لماذا لا يرتدي الإمبراطور ثياباً؟

لماذا لا يرتدي الإمبراطور ثياباً؟


09/09/2019

توصّلت دراسة بريطانية إلى أنّ "الطفل في عمر الأربع سنوات قد يسأل ما بين 300 و400 سؤال في اليوم الواحد"، فإذا كان هناك 300 سؤال، هناك بالمقابل 300 إجابة، هذا الرقم الكبير دفعني بقوةٍ للتحقق من ذلك، وما حصلت عليه في نهاية اليوم لم يكن بعيداً عما أشارت إليه تلك الدراسة، وما جعلني أتوقف عند هذه الإحصائية ليس عدد الأسئلة فقط؛ بل طبيعة الأسئلة نفسها، والشكل الذي تتخذه الإجابات، إجاباتنا.

اقرأ أيضاً: لماذا نورث أطفالنا ما كان وبالاً علينا؟
تشير داليا تونسي، في حوارٍ لها حول كتابها "التساؤلات" إلى أنّ: "أسئلة الطفل هي أسئلة خالية من التحيز والافتراضات المسبقة وتراكمات ما قبل السؤال، هي أسئلة خام تبحث في الجوهر وليس في الكيفية، لذلك فطبيعتها تحمل عنصراً وجودياً".

نخاف من أسئلة أطفالنا لكنه خوفٌ مبطنٌ وغامض نواجهه بالاستهزاء والاستخفاف حيناً أو بالتجاهل وبالقمع

إشارة تونسي تحدّد في طياتها شكل العلاقة التي تربط الطفل مع العالم، هذه العلاقة المباشرة تتميّز بالتعرّف، الذي لا يمكن أن تحدث المعرفة من دونه، وطالما أنّ الحياة بين أيديهم هم دائمو الوجود؛ لأنّ الحقيقة لا تعنيهم بقدر المعرفة، ولا تعنيهم النتائج بقدر الأسباب، وما يودّون معرفته هو ما يعنيهم تماماً؛ فالعلاقة التي يصنعها الطفل هي تساؤل لا يقترن بالأحكام، ومن هنا تنبع براءتهم، التي نتغنى بها ونعمد في الوقت نفسه إلى خنقها.
تشكّل أسئلة الأطفال الحبل السرّي الذي يغذي وجودهم، لهذا يكتسب الإصغاء لهذه الأسئلة أهمية قصوى في نمو وعيهم ومداركهم، ولكن حين تعمينا إجاباتنا المعدة سلفاً عن أسئلتهم، سيلتفّ هذا الحبل على أعناقهم، وهنا تبدأ مساهماتنا الفارغة، في إنتاج عالمهم، وفتح الفرص الواسعة أمامهم للتعصب والتطرف؛ إذ إنّ الجذور العُصابية والاغترابية تنشأ في عالمٍ يسود فيه التلقين ويختفي التساؤل.

اقرأ أيضاً: ما الذي يجعل من الفرد فقيراً مهما امتلك؟
وهذا ما ذهبت إليه الكاتبة نوال السعداوي، في قولها: "يبدأ التطرف والجمود العقلي من الطفولة، حين يكفّ عقل الطفل عن طرح الأسئلة البديهية تحت اسم المحرم، ونتحول إلى ببغاوات نردد ما يقوله الآخرون"، وما يقوله الآخرون هو عبارة عن قوائم معدة سلفاً، تحمل طابع المسموح والممنوع أو المحلل والمحرم، وهذا ما يدعونا إلى أن نشجع الأسئلة التي نطمئن إلى إجاباتها، ونقوّض الأسئلة التي نفترض أنّها تحمل تهديداً.
نحن حقاً نخاف من أسئلة أطفالنا، لكنه خوفٌ مبطنٌ وغامض، نواجهه بالاستهزاء والاستخفاف حيناً، وبالتجاهل وبالقمع حيناً آخر، فمن جهةٍ، مسلماتنا التي لا يعترف بها الأطفال ستتهدد كلياً في فضاء تساؤلاتهم، أو ستتهدد الصورة التي نرى من خلالها العالم، وهي على الأغلب صورةٌ ضحلة، لم نتعِب أنفسنا في فهمها، ومن جهةٍ أخرى قد يدفعنا إلى ذلك العجز عن الإجابة، ومرده إلى جهلنا بعمقها ورفضنا الاعتراف بهذا الجهل، كما في صورة الطالب الذي قد يسأل أسئلة لا يمتلك المعلم إجاباتها، وإقراره بعدم المعرفة سيعني بالضرورة اهتزاز سلطته.

تشكّل أسئلة الأطفال الحبل السرّي الذي يغذي وجودهم لهذا يكتسب الإصغاء لها أهمية قصوى بنمو وعيهم ومداركهم

قد يكون أديسون مثالاً جيداً على الحالات السابقة بحكم معرفتنا بقصته، وإذا كان هذا المثال لا يكفي ما علينا سوى النظر إلى ما نطلقه على الأسئلة التي يطرحها أطفالنا؛ فنحن نَسِمُها بالمحرجة والغريبة والمخجلة والمزعجة، بالطبع ليس لأنها كذلك، ولكن لأننا لا نجرؤ على مواجهتها، تماماً مثل طفل الحكاية الذي صرخ في قصة "ملابس الإمبراطور": لماذا لا يرتدي الإمبراطور ثياباً؟ فما من أحد تجرأ على مواجهة الإمبراطور المخدوع غيره، لقد فضح الطفل الخيوط الكاذبة، ليس بقصد إحراج الإمبراطور، إنما هي البراءة التي تستطيع أن تصفع جميع التابوهات التي فُرِضت علينا.
فالبراءة التي تنتج الدهشة، تنجم عن الاتساع الذي يرى الطفل فيه العالم، إنه غير محدود بالنسبة للطفل؛ لأن أسئلته ليست محدودة، فإذا كانت الإجابات التي نقدمها، تهمل جوهر التساؤل وتلغيه، سيكون هناك الكثير من الحدود على عقولهم؛ فالتساؤل لا ينبثق من دون الاعتراف بجدارة السؤال والسائل، إنّه سؤال الندّ للندّ، وهو اعتراف بوجود وكينونة الآخر (الطفل)، واللذان يتفتحان فقط في حرية السؤال.

اقرأ أيضاً: "انتظر وانظر"... هل لعنة ميدوزا حاضرة في مجتمعاتنا؟
فمن خلال تجربتي مع أطفال في عمر 13 عاماً، كان من الصعوبة أن يطلقوا الأسئلة مقابل سهولة الأجوبة غير المفكّر بها أصلاً؛ فالخوف من المعرفة التي تهدد التسلّط والبنى الثابتة، عمل على طمس أسئلتهم الوجودية عبر مسيرة نموهم، ونفيها إلى قائمة الممنوع والمحرم، "فمجتمعنا الذي يفضّل أن يكون الجميع متأكداً من مجموعة لا بأس بها من الإجابات الجاهزة والآمنة، ولديه مخزون كافٍ ممّا هو متعارف عليه، ليتابع الصورة النمطية المقبولة لدى الجميع"، بتعبير داليا تونسي، جعل من هؤلاء الأطفال يرددون "لا أسئلة لدينا، لا أسئلة لدينا".

نوال السعداوي: يبدأ التطرف والجمود العقلي من الطفولة حين يكفّ العقل عن طرح الأسئلة البديهية تحت اسم المحرم

إنّ غياب التساؤل في مجتمعاتنا لا يعني غياباً للأسئلة، ولكن ضمن هذا الغياب سوف تحمل الأسئلة طبيعة مختلفة؛ إذ إنّ امتلاك حقّ السؤال يصبح حقاً حصرياً للأعلى، وهذا ما يشرّع أبواب التسلط، الذي يستثمر السؤال في نظاميّ المراقبة والعقاب الجزافيين، في ظلّ غياب حق المساءلة العام، أو قد تنحو الأسئلة منحىً استجدائياً، لا يتناقض مع طبيعة التسلط السابقة.
في كلتا الحالتين، سنشاهد على طول الخط في مجتمعاتنا غياب الحوار، الذي من المفترض أن يضطلع به التساؤل؛ فثقافة التمييز والتهميش تنفي حرية السؤال وتلغيه، وتجعل من الإجابة نهائية ومطلقة، مما يضيّق دائرة الوعي ويغلقها.
قد يكون عدم فهم أسئلة الأطفال هو نتيجة لنمط تربية عام يثوي في جذوره العنف، العنف الذي يمارس على المخيلة إقصاء متعمد أو غير متعمد،  يتعلق أساساً بقصديّة جرِّ الطفل إلى عالم الكبار، هذا العالم الذي سيجعلهم يستخفون بإجاباتنا لاحقاً كما نستخف بأسئلتهم الآن، وينصتون لنا بنفس الطريقة التي أنصتنا بها لهم، سنفتقد في العلاقة معهم لمفهوم الإصغاء الذي افتقدوه في العلاقة معنا، الإصغاء الذي لا يكتمل إلا بتوفر الاهتمام والمسؤولية والفهم، فإذا كانت إجابات أجدادنا لآبائنا هي نفسها إجاباتنا لأطفالنا، فلن نورثهم سوى عالم خالٍ من الأسئلة، يحولهم من فلاسفة الحياة إلى ميكانيكيي العيش.



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية