لماذا تحوز فرنسا نصيب الأسد من العمليات الإرهابية وانتشار الأفكار المتطرفة؟

لماذا تحوز فرنسا نصيب الأسد من العمليات الإرهابية وانتشار الأفكار المتطرفة؟


17/11/2020

مصطفى أمين

تحوز باريس وضعية معقدة فى علاقتها مع فاعلي التطرف والعنف بالعالم ، وربما يعود ذلك الى سياسات باريس المكشوفة تجاه الإرهاب، أو الانتشار الواضح لقواتها بمعاقله الرئيسية ،او الإرث الاستعماري للفرانكوفونية فى الذهنية الجهادية ، او ربما باعتبارها مركز تصدير للجهاديين ومركزا للحرية والعلمانية التى يناوئها الفكر التكفيرى  كل هذه الأسباب  جعلها من أكثر دول القارة العجوز تعرضا لهجماته الدموية، وحولها إلى بؤرة لعملياته فى القارة الأوروبية، وهو ما يدفعنا إلى محاولة  فهم الحالة الفرنسية وسبر أغوارها لمعرفة لماذا هذا الانكشاف  للعنف؟.. ولماذا باريس تحديداً هي من تحظى بتلك الوضعية المركبة قديماً وحديثاً ؟

أَولاً: الجذور المؤسسة للعنف والإرهاب ضد فرنسا 

للوهلة الأولى  يبدو أن حادثة الطعن في نيس والتى وقعت مؤخرا فى نهاية أكتوبر الماضى  استمرار للحراك الإرهابي ضد فرنسا والذى بدأ مع أحداث مجلة شارلي إيبدو  في عام 2015م ولكن الحقيقة على خلاف ذلك ، حيث كانت فرنسا هدفًا رئيسيًا للجماعات الإسلامية المتطرفة منذ عقود بسبب الإرث الإستعماري لباريس داخل الجغرافيا العربية والإسلامية وهو ما عبر عنه زعيم القاعدة الحالي أيمن الظواهري بقوله ” إن الغزو النابليوني لسوريا وفلسطين عام 1798 كان مؤامرة خادعة لتأسيس دولة يهودية في فلسطين” وهو ما جدد جذور العنف والإرهاب المعولم ضد فرنسا .

ومنذ تسعينيات القرن الماضي شجع تنظيم القاعدة أنصاره  في فرنسا على شن هجمات في بلد إقامتهم ليقوم جهاديون جزائريون في عام 1994م باختطاف طائرة تابعة للخطوط الجوية الفرنسية على متنها 241 راكبًا لتحطيمها بعمل  انتحاري في برج إيفل وتم إحباط الهجوم عندما تم إقناع الخاطفين بالهبوط بالطائرة في مرسيليا بحجة عدم وجود وقود كاف للوصول إلى باريس واضطرت إلى التوقف للتزود بالوقود بمجرد وصولهم إلى مهبط الطائرات ، اقتحمت القوات الخاصة التابعة للجيش الفرنسي الطائرة وقتلت الإرهابيين الأربعة وأنقذت حياة الرهائن ،ويشير  تقرير لجنة 11 سبتمبر إلى أن هجوم الخطوط الجوية الفرنسية في عام 1994 كان مصدر إلهام لهجمات 11 سبتمبر.

لتتحول مع الوقت أراضي الجمهورية الفرنسية إلى “المستودع” الأول للمتعاطفين مع الإسلاميين في أوروبا “، حيث يوجد 18000 ملف لدى جهاز المخابرات الفرنسي لأشخاص لديهم ميول للتطرف الديني ،بالاضافة الى أن وباء المتطوعين الجهاديين المتواجدين على الأراضي الفرنسية يسبق تاريخياً الصراع في سوريا والعراق ضد داعش”، ويشكل امتداد للموجة الإرهابية التي ضربت  الجزائر في تسعينيات القرن الماضى خاصة وأن القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي كانت أول منظمة إرهابية تضع مهاجمة فرنسا كأولوية جهادية.

للتتحول الجزائر الى قاعدة عمليات جهادية إرهابية قاعدية منذ عام 2006م وهو ماعبر عنه الظواهري بقوله ” إن هذه القاعدة ستكون مصدر حزن وإحباط وحزن للمرتدين والكفار في فرنسا وستكون عظمة في حلق الصليبيين الأمريكيين والفرنسيين”،وسرعان ما تشكلت موجة من الغضب الإسلامية استفادت منها الجماعات الإرهابية ضد فرنسا بسبب حظرها ارتداء الحجاب الإسلامي ووجودها العسكري في أفغانستان ومالي ومساعدتها التاريخية لإسرائيل في بناء مفاعلها النووي في ديمونا.

هذا الاًرث المؤسس للعنف والتطرف فى فرنسا وصفه جيرالد دارمانين وزير الداخلية الفرنسي بـ”الخطر الإرهابي من أصل سني الذي يمثله أفراد من أتباع الإسلام الراديكالي”، وجعل الأجهزة الأمنية الفرنسية تقوم بمتابعة 8132 فردًا من ذوى الطبيعة الإرهابية منذ عام 2013م  وإحباطها لـ 61 هجوماً ، منها 32 فى عام 2017م فقط غير عشر هجمات نفذت بالفعل وأسفرت عن مقتل 20شخصًا  بالاضافة الى 505 شخصًا آخرين على صلة بالتنظيمات الإرهابية و702 معتقلاً مشتبه بهم.

ثانيا: العوامل المساعدة على الاستهداف المنظم  للدولة الفرنسية

تشكل فرنسا منطقة جذب هامة للعمل الإرهابي بشكل عام وللإستهداف الداعشي بشكل خاص، ودائما ما شهدت حالة من التدافع نحوها من قبل  المشروع الراديكالي الدموي ، للتحول بمرور الوقت الى جغرافيا جاذبة للعنف وذلك بفضل العديد من العوامل المساعدة والتي تتمثل في العناصر التالية:

العلمانية الفرنسية كمحفز ضاغط نحو العنف

يعتبر مؤرخ الأديان الفرنسي  أودون فاليه  العلمانية الفرنسية، التي  حظرت الحجاب الإسلامي في المدارس الفرنسية عام 2004م ثم منعته في الشارع عام 2010م دافعًا قويًا للتحفيز الإرهابي ضد فرنسا ، فالعلمانية على النمط الفرنسي الخالص لا تتوافق مع الإسلام على حد وصفه كما  أن الرؤية الفرنسية لحرية التعبير، التي تسمح بانتقاد الأديان على نطاق واسع، قد وضعت باريس في مرمى المتطرفين، يضاف إلى ذلك استضافة فرنسا لخمسة ملايين مسلم وهى أكبر جالية  في أوروبا  يعرضها دائما للعديد من التوترات والاشتباكات المجتمعية بشكل أكثر وضوحاً عن باقي البلدان الأوروبية بالرغم من الجهود المبذولة لدمجهم فلا يزال المسلمون عرضة لقدر من التمييز مما يقوض اندماجهم وهو ما وصفه عالم الاجتماع رافائيل ليوجير قائلاً “فرنسا هي البلد الذي يوجد فيه معظم الإحباطات فيما يتعلق بالنقاش حول الإسلام”.

الانخراط الفرنسي فى مكافحة الإرهاب بدول الساحل والصحراء

تقود باريس طليعة مكافحة الإرهاب الإسلاموي في منطقة الساحل والصحراء منذ يناير 2013م حيث أخذت زمام المبادرة في التدخل العسكري في مالي بعملية سيرفال أعقبتها عملية برخان في أغسطس 2014 والتي توسعت لتضم منطقة الساحل، وهو ما تعتبره فرنسا عملاً وقائيًا بالأساس ويحظى بدعم الجزائر والمغرب والدول الأفريقية الرئيسية بتلك المنطقة، ولكن هذا الأمر أعتبرته داعش والقاعدة تدخل مباشر ضدهما وحول باريس الى هدف ذي أولوية لديهما.

المساهمة النشطة في العمليات الجوية ضد داعش

تعد فرنسا ثاني أكبر مساهم في العمليات الجوية للتحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة ضد تنظيم (داعش) في العراق وسوريا وفي طليعة الدول الأوربية التى تواجه الجماعات الجهادية الإرهابية، فالقاذفات الفرنسية تقصف بانتظام مراكز داعش ومستودعات أسلحته وقامت بنشر حاملة الطائرات الفرنسية  شارل ديغول، رمز القوة العسكرية الفرنسية فى البحر المتوسط  ودائما ما تشدد على  أنها في “حرب” مع الإرهاب منذ هجمات نوفمبر 2015 في باريس وسبق أن هدد الرئيس الفرنسي السابق فرانسوا هولاند كافة الجماعات الإرهابية بالاستهداف قائلا “سنواصل ضرب أولئك الذين يهاجموننا على أرضنا ، في مخابئهم”.

الإستيطان النشط للفكر الجهادي بفرنسا

تعد فرنسا موطن رئيس للاستيطان النشط للفكر السلفي والفاشيات الجهادية حيث صدرت لداعش في سوريا والعراق ما يقارب 1700 جهادي، لتصبح وعلى مدار عشرين عامًا من حرية الحركة شهدت فرنساً  نمواً للشبكات والخلايا الجهادية والتي حولت الجغرافيا الفرنسية من باريس وحتى تولوز الى  بؤر متحركة للعناصر الإرهابية التي تشكل خليطًا من القاعدة سابقًا وشبابًا غادروا إلى سوريا لينضموا الى داعش ثم يعودوا الى فرنسا ، والتي تعد بالنسبة لهم بيئة مواتية للعمل ولذلك لم يكون من المستغرب أن أحد منفذي هجمات باريس الفرنسي عمر مصطفى ، قد بقي في سوريا بين عامي 2013 و 2014م.

ثالثا: مالات الاستهداف وفرص المقاومة الفرنسية للإرهاب

تندفع الحالة الفرنسية في صراعها مع الجماعات الإرهابية الى العديد من المآلات التى يراهن عليها كلا الطرفين، ففي الوقت الذى يعول فاعلي الإرهاب على  الاستمرار والبقاء وتحويل الحالة من مجرد عقاب الى صراع وجودي، ولذلك تؤسس باريس لتنظيم مقاومة شاملة للإرهاب تبدأ بالقاعدة وتنتهي عند القمة ،تسيدأ  لمبدأ وقائي يقضى على العنف الذي تجذر في المجتمعات المحلية الفرنسية لعقود ويمكن تحديد تلك المآلات  فيما يلى :

الإستهداف بين العقاب وتصدير الصراع

تحاول الجماعات الإرهابية تصدير نهج جديد من العنف تجاه الجمهورية الفرنسية لا يعتمد فقط على معاقبتها واخافتها، بل  يضعها في دائرة معاداة الإسلام وتصدير الصراع على أنه مواجهة بين الإسلام والمسيحية، وهذا ما يفسر إصرار تلك الجماعات وعلى رأسها داعش على تنفيذ العمليات الإرهابية  في إطار استراتيجية عالمية ، تعتمد على وسائل عسكرية متزايدة، مستغلة في الخصوصية الفرنسية وحالة الهشاشة التي تعاني منها بسبب انتشار الجهاديين المتعصبين بها ،  وهو الأمر الذي يختلف في دول أخرى كالولايات المتحدة على سبيل المثال وهو ما يستلزم نهج جديد لمواجهة الأهداف الإرهابية المستقبلية والتي سيستمر تهديدها  لفترة طويلة خلال الفترة القادمة.

الديمقراطية وثقافة المواجهة مع الإرهاب

تتجسد فرص المقاومة الفرنسية لهذه الموجة الإرهابية في قدرتها على الوصول للمسلمين بقيم التسامح والتعايش النابعة من المجتمع الفرنسي، وتحويل الديمقراطية الأوروبية إلى ثقافة للمواجهة مع الإرهاب، وذلك بالبدء من القاعدة وصولاً الى القمة وإقناع جيل الشباب من المسلمين بأنه ليس بأي حال من الأحوال “مسؤولاً” عن الإرهاب حتى يستطيع أن يندمج داخل المجتمع الفرنسي وأن أولئك الذين يعارضون قيم هذا المجتمع هم من يجب تسييد إستراتيجية وقائية ضدهم ترسخ للتسامح وترفض العنف.

النهج الأمني والمرونة فى المواجهة

لازالت فرنسا تمارس النهج الأمني في التصدي للعنف دون وجود مرونة حقيقة  في مواجهة الظاهرة الإرهابية وهو ما جعلها  تعانى  حالة من العجز شبه الكامل مع ظاهرة التطرف ككل، والذى تنامى داخلها مؤخراً بعدما استهانت  إلى حد كبير بالخطر الذي يمثله أفراد معينون يكادون يعانون من الأمراض النفسية، فمنذ العام 2003 م حتى الآن ادى  النهج الأمني الى غلق أبواب الاندماج  أمام المسلمين فى فرنسا وهو ما دفع منحنى التطرف الديني  نحو الصعود وهو ما وصفه المحاضر في معهد العلوم السياسية بيير كونيسا في يناير 2015 بقوله “أخطأت السلطات الفرنسية بفرضها مزيدا من “الرقابة الذاتية” بينما أبقت  التطرف “موضوعًا محظورًا”

الإطار القانوني كاستراتيجية للمواجهة

تحاول فرنسا وضع إطار قانوني لاستراتيجية محددة لمواجهة الإرهاب من خلال تدابير استثنائية لا تنتقص بقدر الإمكان من مبادئ القانون والقيم ، فالقانون الصادر فى  21 ديسمبر 2012م  والذي يسمح بمحاكمة الفرنسيين على جرائم إرهابية ارتكبوها خارج الأراضي الفرنسية ،وتفعيل  300 دعوى قانونية ضد أكثر من 1200 فرنسي  متورط مع شبكات جهادية ، كما تم الموافقة على قانون  إصلاح الإجراءات الجنائية في 25 مايو 2016م والذي يسمح بالعمل بشكل أفضل ضد الجريمة المنظمة، ووضعت الحكومة خطة عمل ضد الشبكات الجهادية والتطرف والتي كان من ثمارها  5000 تقرير عن التطرف ساعد الحكومة على منع العديد من الجهاديين من مغادرة فرنسا ، كما  تم تقديم خطة شاملة تتكون من 80 إجراء لمكافحة التطرف والإرهاب ، بما في ذلك إنشاء مركز إعادة الإدماج والمواطنة لكل منطقة بحلول نهاية عام 2017م .

التوصيات

فى ظل حالة التأزم التي تعيشها فرنسا بسبب نمو ظاهرة الفعل الإرهابي داخل جغرافيتها ،ربما تدفع أحداث شارلي ابدو إلى مزيد من التوعية بالتسامح داخل المجتمع الفرنسي ، والترسيخ لثقافة إنفاذ القانون كبديل عن الردود المتشنجة التي توفر فرص أكبر للجماعات الإرهابية للاستقطاب والتجنيد من داخل المجتمعات المسلمة المحلية.

كما أنه من الضروري تكييف التشريعات وفقاً للتطورات التي تتعلق بطبيعة فعل العمل الإرهابي وسلوك مرتكبيها، والدفع نحو استراتيجيات جديدة لإدماج المسلمين، وسد جميع الثغرات التي من شأنها توفير ملاذات آمنة للفكر المتطرف على مستوى المؤسسات والتمويل.

عن "مركز الإنذار المبكر"

الصفحة الرئيسية