخيلة التي صدّع بها القوميون رؤوس الناس، والتي صاغوا لها تاريخاً صنعوه صنعاً لم يكن ممكناً أن تكون بديلاً عن الهويات المحلية المتعينة، وهوما أدركه رواد البعث في المحافظة عندما لعبوا على التناقضات القبلية في المحافظة على الرغم من افتراض نظريتهم القفز على كل الانتماءات الضيقة.

كان طبيعياً أن يكرّس نظام الاستبداد انغلاق البنى القبلية على ذاتها ما عدا قنوات مفتوحة مع النظام وأجهزته الأمنية

وعلى الرغم من شفافية البعثي الديري الأرستقراطي "جلال السيد" في طرحه الذي يقوم على ضرورة الاعتراف بأهمية القبيلة ودورها في التأسيس للانتماء القومي الأشمل، إلا أنه لم ينجُ من التناقض في طرحه هذا، وهو تناقض يجد جذره في التقلب بين عالم الأمة المتخيلة، وعالم القبيلة المحسوس.
وفي نجاح هذا الرجل في الانتخابات البرلمانية عان 1949 كان التناقض معبراً عن نفسه بصورة طريفة، فقد نجح القومي العربي على خلفية دعم عشائري، وخرج أبناء عشيرته محتفلين بنجاحه، وهم يرددون أهازيج تنضح بالعصبية العشائرية، ولا تتضمن أي إشارة إلى شعارات البعث التي يرفعها ويناضل لأجل تحقيقها مرشحهم.
يمكن للنخبويين أن يعدوا هذه الانتماءات المحلية صورة من صور التخلف، وقد لا نخالفهم في هذا، ولكن الاكتفاء بالاستعلاء عليها لا يجدي نفعاً ما لم يجرِ العمل على تجاوزها تجاوزاً جدلياً عبر اختراق إنتاجي تراكمي يجعلها أمسّ رحماً بالمدنية.
إنّ مطالبة القبليّ بالخروج من جلده من دون تقديم انتماء بديل حقيقي يلبي حاجة الانتماء الطبيعية، أو بتقديم بدائل متخيلة كما يفعل المشروع القومي أو الإسلامي مطالبة بمستحيل، وهي يمكن أن تصبح مطالبة ممكنة فقط عبر الاعتراف بصلابة هذا الواقع وتطويره من داخله عبر استثمار ثقافيّ سياسيّ واقتصاديّ منتج وتدريجيّ في مسعى لا بد منه لبناء هوية وطنية جامعة.



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية