لماذا لا نصغي؟ ..هل نحن مصابون بصمم وجودي؟

لماذا لا نصغي؟ ..هل نحن مصابون بصمم وجودي؟


21/11/2018

ماذا يعني أن نصغي؟ بالتأكيد لا يعني أن نسمع أو نستمع أو ننصت، هو حالة متجاوزة لما سبق؛ إذ ينصبّ الإصغاء على وعي ما يحدث وكيفيّة حدوثه، قد يتضح ذلك أكثر فيما طرحه "علي وطفة" من خلال القراءة التي قدّمها لكتاب "استكشاف وتقصي عادات العقل" لـ "آرثر ل. كوستا وبينا كاليك"، "الإصغاء ليس عملية بسيطة قوامها أن يفرد المرء أذنيه، ويسترخي في الاستماع إلى الآخر، إنّه فعلٌ نقدي تأملي وعملُ ذهني معقّد، يتضمن كثيراً من الفعاليات والقدرات الذهنية". وبناءً على ذلك  قد يكون لغياب الإصغاء الأثر الأكبر في تردّي مجتمعاتنا.

اقرأ أيضاً: عن الألم الإنساني والإيمان الروحي

تتكون بذرة الإصغاء وتبدأ في النمو عبر مراحل الطفولة، ويمكن لها أن تثمر إذا لم يتعرض الطفل للرواسب الطبشورية، التي تعمل على تغليف العقل والحواس، فهذه الرواسب ستحدُّ بالتأكيد من انطلاقة الطفل نحو الحياة والعالم، فالتمركز الطبيعي للطفل حول أناه سيتحول إلى تمركزٍ مرضيّ إذا لم ينته مع انتهاء مراحل الطفولة؛ لأنه حينها سيقفل على العقل بـ"أنا" متوّرمة تعتقد أنها تعرف كل شيء، وكل ما يدور حولها، هذا ما دفع "أريك فروم" للاعتقاد بأنّ فهم النرجسية هو المفتاح الأهم لفهم تصرفات الناس غير العقلية ولفهم الإنسان لنفسه.

بالطبع الأسرة هي المسؤول الأول وليس الأخير، عمّا يتسرب للعقل بفعل نمط التربية الذي تنتهجه، وكون الإصغاء هو سيرورة طبيعية لتعقّل الإنسان وارتقاء إنسانيته، فإن غيابه مؤشرٌ قطعي على تأخرٍ مايزال مستمراً في بنية المجتمع، فمن دون الإصغاء نحن لن نسمع سوى أصواتنا، ولن نسمع مِن حولنا سوى الضجيج الذي يملأ وجودنا.

الصمم الوجودي الذي لحق بالفرد في مجتمعاتنا ليس سوى صنيعة الصيغ القهرية التي لم تفرز سوى العنف والعدوانية والتطرف

تتعالى أصوات المربّين في كل مكان: أطفالنا لا يستمعون إلى كلامنا، بينما في الحقيقة ما تضمره هذه العبارة، لماذا لا يأتمر أطفالنا بأمرنا، وليس لماذا لا يصغون لنا، هذه العلاقة التي تحمل تهديداً مبطناً بالتمرد على سلطتنا، مردّها إلى أننا لم نصغ لهم في البداية، فالإصغاء لهم سيكلفنا التخلي عن عصا الطاعة التي تضمن سيطرتنا، وهذه العصا التي تلوّح بوجه الطفل  بصيغتي الأمر والنهي، والتي نتوهم أنها تحدد قيمتنا ومكانتنا، تقفل أيَّ باب للحوار، هذا الحوار الذي نرفضه؛ لأننا نرفض الاعتراف بالآخر المختلف وبامتلاكه رؤية مختلفة للعالم، فأي اعتراف بالآخر هو تهديد مباشر لسلطتنا، لذا ستلعب علاقة القهر والغلبة الدور الحاسم في بناء الوعي، وهي لن تتمكن من هذا، من دون إحلال التلقين مكان التعلّم.

اقرأ أيضاً: التنوير- مفاهيم إشكالية في الوعي الإسلامي المعاصر

أنماط الهيمنة التي تبرمج العقل بالتلقين، تدفعه إلى الانحياز، فأي عقل مُلقّن هو عقل منحاز، إنه ببساطة ينحاز إلى ما لُقنه، إلى المرجعيات التي رسمت له سقفه وحدوده. أليست جذور التطرّف تنمو على هذا الانحياز؟ إن فلسفة القبول التي تستبعد الانحياز من قواميسها تمكّن الإنسان من استعادة إنسانيته، فهي توجه الحكم اتجاه المكان الصحيح، اتجاه الفعل والواقع، وليس اتجاه النوايا، والأحكام القبلية التي لم تفضِ  سوى  إلى الخوف من الآخر والتوجس منه.

إن صراع الإرادات في معرض التنافس لن ينتج سوى حوار طرشان ولن يخلّف إلّا عالماً مشوهاً ينذر بالجحيم

هذا الخوف الذي يُقفل العقل بفعل الطاعة، يجعل من الطاعة واجباً، ومن ثم واجباً مقدساً، يحيل الإذعان وخضوع العقل إلى ولاء وانتماء، وتصبح الحقائق نهائيةً ومقدّسةً، وحتى تصبح بالفعل كذلك، لابد أن يكون التعليم تلقينياً يكرّس اللاوعي بدل من أن يحرّض الوعي، فتغدو القيم الإنسانية، كالحب والمساواة والعدالة، قيماً صورية، تتحطم عند هبوب أدنى ريح غريزية بتعبير إدغار موران،  ومن السهل دائماً مع التلقين استبدال الصور والرموز؛ فالتلقين ليس أكثر من أداة أيديولوجية لصناعة الغباء، وليس هناك موقفٌ أشدّ أسفاً حين تسأل طفلاً في حصة درسية عن رأيه الشخصي في أمرٍ معين، فيسارع لتقليب صفحات الكتاب بحثاً عنه، هذا الرأي بتعبير أريك فروم تمّ تطريقه خطوة بعد خطوة بمطرقة الأسرة ومن بعدها المدرسة، وخنق التفكير النقدي للطفل حتى لا يرد إلى ذهنه مزيد من الأفكار النقدية. لذلك هو لا يمتلك رأياً وسيبحث عنه خارجه.

اقرأ أيضاً: يوسف ربابعة: لن نبدع مادمنا نرفض أي تفكير خارج المألوف

يقول أريك فروم في كتابه "فن الإصغاء": "إذا لم أفكر نقدياً فأنا عرضة لكل التأثيرات ولكل المقترحات، ولكل الأخطاء ولكل الأكاذيب المنتشرة، التي أتلقنها من اليوم الأول فصاعداً. ولا يمكن للمرء أن يكون حراً، ولا أن يكون ذاته، ولا أن يكون له مركزاً في ذاته، ما لم يكن قادراً على التفكير نقدياً"؛ فالطفل الذي قلب صفحات الكتاب بحثاً عن رأيه، سيدلي عندما يكبر بالشيء ونقيضه من دون أن يرى الفرق أو أن يكون له موقفاً من العالم، وفي أحسن أحواله سيركب الموجة المواتية، ما سيعنيه فقط أوهامه المتخمة بفرديةٍ مزيفة، التي ترفض أن تشارك الآخرين أو تتقاسم معهم الوجود. 

أنماط الهيمنة التي تبرمج العقل بالتلقين تدفعه للانحياز إلى المرجعيات التي رسمت له سقفه وحدوده

ماذا يمكن أن يملأ وعاء التعاون الفارغ في مجتمعاتنا؟ غياب التعاون ينجم أصلاً عن التنافس، فمهما بررنا هذا السلوك البشري، سيبقى مرتبطاً بالجذور المتأخرة والاقصائية للوعي، فالآخر سيحتل دائماً ما أريده طالما لم أصل قبله. والمخيف في هذا التنافس المحموم، أننا برغم تبجحنا بالفردية والاختلاف نطمح بالحصول على الأشياء ذاتها، وإلى احتلال المقاعد نفسها، ليصبح العالم هَرَماً بدل أن يكون دائرياً ومتسعاً للجميع، إنّ صراع الإرادات في معرض التنافس، لن ينتج سوى (حوار طرشان)، ولن يخلّف إلّا عالماً مشوهاً ينذر بالجحيم.

اقرأ أيضاً: هل جنى الفقه على وعينا الإسلامي؟

الصمم الوجودي الذي لحق بالفرد في مجتمعاتنا ليس سوى صنيعة الصيغ القهرية، التي أُنشئ عليها منذ نعومة أظفاره، هذه الصيغ التي لم تفرز سوى العنف والعدوانية والتطرف وأسئلة الذكاء المنحططة، (كيف أحتال وأستغل وأغش وأتفوق وأنتصر؟)، بالإضافة إلى مجموعة مقولات أيديولوجية فارغة، تم تلقينها على أنها صيغ نهائية، وُضعت في عداد مسلماتٍ نقتل وقتنا في تلميعها، وهذا بالضبط ما يجعل كلاً من الخوف والقلق يتفشيان على جسد العالم كبقعة زيت مستعصية، وما يجعل سؤال لماذا ولمن نصغي مستعصياً على الفهم.

 


آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية