لماذا نورث أطفالنا ما كان وبالاً علينا؟

لماذا نورث أطفالنا ما كان وبالاً علينا؟

لماذا نورث أطفالنا ما كان وبالاً علينا؟


06/11/2022

إذا كان العالم قد وصل إلى ما وصل إليه اليوم، فهذا يعود إلى حجم الجهد المبذول لتحقيق ذلك، ولكن هل ساهمت بالفعل هذه الجهود في خلق علاقة صحيحة مع العالم، أو بين الأفراد في المجتمعات المختلفة؟
وبتعبير آخر؛ هل مكّنت هذه الجهود الأفراد من أن يعثروا على ما يجعلهم أكثر توازناً وصحةً ووفرة؟ في نظرةٍ سريعةٍ إلى العالم من حولنا؛ نجد أنّ الجهود البشرية تُبذَل في المكان الخاطئ؛ فالجميع يعيش اليوم في جوٍّ مشحون بالخوف والقلق والانتظار، هناك من يُسهم باستمرار في تغذية العالم بالعصاب، وقد يكون لمجتمعاتنا، التي تعيش انقسامات شتى، الحظَّ الأوفر في إنتاجه، وبالاعتماد على نظرية كارين هورني، المحللة النفسية الألمانية، عام 1952، ربما نتمكّن من تقصّي مدى تغلغل هذا العصاب في مجتمعاتنا.

اقرأ أيضاً: كيف نربّي قنّاصاً بارعاً؟
إذا كان ما يولّد العصاب، بتعبير كارين هورني؛ هو "القلق الناجم عن الشعور بالعجز تجاه عالمٍ مشحون بالعداء وشعور بفقدان الضمان"، فإنّ مجتمعاتنا تتوفر على بيئة مثاليةٍ لإنتاجه ونموّه، فالعصاب بالمحصلة؛ هو عدم توافق نفسي عنيف بين ما نريده وما نحن عليه، وهذا ما يجعل من الحواضن التربوية في مجتمعاتنا، تنتهج أنماطاً اجتماعية تغذي بشكلٍ لاواعٍ، السلوكيات العصابية للطفل، التي قد يكون أبرز أشكالها العنف؛ فالسعي إلى المكانة، الذي يقوم على إزاحة الآخر والتنافس معه واستفزازه والتذمر منه وعدم الثقة به، جعل الآخر عدواً، وساهم بقصدٍ أو من غير قصد، بتكوين خبرات الطفولة العنيفة، هذه الخبرات العنيفة بتعبير هورني؛ هي شرط لازم وضروري للعصاب، الذي ينشأ عن الشعور بالعجز والعدوان والعزلة.

الجهود البشرية تُبذَل بالمكان الخاطئ فالجميع يعيش اليوم في جوّ مشحون بالخوف والانتظار هناك من يُسهم بتغذية العالم بالعصاب

فبرأي هورني؛ إنّ "أكثر العوامل حيوية في تشكيل الشخصية هي العلاقات الإنسانية التي يعيشها الفرد في طفولته"؛ فهذه العلاقات بقدر ما تفتقد للأمن والحماية ستغذّي  لدى الطفل الإحساس الدائم بالقلق، ما سيدفعه إلى تنمية مختلف الأساليب ليواجه ما يشعر به من عزلةٍ وقلّة حيلة؛ "فقد يصبح عدوانياً أو سافر الخضوع، أو يكوّن لنفسه صورة مثالية غير واقعية، ليعوّض ما يشعر به من نقصٍ وقصور"، إنّ انتشار هذه الصور الثلاث بين أطفالنا اليوم، يشير إشارة فاقعة إلى افتقادهم للحبّ والاهتمام والأمان، في ظلّ أنظمةٍ تربوية تعمل عكس ما هو منوط بها.

اقرأ أيضاً: ماذا لو ربّت الذئاب طفلاً؟
فما نحاربه في أطفالنا، هو في الحقيقة، ما ندرّبهم عليه؛ لذا فالنتائج المترتبة على هذا الشكل من التربية تصبح إستراتيجيات لا واعية لدى أطفالنا، ومردّها -بحسب هورني- إلى محاولة أطفالنا خفض القلق لديهم، وتعويض نقص الحبّ والأمان، مما سيحوّل فيما بعد الحاجات الطبيعية  إلى حاجاتٍ عُصابية، وقد يكون أبرزها في مجتمعاتنا؛ الحاجة العصابية للقوة، التي تعمل على تقديس القوي واحتقار الضعيف، والتي تولّد حاجات عصابية أخرى، كالحاجة العصابية للتقدير الاجتماعي، باكتساب مكانة مرموقة، المكانة التي تحرّك الحاجة العصابية للطموح والإنجاز الشخصي، الذي يتعيّن بالشهرة والغنى، من خلال استغلال الآخرين، ومنافستهم، والسيطرة عليهم، بدل التعاون معهم والاستفادة من خبراتهم.

العدائية التي تحيط بالفرد ستجعل من الآخر عدواً إن كان بمقاومته أو الابتعاد عنه أو التبعية له

هذه الإستراتيجيات التي يحاول الفرد من خلالها خفض منسوب القلق، ستعمل على تحديد طبيعة علاقته بالآخرين، من خلال ثلاث نزعات حددتها هورني، وهي: "التحرك ضدّ الآخرين، والتحرك نحو الآخرين، والابتعاد عن الآخرين"، وإذا قمنا برصد واقع مجتمعاتنا، سنجد أنّ الابتعاد عن الآخرين هي النزعة الأضعف؛ بحكم نمط بيئتنا الاجتماعية التي تنمو فيها العصبيات، بالمقابل نزعة "التحرك ضدّ الآخرين" التي تتمثل بالسلطة والسيطرة والعدوانية، ونزعة "التحرك نحو الآخرين"، والتي تتمثل بالتبعية والخضوع، هما نزعتان تسيطران على العلاقات؛ بسبب الحاجة المستمرة لتأكيد الذات، ولكن بما يسحقها، فالعدائية التي تحيط بالفرد ستجعل من الآخر عدواً، إن كان بمقاومته، أو الابتعاد عنه، أو التبعية له، وسيجد أنّ الآخر يتجذّر في داخله أكثر، ليسيطر على جميع سلوكاته وأهدافه وطموحاته، وهذا بالطبع لن يحقق الطمأنينة له، إنّه يساعده فقط في الهرب من ألم القلق، الهرب الذي سيبعده عن ذاته أكثر.

اقرأ أيضاً: نعلّم أطفالنا القراءة.. فأين يختفي القارئون؟
عوداً على بدء؛ إنّ العالم الذي أنتجته العلاقات الإنسانية، هو المحصّلة النهائية لجملة الجهود المبذولة نحوه؛ لهذا فإنّ الاتجاه الذي تتخذه الإنسانية في سيرها؛ هو المؤشر على صحة أو خطأ ما ننتهجه، قد لا يشير الواقع الذي نعيشه اليوم إلى ما يسرّ في تقدمنا، ولكنّ الفرصة متاحة دائماً، فدعوات "أوشو"، في كتابه "ثورة في التربية"، ربما تحفزنا لإدراك مآزقنا، وصنع الفارق مع أطفالنا: "لا أدعوك أن تنجح، أدعوك لأن تكون إنساناً، لا أدعوك أن تصل إلى مواقع القوة، لكن أدعوك أن تصل إلى كيانك الداخلي؛ حيث يوجد شيء جدير بالاهتمام، أدعوك ألّا تتنافس مع أيّ شخص، لتتمكن من إيقاظ إمكانات إنسانيتك".

اقرأ أيضاً: أين المشكلة.. في التعليم المختلط أم في أنماط التربية؟
قد نتمكن من تجفيف العصاب، طالما أنّ هناك إمكانية لإدراكه، ولكن هذا الإدراك يتطلّب منّا الكثير؛ إنّه بالضرورة سينمو مع الحب والاهتمام، وهذا كلّ ما يحتاج إليه أطفالنا والعالم الذي نعيش فيه، فإذا انتظرنا أن يتغيّر العالم قد يكون انتظارنا بلا جدوى، بينما الإمكانية متاحة دائماً في أن نتغيّر نحن، هذه اللحظة بالذات هي التي ستتكفل بصنع الفارق.



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية