لماذا شوّهت الثقافة الشعبية المصرية سُمعة القرع والكوسا؟

مصر

لماذا شوّهت الثقافة الشعبية المصرية سُمعة القرع والكوسا؟


09/12/2018

كان تجار الخضراوات والفاكهة في العصر المملوكي، يقفون في صفّ طويل، حتى ينتهوا من دفع ضريبة دخول السوق، ولم يكن يستثنى من الوقوف أحد، سوى تجار القرع الأخضر أو "الكوسا".

كان التاجر الذي يحمل أقفاص الكوسا يدخل دون انتظار، وعندما يعترض أقرانه من التجار المنتظرين، يقوم برفع يده وهو يهرول في اتجاه باب السوق صائحاً "كوسا ... كوسا".

اقرأ أيضاً: المنسف سيد الطعام الشعبي والضيافة في الأردن

تتصف نوعية تلك الثمار بسرعة التلف، لو مضى مدة يسيرة على قطفها دون أن تُطهى، ومع ذلك فقد كانت سبباً لتسلل الفساد؛ حيث كان بعض التجار يدّعون أنّهم يحملون الكوسا، كي يمرّوا دون الوقوف في الطابور، أو دفع الضريبة، كما كان يمكن لهذا التاجر دفع رشوة لحراس السوق، ما أدّى بعد ذلك لوسم المصريين المحسوبية والوساطة، والفساد بـ "الكوسا" في مثلهم الشهير "آه.. ما هي كوسا"!

القرع السلطاني

تعرضت فصيلة القرعيات عموماً، ذات الفوائد العظيمة لجسم الإنسان، لـ "تشويه سمعة"، وباتت مفردة تنطلق من الأفواه للتعبير عن الاعتراض على الفساد، إلا أنه تجاوز هذا الحدّ في إطلاق وصف "القرع"، على الأشخاص الذين يرضون بالسلوك المشين على أهل بيتهم ويتغاضون عن ذلك.

لجأ شاعر العامية بيرم التونسي للفظة "القرع" في أول هجوم له على الملك فؤاد الأول

في هذا السياق، استخدم شاعر العامية، بيرم التونسي، لفظة "القرع" في أول هجوم له على الملك المصري، فؤاد الأول؛ إذ اتهمه بأنّه ترك "القرع يزرع في ديوانه"، في إشارة إلى الشائعات التي تحدثت عن تغاضيه عن علاقة حميمية بين "فايقة"، ابنته من زوجته الأولى شويكار، ومحافظ القاهرة حينذاك، حسين فخري، الذي طلب منه الملك أن يتزوج ابنته، لكنّه رفض، فعرض الأمر على شقيقه محمود فخري باشا، حسين، وأغراه بمنصب مرموق فقبل.

إثر ذلك كتب بيرم زجلاً على وزن أغنيه شعبية كانت شائعة حينها، مطلعها "مرمر زماني يا زماني مرمر"، بعنوان القرع السلطاني، قال فيها: "البنت ماشية من زمان تتمختر... والغفلة زارعة في الديوان قرع أخضر... تشوف حبيبها في الجاكتة الكاكي... والستة خيل والقمشجي الملاكي... تسمع قولتها... يا وراكي... والعافية هبلة والجدع متشطر..".

نال القرع قدراً من الاحترام والتقدير في كتب التراث الإسلامي

وزعت القصيدة على شكل منشورات وصلت ليد الملك فؤاد نفسه، الذي غضب وهاج وماج، إلا أنه لم ينجح في نفي بيرم خارج البلاد هذه المرة.

القرع في القرآن والسنّة

مع أنّ القرع تعرّض للتشويه على يد المصريين، فإنه نال قدراً من الاحترام والتقدير، في كتب التراث الإسلامي، كونه ورد في القرآن الكريم، إذ أنبته الله على النبي يونس، عليه السلام، الذي نبذه الحوت من بطنه، بأمر الله تعالى، إلى العراء، فأنبت الله تعالى فوقه شجرة اليقطين: ﴿فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ سَقِيمٌ * وَأَنبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِّن يَقْطِينٍ﴾.

اقرأ أيضاً: هذه المجتمعات تزداد فيها الحساسية من الطعام... لماذا؟

واليقطين، بحسب التفاسير؛ هو القرع، أو كلّ شجر تنتشر أوراقه بالقرب من الأرض، أو كلّ شجرة لا تقوم على ساق، وهذا التعريف جامع لنباتات مثل القرع والحنظل، وفاكهة مثل البطيخ، أو مسليات مثل الفول السوداني واللبّ، وكلّ هذا يسمى عند العرب يقطين.

يعبر المصريون عن المحسوبية والوساطة، والفساد بمثلهم الشهير "آه.. ما هي كوسا"!

قال سعيد بن جبير، في تفسير آية ﴿وَأَنبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِّن يَقْطِينٍ﴾: كلّ شيء ينبت ثم يموت من عامه، أما ابن عباس فرجّح أن يكون اليقطين هو القرع.

لكن ظهر في السنّة النبوية باسم "الدباء"، وهو مسمى القرع ومشتملاته، فروى البخاري: "أنّ خياطاً دعا رسول الله، صلى الله عليه وسلم، لطعام صنعه، قال أنس: فذهبت مع رسول الله، صلى الله عليه وسلم، إلى ذلك الطعام، فقرب إلى رسول الله خبزاً من شعير، ومرقاً فيه دباء وقديد، قال أنس: فرأيت رسول الله يتتبع الدباء من حول الصفحة، فلم أزل أحبّ الدباء من يومئذ، وقال ثمامة عن أنس: فجعلت أجمع الدباء بين يديه".

 

 

القرع القاتل

كتب كثير من المسلمين عن فضل القرع وفائدته للإنسان، لدرجة اعتبروه فيها يحمي من أمراض السرطان، والسكري، ويكافح الفيروسات، والأمراض المعدية، بل يقاوم التجاعيد والأكسدة، ويفيد الجهاز الهضمي، والكبد، ويعمل على إنقاص الوزن، وغيرها من الأمور.

 مع أنّ القرع تعرّض للتشويه على يد المصريين فإنه نال قدراً من الاحترام والتقدير في كتب التراث الإسلامي

ومع ذلك؛ فإنّ نبات الكوسا، قد يكون قاتلاً أحياناً، فمع غناه بالفيتامينات؛ إلا أنه، في بعض الأحيان، يحتوي على سموم، كما أكد خبراء في التغذية لموقع "دويتشه فيليه" الألماني.

يحتوي هذا النبات على مجموعة من السموم الطبيعية، المعروفة باسم "كوكر بيتاسين"، وهي التي تعطي المذاق المرّ، وتناول الكوسا المرّة يتسبّب في عدة مشكلات صحية، منها: القيء، وتقلصات المعدة والإسهال، لكنّه يصل أيضاً إلى حدّ الموت في بعض الحالات.

اقرأ أيضاً: ما قصة صناديق النذور في مصر ولماذا تثير الجدل؟

وبطرق عديدة ومتنوعة، يطهى القرع، فيسلق ويحشى ويشوى ويملَّح ويسكر ويتداخل مع مأكولات أخرى، على نطاق واسع، وتجاوز ذلك؛ إذ يستخدم لحاؤه كإناء للطعام أو الشراب أو لحفظ الحبوب، وفي أحيان أخرى يستخدمه تجار المخدرات للتغطية بثمرته الكثيفة على زراعة النباتات المخدرة.

يضرب المثل الشعبي "زي القرع يمد لبره" لمن يذهب خيره للأغراب من غير أهل بيته

في التراث الإنساني

بات القرع فلكلوراً، حوّله الفنانون التشكيليون إلى تحف فنية وأشكال تراثية، ونُظر إليه باعتباره نباتاً خارقاً، يمكن للسحرة تحويل من يغضبون عليه إلى أحد أشكاله.

في حكاية سندريلا تتحول اليقطينة إلى عربة وعندما يأتي منتصف الليل تعود مرة أخرى إلى أصلها

حتى في حكاية سندريلا المشهورة؛ تتحول شجرة اليقطين إلى عربة، وعندما يأتي منتصف الليل تعود مرة أخرى إلى أصلها كما كانت،  لكن جذورها تمتد لأكثر من هذا في الأدب الغربي في كتاب واشنطن ايرفينغ "أسطورة سليبي قدس" وكتاب شكسبير "زوجات وندسور ميلاد سعيد"، وفي رواية "عصير القرع"، لــستاين، يتحول القرع لمشروب سحري، يمكنه فعل أشياء خارقة للعادة.

ويبرز القرع في الاحتفالات الفلكورية الغربية، كما يظهر في الهالوين؛ حيث ينحتونه على شكل فوانيس، وغيرها من الأشكال الأخرى؛ لأن الروايات تقول إنّ القديسين كانوا يفعلون ذلك.

اقرأ أيضاً: العيد في مصر: ثقافة البهجة تترنّح أمام صعوبات العيش ومكابداته

ولا تخلو الذاكرة الشعبية المصرية من ذكر أمثال يرد فيها القرع لكن بصورة سلبية، مثل: "زي القرع يمد لبره"، ويُضرب لمن يذهب خيره إلى الأغراب من غير أهل بيته وأقاربه الذين قد يكونون في أشد الحاجة إلى المعونة.

وثمة مثل آخر يقول: "القرع لما استوى قال للخيار يا لوبيا"، ومعناه: أنّ ثمرة القرع (اليقطين) عندما كبرت ونضجت، أصبحت ترى ثمرة الخيار الطويلة، كأنها حبة صغيرة مثل حبوب اللوبياء، يقال هذا للتعبير عمن ينتقص ممن كان يتقرب إليهم، وينظر إليهم بتكبر بعدما فتح الله عليه من حظوظ الدنيا.


آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية