لبنان والعراق بين مئويتين

لبنان والعراق بين مئويتين


16/11/2019

مصطفى فحص

منذ نشأة العراق ولبنان، ككيانين مستقلين وفق الثوابت السياسية للموروث العثماني الذي حولته اتفاقية سايكس بيكو إلى دول مستقلة، تقاطعت بينهما الأحداث وترابطت بشكل كسر ثوابت الجغرافيا السياسية التي تفصل بينهما، وباتا يخضعان لتحولات سياسية اقتصادية واجتماعية وثقافية، جعلتهما ـ أي لبنان والعراق ـ أشبه بدولتين محاذيتين يتأثران مباشرة بالأحداث الداخلية والخارجية التي يتعرضان لها.

يتابع العالم اليوم حدثين متشابهين، على الأقل بالشكل، في ساحة التحرير وسط بغداد وساحة الشهداء في بيروت. القواسم المشتركة ما بين المعتصمين في الساحتين ليست وليدة الصدفة السياسية أو الظروف الإقليمية التي فرضت نفسها على المنطقة منذ أبريل 2003، بل هي حصيلة لتراكمات من الأحداث السياسية والعسكرية المحلية الإقليمية والدولية غيرت في تكوينهما السياسي في أكثر من مفصل وغيرت شكل المنطقة في محطات كبرى لم تزل تداعياتها مستمرة حتى الآن.

في التاريخ الحديث، لا يمكن الفصل ما بين إعلان دولة لبنان الكبير سنة 1920 وثورة العشرين في العراق 1920 التي أسست أحداثها لقيام جمهورية العراق سنة 1921.

فالأولى قامت وفقا لما عرف بالصيغة اللبنانية "التفاهم ما بين المسلمين والمسيحيين" حيث لعب رأس الكنيسة المارونية البطريرك إلياس حويك دورا بارزا في إنشاء دولة لبنان الكبير، خصوصا مشاركته في مؤتمر الصلح في فرساي سنة 1919 وهناك كان له دور فاعل في قبول دول الانتداب بقيام دولة لبنان الكبير.

وفي كتابه "البطريرك الحويك رحلة في جذور التاريخ" يقول المونسنيور عبدو يعقوب إن البطريرك حويك صاغ مشروعه للبنان الكبير وطن رسالة وشهادة في العيش المشترك الواحد بين كل طوائفه وبين جميع أبنائه في الحرية والكرامة واحترام التعددية، ففي مؤتمر فرساي خاطب البطريرك قادة العالم قائلا: "اسمحوا لي أن أقدم لكم مشروع لبنان الكبير وألفت انتباهكم إلى أن العيش المشترك الذي يشهد له الجميع في اللبنانيين هو ميزة تكشف عن طور عميق عظيم التبعات وهي الأولى في الشرق التي تحل الوطنية السياسية محل الوطنية الدينية".

أما في اللحظة العراقية فقد برز دور المرجعية الدينية الشيعية خصوصا أنصار تيار المشروطة (حكم الدستور والمؤسسات مقابل المستبدة التي تتبع سلطة الفرد ) بعد قرار بريطانيا إعلان انتدابها على العراق في مؤتمر سان ريمو في أبريل 1920، الأمر الذي دفع المرجعية الدينية إلى دعم ثورة العشرين عبر فتوى تعطي الأذن الشرعي بالجهاد دعما للثورة، والتي أصدرها المرجع الأعلى آية الله محمد تقي الحائري الشيرازي، الذي أصدر بيانا يدعو العراقيين فيه للتظاهر السلمي مع المحافظة على الأمن جاء فيه: "بناء على الحرية التي منحتنا إياها الدول العظمى، وفي مقدمتهن الدولتان الفخيمتان إنكلترا وفرنسا، وحيث أننا ممثلو جمهور كبير من الأمة العربية العراقية المسلمة، فإننا نطلب أن يكون العراق، الممتدة أراضيه من شمال الموصل إلى خليج فارس، حكومة عربية إسلامية يرأسها ملك عربي مسلم هو أحد أنجال جلالة الملك حسين، على أن يكون مقيدا بمجلس تشريعي وطني".

وبهذا تكون ثورة العشرين قد شكلت نقطة تحول اجتماعية في التكوين العراقي بين الأرياف والمدنية، بين مجمع المدن والحواضر التاريخي والطبيعة العشائرية لجزء كبير من المجتمع، وكانت المنعطف الذي على أساسه قامت الدولة العراقية الحديثة سنة 1921 بحدودها المعروفة إلى الآن.

عمليا شهدت مرحلة خمسينيات القرن الماضي ذروة التقارب اللبناني العراقي سياسيا واقتصاديا نتيجة لإنشاء شركة نفط العراق أنبوب كركوك ـ طرابلس في شمالي لبنان؛ أما سياسيا فقد خطط الرئيس اللبناني الأسبق الراحل كميل شمعون إلى التقرب من العراق في مرحلة حلف بغداد لحماية سلطته من التمدد الناصري والمحور الاشتراكي المدعوم من السوفيات.

وتمسك حينها شمعون بمعادلة سياسية تجاوزت منطق الجغرافيا وقامت على فكرة "عراق قوي، لبنان مستقر" وهي المعادلة التي أثبتت صحتها بعدما أثرت أحداث عام 1958 في لبنان والعراق على العلاقة بينهما وعلى استقرارهما السياسي وموقعهما في خريطة التحالفات الإقليمية والعربية.

في تلك السنة، وفي أقل من 24 ساعة على سقوط النظام الملكي في العراق في 14 يوليو، طلب الرئيس كميل شمعون الحماية من الرئيس الأميركي حينها دوايت أيزنهاور، الذي أمر بدوره قوات المارينز بالتدخل لصالح القوات الشرعية بوجه من اعتبروا حينها متمردين على السلطة والمدعومين من القاهرة التي كانت تمارس ضغطا سياسيا على بيروت القريبة حينها من حلف بغداد.

في ذروة الأحداث العراقية سنة 2003 وسقوط نظام البعث توجهت الأنظار إلى لبنان حيث أجبر النظام السوري على الانسحاب تحت ضغط انتفاضة الأرز بعد اغتيال رئيس الوزراء اللبناني رفيق الحريري الذي لا ينفصل اغتياله عن اغتيال رجل الدين الشيعي المعروف السيد عبد المجيد الخوئي في النجف في أبريل 2003، حيث يمثل الرجلان تيار الاعتدال السني والشيعي الذي كان من الممكن أن يؤسس لمرحلة جديدة في المنطقة.

فالخوئي ينتمي إلى مرجعية النجف التي تدعو إلى اندماج الشيعة في أوطانهم. ورفيق الحريري كان يمثل وجه الاعتدال السني في بلاد الشام والنموذج الاجتماعي والسياسي المطلوب تعويمه بعد تداعيات 11 سبتمبر 2001.

وحديثا يتشابه مصير لبنان والعراق ويتقاطع؛ من سقوط حكم البعث في كلا البلدين إلى خضوعهما للوصاية الإيرانية، التي تواجه اليوم واحدة من أصعب معضلاتها السياسية في مواجهة الأغلبية الشيعية العراقية المدعومة من مرجعية تؤمن بالمشروطية، وفي لبنان تواجه أغلبية شعبية انتفضت على الصيغة الطائفية التي كانت تحاول طهران إعادة إنتاجها وفقا لشروطها السياسية. راهنت إيران على مئوية جديدة، تتغير فيها طبيعة لبنان الكبير، وعلى منع الوطنية العراقية من استعادة الدولة.

عن "الحرة"



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية