لماذا دعا أنور عبدالملك إلى الاتجاه نحو الشرق؟

لماذا دعا أنور عبدالملك إلى الاتجاه نحو الشرق؟


03/09/2019

يعدّ المفكّر المصري أنور عبد الملك (1924- 2012)، أحد أبرز المفكّرين المعاصرين، الذين لم تنل اجتهاداتهم وإنجازاتهم الاهتمام الذي يليق بمنجزه الفكري، فقد عاش معظم حياته مغترباً في باريس، وذلك رغم عمق اهتمامه بالشأن المصري في جلّ كتاباته؛ فهو صاحب "نهضة مصر"، و"المجتمع المصري والجيش"، و"الجيش والحركة الوطنية"، و"دراسات في الثقافة الوطنية"، و"الفكر العربي في معركة النهضة"، و"ريح الشرق"، و"الاشتراكية والقومية"، و"الإبداع والمشروع الحضاري"، وغيرها من المؤلفات المهمّة التي كان لها تأثير عميق في الكتابات العالمية حول الشرق بصفة عامة، ويكفي أن نعرف أنّ مقالته عن الاستشراق كانت الأساس الذي أثّر في صياغة إدوارد سعيد لمؤلَّفه الأشهر عن "الاستشراق".

الهوس بالغرب

كان توجّه معظم المفكرين المصريين، منذ أواخر القرن التاسع عشر وحتى منتصف القرن العشرين، نحو الغرب، وكانوا يرون في الاتجاه غرباً طريقاً لنهضة وتقدّم مصر، وخروجها من حالة التخلف؛ فطه حسين يرى ضرورة ربط مصر بالغرب من خلال حوض البحر الأبيض المتوسط، وأنّ كلمة الخديوي إسماعيل حول أنّ مصر ينبغي أن تكون قطعة من أوروبا؛ هي هدف ينبغي أن نسعى إليه، وكان سلامة موسى يرى أنّ علاقتنا بأوروبا ينبغي أن تتوطد إذا أردنا أن ننهض، وتطرف حتى دعا إلى كتابة اللغة العربية بالحروف اللاتينية، وأن نكتب من اليسار إلى اليمين كما يكتبون، وكان يقول: "أنا مؤمن بالغرب كافر بالشرق".

اقرأ أيضاً: رينيه جينو.. رحلة حيرة تنتهي في الشرق

كان الهوس بأوروبا هو السائد بين أطياف النخب الليبرالية والعلمانية في مصر، منذ منتصف القرن التاسع عشر وحتى منتصف القرن العشرين، وكانوا لا يرون أيّة ميزة في العلاقة مع الشرق؛ فهل كان موقف المثقفين المصريين نابعاً من كون تجربة الحداثة الأوروبية، هي النموذج الوحيد للنهضة والتقدم في تلك الفترة التاريخية؟ يبدو أنّ الأمر كذلك؛ إذ مع نهاية القرن العشرين، بزغت الصين وبلاد جنوب شرق آسيا كقوى اقتصادية جديدة في العالم، وبدأت المراجعات في الربع الأخير من القرن العشرين لطبيعة العلاقة مع الغرب الاستعماري.

وفي إطار هذه المراجعات؛ كانت دعوة بطرس غالي إلى ضرورة اتجاه مصر إلى الجنوب والعمق الإفريقي، وكانت دعوة أنور عبد الملك إلى ضرورة الاتجاه شرقاً نحو الصين واليابان ودول الشرق الناهضة، وذلك في إطار التوجّه نحو تفكيك المركزية الأوروبية وعلاقة الشرق الأوسط بها.

الشرق أقرب لنا من الغرب     

يرى أنور عبد الملك؛ أنّ العالم تسود فيه ثلاث دوائر حضارية؛ الدائرة الغربية الإمبريالية، والدائرة الغربية الاشتراكية حول الاتحاد السوفييتي، والدائرة الشرقية الاشتراكية حول الصين، وأنّ دوائر النفوذ الثلاثة تلتقي في منطقة الشرق الأوسط، ويرى أنور عبد الملك؛ أنّنا في هذه المنطقة لن نستطيع تحقيق مرحلة النهضة الحضارية إلا بربط مصيرنا التاريخي بمصير القطاع الآخر من الحضارة الشرقية القائم في آسيا.

يؤكّد أنور عبد الملك أنّ المركز الجديد للقوة والنفوذ والتأثير العالمي سيكون في الشرق

ويؤكّد أنور عبد الملك؛ أنّ المركز الجديد للقوة والنفوذ والتأثير العالمي سيكون في الشرق، وهو يختلف عن المركز الغربي؛ لأنّ الشرق له مفهوم للحضارة والعلاقات الإنسانية، ونظام الحكم، والعلاقات الفكرية والفلسفية والدينية، ومرتبط بالبعد الزمني والصيرورة التاريخية، وعلاقة الإنسان بالكون تختلف اختلافاً جذرياً تكوينياً، وذلك بفضل التباين التاريخي الموضوعي عن التراث الغربي التحليلي، والكمّي، والعلماني، والمادي؛ فقد أدّى النمط الحضاري الغربي إلى تأزم الاقتصاديات الصناعية المتقدمة، وإلى تفرّد الفرد وشعوره بالاغتراب، وإلى تحلّل الأسرة والأمة والدين والفلسفة، وإلى تسويد الاعتبارات الكمية على كلّ اعتبار آخر في واقع الأمر، وهذا جوهر ما نطلق عليه اليوم أزمة الحضارة الغربية، وإلى اعتبار الإنسان هو الصانع والمالك لكلّ شيء، ومن حقّه أن يستغل ما يشاء، وينتج دون حدود، ويستهلك دون اعتبار، ويتمتع إلى أن يناله الهلاك.

اقرأ أيضاً: بيت الحكمة: منارة أضاءت التاريخ وحفظت إرث الشرق والغرب

ويذهب أنور عبد الملك إلى أنّ المثقفين العرب ما يزالون يتحركون في إطار الوصاية الفكرية الغربية على اختلاف مدارسها، وكأنّه استحال على المفكرين العرب في القرن العشرين أن يسهموا في تجديد النظرية الاجتماعية والسياسية والفكر الفلسفي، وكأنّ المثقفين في الشرق أيضاً (اليابان، والصين، وفيتنام، والهند، وأندونيسيا)، ليس لهم هم الآخرون نصيب في الحياة الفكرية المعاصرة.

وحدة الخصوصية الحضارية

ومن منطلق دعوة أنور عبد الملك إلى أهمية التوجه نحو الشرق؛ فإنّه يرى ذلك من منطلق خصوصية الحضارات الشرقية، التي تختلف عن الحضارة الغربية في مفهومها للزمان، وفي مفهومها للصيرورة التاريخية، وذلك لأنّ حضارات الشرق نشأت في مجتمعات قومية مكثفة؛ أي في أقدم قوميات عرفها التاريخ (مصر، الصين، فارس، اليابان) وقد اعتادت هذه المجتمعات على مدى الأجيال أن تحيا حياة اجتماعية وحدوية التركيب شديدة التماسك في عوامل الوحدة الوطنية، هذه المجتمعات القومية الوحدوية اعتادت أن تعمل على استيعاب التناقضات الداخلية لمواجهة معركة الاستمرار المادي عبر التاريخ، قبل ظهور التكنولوجيا في العصر الحديث، ومن هنا كانت نظرتها للزمان والصيرورة التاريخية، نظرة ترفض تفتيت الزمان إلى وحدات كمية فحسب، وإلى مراحل متتالية فحسب؛ إنما تنظر إلى الصيرورة التاريخية وكأنّها عملية مركبة جدلية واحدة تمتدّ عبر الأجيال، ولا تمثّل حركة المجتمع الآنية إلا ذرّة في المسيرة الكبرى.

الإسلام ودوره التاريخي في التعبئة  

وينظر أنور عبد الملك إلى الإسلام وتراثه على أنّه معين عظيم ومنبع أصيل وإطار حضاري لتعبئة الجماهير الشعبية في معركة التحرر والسيادة، ولا سبيل إلى الانتقال إلى مرحلة الثورة الاشتراكية لو أدرنا ظهورنا إلى الواقع الحيّ، وتصوّرنا أنّ ترتيل القواميس الثورية، خاصّة الأعمال التي تتنكر بشكل جذري ومسعور للحركة الوطنية، والوضعية الوطنية للثورة الاجتماعية، ومن ثمّ فإنّ مفتاح الأمر هو الانغماس في أرض الوطن، وإنّ جماهيرنا الشعبية، بتراثها وحساسيتها وذكائها السياسي، هي مفتاح الأمر، دون مَن يدّعي لنفسه صفة (التجديد) بإطلاق يافطة (اليسار الجديد) المعادي للوطنية، عميل التنظيمات التروتسكية الغربية حليفة الصهيونية ضدّ الحركة الوطنية في العالم، والعالم العربي بوجه خاص، فلا ينبغي أن ينعزل المثقفون عن واقع شعوبهم وتراثهم التاريخي باسم روح العصر.

اقرأ أيضاً: كيف تحولت جوهرة الشرق من قاهرة إلى مقهورة؟

إنّ دعوة أنور عبد الملك إلى الاتجاه شرقاً هي دعوة جديرة بالدراسة والتأمّل، وينبغي توظيفها على النطاق الإستراتيجي؛ لأنّها تدعو إلى التحرر من المركزية الغربية وسيطرتها على الشرق الأوسط، كما أنّها مفيدة لأصحاب القرار، في إطار تحرير أنفسهم وقراراتهم من سطوة الغرب التاريخية على المنطقة؛ فهل من الممكن إعادة قراءة أعمال أنور عبد الملك في ضوء السياق التاريخي الراهن؟


آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية