لماذا تكون كتب التاريخ متحيّزة؟

لماذا تكون كتب التاريخ متحيّزة؟

لماذا تكون كتب التاريخ متحيّزة؟


18/04/2024

ترجمة: محمد الدخاخني

"التّاريخ سيكون لطيفاً معي، لأنّني أنوي كتابته"، يتبادر إلى الذّهن مؤخّراً هذا الاقتباس المشهور المنسوب إلى رئيس الوزراء البريطانيّ السّابق، ونستون تشرشل، الّذي ألَّف بالفعل العديد من الكتب، بما في ذلك ستّة عن الحرب العالميّة الثّانية، التي كان أحد قادتها المنتصرين.

ظهرت مؤخّراً سلسلة من الكتب حول الماضي القريب لماليزيا، ويبدو أنّ السّباق يدور حول الكيفيّة الّتي ينبغي بها النّظر إلى سقوط حكومة "باريسان ناسيونال"، في 2018، وهو الحزب الذي لم يكن قد خسر من قبل أيّة انتخابات، منذ الاستقلال عام 1957، وما أعقب ذلك من آثار.

"التّاريخ سيكون لطيفاً معي، لأنّني أنوي كتابته" هذا الاقتباس منسوب لونستون تشرشل، الّذي ألَّف العديد من الكتب، منها ستة عن الحرب العالميّة الثّانية، التي كان أحد قادتها المنتصرين

كتاب "كشف حساب أخير" (Final Reckoning)، لرومن بوز، يعبّر عن وجهة نظر ممتازة من الدّاخل حول كيف ضُلّل آخر رئيس وزراء لـ "باريسان"، نجيب عبد الرّزّاق، من قِبل رجاله المُهادنين، ويقدّم الكتاب صورة متعاطفة للشّخص النّبيل الذي يندم العديد من الماليزيّين على طرده من منصبه في الانتخابات العامّة الأخيرة. كتاب "التقاط الأمل" (Capturing Hope)، الذي خطّه الرّجل الذي خلف نجيب، مهاتير محمّد، يكون في بعض الأحيان لاذعاً، لكنّه غالباً ما يكون مراوغاً: لن يُقنع الإصلاحيّين الذين تحالفوا معه وانتهى بهم الأمر إلى الشعور بخيبة أمل من توجّه حكومته بمجرد وصوله إلى السّلطة.

سرديات تستمر

لماذا هذا مهمّ؟ يمكن أن تحدّد كتب التّاريخ سرديّات تستمرّ لأعوام وعقود وحتّى قرون. كتاب "مذنبون: تراجع وسقوط المحافظين 1992-1997"، الذي يدور حول المملكة المتّحدة ويعود إلى تسعينيّات القرن الماضي، والّذي كتبه مستشار مجلس الوزراء السّابق، هيويل ويليامز، وُصِف بحقّ بأنّه "النّصّ الكلاسيكيّ للانهيار الدّاخليّ لحزب المحافظين خلال التّسعينيّات"، قد تظلّ ذكريات "الفساد" المرتبط بحكومة جون ميجور قويّة، لكن بلا رحمة. وبشكل مقنع انتقد ويليامز تقريباً كلّ عضو في تلك الإدارة، وقد سألتُه في ذلك الوقت عمّا إذا كان قد وجد الأمر محرجاً عند اختلاطه بالدّوائر السّياسيّة.

إقرأ أيضاً: "هاتف الخلافة".. حين يُزيّن "الإخوان" الدم في عيون المسلمين

عنوان مذكّرات لي كوان يو، المكوّنة من مجلّدين، يكشف الأمر برمّته؛ شرع كوان يو في كتابة "قصّة سنغافورة" (Singapore Story) حتّى تسمع روايته للأحداث بأعلى صوت، ومن المؤكّد أنّ هيمنة شخصيّة رئيس الوزراء السّابق في تاريخ هذه الدّولة المدينة، والتّقليل من الأدوار الّتي لعبها كلّ من أصبح منتقِداً، قد عزّزتها كتبه المقنعة جدّاً.

نهاية التّاريخ

في بعض الأحيان، يمكن أن يأخذ الكتاب أو عنوانه حياةً خاصّةً به ويبدو مؤثّراً في المستقبل، وليس مجرّد تسجيل للماضي. عندما نشر العالم السّياسيّ الأمريكيّ فرانسيس فوكوياما كتابه "نهاية التّاريخ والإنسان الأخير" (The End of History and the Last Man)، عام 1992، لم يكن يقصد أنّ الوقت قد توقّف بطريقة ما، لكن استنتاجه بأنّ العالم قد وصل إلى "نقطة نهاية التّطوّر الأيديولوجيّ للبشريّة وتعميم الدّيمقراطيّة الليبراليّة الغربيّة باعتبارها الشّكل النّهائيّ للحكومة البشريّة"، أقنع كثيرين بأنّ هذه حقيقة بديهيّة لدرجة أنّها لا تحتاج إلى مزيد من المناقشة. تجاهل صانعو السّياسة الغربيّون المؤثّرون، تحت تأثير هذا الوهم، الآبار العميقة للثّقافات المحلّيّة ومكامن جذب الطّائفيّة والإيمان والقوميّة نتيجة لذلك، مع عواقب وخيمة في كثير من الأحيان.

لم يستخدم صلاح الدين الأيوبي سيفه لقطع وشاحٍ من حرير بدقّة إلى جزأين بعد أن كسر الملك ريتشارد قلب الأسد قضيباً حديديّاً بسيفه الطّويل، لأنّ الاثنين لم يلتقيا قطّ

وليس بالأمر الجديد أن تكون هناك سرديّة تاريخيّة خاطئة، لكن محلّ اعتقاد على نطاق واسع، ولم تتحسّن سمعة ملك إنجلترا ريتشارد الثّالث قطّ من توصيفه كشرير في المسرحيّة التّاريخيّة التي كتبها ويليام شكسبير، والتي تحمل اسم "الملك". الشّيء نفسه ينطبق على ماكبث، ملك أسكتلندا في القرن الحادي عشر. فبدلاً من كونه قاتلًا مستبدّاً وغاصباً، كما قال شكسبير، فإنّه وفق هيئة الإذاعة البريطانيّة "بي بي سي"، "لمدّة 14 عاماً، يبدو أنّ ماكبث قد حكم بشكل عادل، فارضاً القانون والنّظام، ومشجّعاً المسيحيّة"، لكن لسوء حظّه، قليلون يسمعون رواية أكثر عدلاً عن فترة حكمه.

صلاح الدين وقلب الأسد لم يلتقيا

في بعض الأحيان، لا يمكن إلّا لتاريخ جديد موثوق أن يبدأ في التّخلّص من المفاهيم الخاطئة القديمة. من بين الاكتشافات المذهلة في سيرة صلاح الدّين، التي كتبها عبد الرّحمن عزام عام 2009؛ أنّ العديد من القصص الّتي نعتزّ بها عن صلاح الدّين ملفّقة تماماً. على سبيل المثال، لم يستخدم هذا الجنرال الكرديّ العظيم في القرن الثّاني عشر سيفه قطّ لقطع وشاحٍ من حرير بدقّة إلى جزأين بعد أن كسر الملك الإنجليزيّ ريتشارد قلب الأسد قضيباً حديديّاً بسيفه الطّويل، لأسباب ليس أقلّها أنّ الاثنين لم يلتقيا قطّ، والأهم من ذلك الحجّة المثيرة للاهتمام القائلة إنّ دور صلاح الدّين المحوريّ في إحياء السّنّة في مصر ربما كان أكثر أهميّة من هزيمته للصّليبيّين واستعادة القدس.

إقرأ أيضاً: لماذا اختفت دواوين القبائل العربية الثمانون؟

سيرة عزّام، على الأقل وفقاً لناشري كتابه، هي الأولى عن صلاح الدّين لمؤرّخ مسلم، لمؤرّخ تمكّن تماماً من الاعتماد على جميع المصادر العربيّة ونقْل محتواها إلى الإنجليزيّة. يجب أن يكون هذا مفاجئاً، لكن بعد قليل من الدّراسة، لا يبدو، للأسف، كذلك. يرجع ذلك إلى أنّ المؤلّفين الناطقين بالإنجليزية في أمريكا الشماليّة وأوروبا لم يشعروا قطّ بالرّهبة عند كتابة مجلّدات جزميّة حول أجزاء من العالم قد يكون لديهم اتّصال محدود بها.

لا يعني هذا أنّ كثيرين لم ينتجوا أعمالاً علميّة عظيمة، لكنّ وجهات نظرهم تكاد تكون مختلفة بعض الشيء، وأحياناً تكون مختلفة إلى حدّ كبير، في المدرسة الإعداديّة في إنجلترا، في أوائل الثّمانينيّات من القرن الماضي، كانت غزوات الإمبراطوريّة البريطانيّة تُقدّم لي دائماً على أنّها إنجاز مجيد، على سبيل المثال. قد يكون التّفسير مختلفاً الآن، لكنّ الافتقار إلى التّوازن ما يزال لافتاً للنّظر. سيكون من الرّائع، على النّقيض من ذلك، قراءة الكتب المنشورة على نطاق واسع عن المملكة المتّحدة أو أوروبا من قِبل السّلطات في إندونيسيا أو نيجيريا أو الشّرق الأوسط، على سبيل المثال، ومع ذلك، إنْ وُجدت، فأنا لا أعرف عنها.

لحسن الحظّ، مجموعة الكتب الخاصّة بماليزيا، التي أشرت إليها في البداية، كتبها محلّيّون، باستثناء بوز، وإن كان سنغافوريّاً نشأ وهو يفكّر في شبه الجزيرة إلى الشّمال على أنّها منطقته النّائية، كما أنّ معرفته بالبلد عميقة.

وهذه ليست سوى أحدث روايات تاريخ حديث، وهي، وتواريخ البلدان الأخرى، ستخضع للتّدقيق وإعادة الفحص مجدّداً في المستقبل، طالما أنّ هناك كتّاباً يتشبّثون بكلمات الرّوائيّ الأمريكيّ الرّاحل ويليام فولكنر: "الماضي لم يمت قطّ، بل إنّه ليس ماضياً"، فقط اسأل نفسك من هم المؤرّخون؟ وما الفؤوس التي عليهم أن يطحنوها أثناء كتابتهم؟

المصدر:

شولتو بيرنز، ذي ناشونال، كانون الثاني (يناير) 2022

https://www.thenationalnews.com/opinion/comment/2022/01/05/why-history-books-are-often-biased/


آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية