لماذا يذكّر فشل مفاوضات سدّ النهضة بمجاعة تأكل الأخضر واليابس؟

سد النهضة

لماذا يذكّر فشل مفاوضات سدّ النهضة بمجاعة تأكل الأخضر واليابس؟


27/05/2020

دعا الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريس، الأربعاء الماضي، لاتفاق ودي بين مصر والسودان وإثيوبيا، وفقاً لاتفاق إعلان المبادئ الموقع بين الدول الثلاث، بشأن سد النهضة الإثيوبي.
وشدد الأمين العام للأمم المتحدة، في بيان، على أهمية إعلان المبادئ الموقع عام 2015، بشأن سد النهضة، والدواعي للتعاون القائم على التفاهم المشترك، والمنفعة المتبادلة وحسن النية، وفقاً لمبادئ القانون الدولي.

حض الأمين العام للأمم المتحدة مصر والسودان وإثيوبيا على المثابرة في الجهود المبذولة لحل الخلافات المتبقية بالطرق السلمية

وقال الأمين العام للأمم المتحدة، بحسب وكالات أنباء، إنه يتابع التطورات المتعلقة بسد النهضة، عن كثب، لافتاً إلى التقدم الجيد في المفاوضات بين الدول الثلاث.

وحض غوتيريس، الأطراف الثلاثة على المثابرة في الجهود المبذولة لحل الخلافات المتبقية، بالطرق السلمية، وتحقيق اتفاق مفيد.
وناقش رئيسا وزراء مصر والسودان، ووزيرا الخارجية والري، ورئيسا جهازي المخابرات في البلدين، تطورات الأوضاع بشأن ملف سد النهضة الإثيوبي، وذكر بيان للخارجية المصرية، أنّ الاجتماع الذي عقد عبر تقنية "الفيديو كونفرانس"، تناول ملف سد النهضة الإثيوبي من كافة جوانبه.

 الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريس
وقال رئيس وزراء السودان، عبد الله حمدوك، خلال الاجتماع، إنه سيجري اتصالاً برئيس الوزراء الإثيوبي، آبي أحمد علي، لاستيضاح موقفه إزاء العودة إلى مائدة المفاوضات، على أساس مسار واشنطن.
مفاوضات سدّ النهضة، بين مصر وإثيوبيا والسودان، تتم بوتيرة متسارعة، لمنع النتائج الكارثية التي ستترتب على ملء هذا السدّ، خاصة للجانب المصري الذي يعتمد بشكل أساسي على مياه النيل.
وتأمل مصر في ملء السدّ على مدار عشرة أعوام على أقل تقدير، خوفاً من مجاعة محتومة، ستأتي بسبب تقليص ما لا يقل عن 50% من مساحة مصر الزراعية.

اقرأ أيضاً: محادثات سد النهضة: هل ثمّة ضوء في آخر النفق؟
وتحتفل الأمم المتحدة، في 22 من آذار (مارس) من كلّ عام، باليوم العالمي للمياه، والذي يهدف إلى التوعية بمصادر المياه العذبة وسبل الحفاظ عليها واستدامتها، بينما تعيش مصر في إطار بناء سدّ النهضة، أيام عصيبة بسبب عملية ملء السدّ، كتبت إثرها الأستاذة المساعدة في هندسة البناء بالجامعة الأمريكية بالقاهرة "شيرين البرادعي"، مقالاً بعنوان: "مآلات سدّ النهضة الإثيوبي على مصر"، موضحة أنّ التأثير الذي يخشاه المصريون من بوار الأرض يمكن تجنّبه بمفاوضات سياسية، تتيح المياه للجانب المصري في مواسم الزراعة والفيضان، وهو ما يمكن أن يحدّ من الأزمة، كما أنّ الاتفاق على جدول تشغيل يمكن أن يكون أحد الحلول المجدية، ويتطلب مزيداً من الجهد الدبلوماسي والعلمي في إقناع الطرف الآخر، لكنّ ما يخشاه المصريون حقاً هو شحّ مياه النيل، التي لا يملك المصريون مصدراً للمياه العذبة سواها، منذ آلاف السنين، أما العلماء فخشيتهم تشمل أيضاً تأثير هذا السدّ على التوازن البيئي للنهر، والكائنات الحية بداخله، وما ستؤول إليه هذه التغيرات من انتشار أمراض مزمنة، وكذلك خلق أمراض جديدة ربما لم نسمع بها من قبل.

اقرأ أيضاً: هل يشعل سد النهضة الإثيوبي أول حرب على المياه في العالم؟

ليست هذه المرّة الأولى التي تتعرض فيها مصر لأزمة مائية في تاريخها؛ إذ تحمل لنا سجلات التاريخ عدة حوادث على نقص منسوب مياه النيل، الذي لم يأتِ إلّا بكوارث على الحجر قبل البشر، كانت أشهر تلك الوقائع، ما حدث في الشدة المستنصرية، التي صارت حالياً حديث الناس في المقاهي والتجمعات، والتي مهدّت لها عدة حوادث؛ بدأت بعد تمكّن الفاطميين من السيطرة على مصر، وانتزاعها من الخلافة العباسية، وبسط نفوذهم وعقد تحالفات مع الدولة البيزنطية؛ إذ توجهوا إلى تحويل المصريين من المذهب السنّي إلى الشيعي، وأخذوا ينفقون ببذخ في هذا الشأن، فأفاضوا على الناس من الأموال والموارد ما فاق قدرة الدولة على تحملها، فالدولة التي امتد عمرها قرابة الثلاثمئة عام، صنعت كلّ ما في الإمكان لتغيير مذهب المصريين، وحين لم يجدِ الأمر نفعاً انتشر ما عُرف تاريخياً باسم "تشيُّع البطون"، وهو إعداد موائد ضخمة في الشوارع والطرقات بشكل يومي للفقراء والبسطاء والعامة وعابري السبيل، فأنفقت الدولة في هذا الشأن ببزخ لا مثيل له، بحسب ما أوضح مدرّس التاريخ الإسلامي بجامعة طنطا، الدكتور محمد فيّاض، لـ "حفريات"، حيث أوضح أنّ "الفاطميين اهتموا بالشأن الاقتصادي لمصر، نتيجة معرفتهم بمواردها وكثرة الخير فيها، فبددوا الأموال، لا لشيء إلّا أن يتشيّع العامة من المصريين، وهذا لم يجد جدواه كما كانوا يأملون".

"اتعاظ الحنفا في ذكر الأئمة الخلفا" للمقريزي

بداية النهاية
جاء الخليفة الظاهر، والد المستنصر، ونُصّب للخلافة وهو ابن 16 عاماً، فكانت عمته هي الحاكم الفعلي للقصر، نتيجة صغر سنّه، وفي شبابه الأول اشترى جارية نوبية، تدعى رصد، من نخاس يهودي، وتزوجها لينجب ابنه الخليفة المستنصر بالله، والذي نُصبّ للخلافة وهو لم يتجاوز الثمانية أعوام، فأصبحت أمّه هي الحاكم الفعلي للبلاد، وجرى ذكرها في المصادر التاريخية بعدة ألقاب، فكانت تدعى بـ "السيدة، الملكة، الجهة الجليلة، والستر الرفيع، ومولاتنا"، ونتيجة لتضارب العديد من الجبهات والتحالفات السياسية داخل الدولة، فهناك عنصر السنّة، والسودان، وهم جماعة من العبيد الأفارقة كانت تميل إليهم أمّ الخليفة، وكذلك عنصر الترك الذي كان ما يزال مسيطراً على جبهات عدة من السلطة، أخذت الدولة وسياساتها في تضارب مستمر، ولم يلبث وزير في مكانه، فكانت رصد تعين من تشاء من الوزراء والعسكر، وتخلع من تشاء، إلى جانب التحالفات الأخرى التي أخذت في تحركاتها وأشعلت الفتن هنا وهناك، ومن هذا الاضطراب الذي عمّ الدولة وعدم انتهاج سياسات اقتصادية واضحة أخذت الأزمات تتابع على المصريين تباعاً.

التأثير الذي يخشاه المصريون من بوار الأرض يمكن تجنّبه بمفاوضات سياسية، تتيح المياه للجانب المصري في مواسم الزراعة والفيضان

حكَم الخليفة الفاطمي، المستنصر بالله، ستّين عاماً كاملة، من 427هـ إلى 487هـ، تقلّبت فيها الأوضاع السياسية ومرت بعدّة منعطفات بين الشدة والرخاء، حتى عام الأزمة، وكما المعتاد في الأحداث التاريخية، التي دائماً ما يكون وراءها سبب مباشر، وهو ما يراه الناس، وآخر غير مباشر، وهو المتسبب الحقيقي في الأحداث، فالخليفة المستنصر، الذي حكم كلّ هذه الأعوام لم يُحكم قبضته على الدولة كما ينبغي، حتى وقع الغلاء الأول في وزارة الناصر لدين الله اليازوريّ، بسبب نقص منسوب النيل، عام 444 هـ، ولا يوجد في خزائن الدولة شيء من الغلة، الجدير بالذكر؛ أنّ الدولة الفاطمية، بامتداد تاريخها، وقعت فيها العديد من حالات الاحتكار للسلع، والتضخم الذي طال العملة وأزمات الصرافة المتلاحقة، كلّ تلك الأزمات وأشكال الاحتكار وعدم الانضباط في الأسواق، نتيجة انشغال الدولة بالصراعات السياسية بين التحالفات المتضاربة داخلياً، والحروب مع الدولة العباسية خارجياً، أدى ذلك إلى اشتعال الأزمة التي بدأت بنقص في منسوب مياه النيل ووقف استيراد الغلة نتيجة انخفاض العملة، فارتفعت الأسعار، وشحّت السلع، وبدأ الناس في التململ.
وعمّت الفوضى
وبسبب ذلك قُتل الوزير،  واشتدت الاضطرابات، مع استمرار منسوب النيل في الانخفاض، وبدأ الوزراء يتوافدون على السلطة ولا يكمل حكم الواحد منهم ربما يوماً واحداً حتى يُخلع، وقلّت الأموال في خزائن الدولة، ولم يحسن الخليفة تدبير الأموال، فاحتدّت الأمور بعد خمسة أعوام من عمر المجاعة، التي امتدت بين عامَي457هـ إلى 464هـ، وبحسب ما ذكر المقريزي والبغدادي في رواياتهما عن تاريخ المجاعة؛ فإنّ الحسَن بن الهيثم قد مرّ على مصر، واقترح عليهم بناء سدّ لتخزين مياه الفيضان، التي يمكن أن تقي مصر شرّ الجفاف، إلّا أنّ اقتراحه قوبل بالرفض، وأعقبت ذلك مجاعة كان يمكن تفاديها بإقامة السدود، ولروايات المقريزي دور مهم في رصد سياسات تلك الحقبة الزمنية، ففي مجلده "اتعاظ الحنفا في ذكر الأئمة الخلفا"، يذكر المقريزي أنّه في عهد المستنصر كثرت الشكاوى، وبلغت قرابة ثمانمائة شكوى يومية تصل إلى قصر الخليفة فاختلط عليه الأمر، وبات يخلع الوزراء وينصّب قضاة ثم يخلعهم.

في عهد المستنصر كثرت الشكاوى، وبلغت قرابة ثمانمائة شكوى يومية

أصبحت الدولة في أيدي العسكر الترك، الذين هاجموا الخليفة وطالبوا بزيادة رواتبهم في ظلّ الأزمة، وقاموا بتأجيج الصراعات أكثر، ومن تلك الصراعات واجهت الدولة مشكلة أخرى؛ كانت هروب الفلاحين من الأرض، نتيجة نقص الغلة، وزيادة الضرائب فبارت الأرض، وتكدّسَت المُدن بالسكان بحثاً عن الطعام والملاذ الآمن، فبدأت الأزمة في التفاقم، وانتشرت حوادث السلب والنهب، وكثر اللصوص وقطاع الطرق، وأغاروا على بيوت الأثرياء ونهبوها، فعمّت الفوضى، وقلّت السلع، حتى الذهب انعدمت قيمته، ومات الناس جوعاً وكان الرجل يبتاع بعض الغلة ليقتات بها بما يملك من الذهب والفضة، فباع الناس بيوتهم وسكنوا في العراء طلباً للطعام، وامتدت الأزمة نحو الأسوأ، استمرّت المجاعة في التفاقم، ولم يجد الناس ما يأكلونه، فبدؤوا بأكل الحيوانات، ثم أكلوا الجيفة، ونُبشت قبور الموتى، وأُكلت لحومهم، فبدأ الخليفة باستعادة القانون، وقتل كلّ من يأكل لحماً بشرياً، حتى إذا أعدموا بين الناس، تصارع العامة لأكل لحومهم من شدة الجوع، حتى بلغ الأمر أكل الناس لأطفالهم.
بلغ السيل الزبى
في كتابه "الإفادة والاعتبار في الأمور المشاهدة والحوادث المعاينة بأرض مصر"؛ يذكر الطبيب والمؤرخ عبد اللطيف البغدادي ما حدث بتلك المسبغة (أي المجاعة الشديدة)، فذكر أنّ الناس كانوا يطهون لحوم أطفالهم، ويصنعون الكلاليب والخطاطيف لاصطياد المارة أسفل البيوت وأكل لحومهم، حتى كان العسكر إذا شموا رائحة الطهي دخلوا إلى بيت ليجدوا الرجل وامرأته يطهيان أطفالهما، ويردّان على العسكر الذين يقتادونهما للمحاكمة، "إذا لم نأكلهم نحن فسيفعل غيرنا، فنحن أولى بلحوم صغارنا"، ويستفيض البغدادي في ذكر الحوادث التي روّعته من هولها، وربما بالغ الناس في تلك الحكايات وعظموها، ولكن بها قدر كبير من الصحة، فما فعلته المجاعة بمصر يتعذر على العقل البشري استيعابه، فذَكر أنّ الخليفة باع كلّ ما يملك، ولم يتبقَّ لديه سوى بغلة، ركب عليها وذهب للصلاة ذات مرة، وحين خرج إذا بالناس أكلوها نيئة، وكان الناس كلّ يوم يقتلون لأكل بعضهم.

اقرأ أيضاً: المقريزي يحلل أسباب الفساد والغلاء

أصبح الأمر مستساغاً بين الناس ولا يستغربونه، فكانت الأم تأكل رضيعها، ويذبح الرجل أطفاله ويتصيّد المارة عبر نافذة بيته لأكلهم، حتى هلك معظم الناس، وربما هلك ما يزيد عن نصف المصريين حتى قلت أعدادهم، وما يزال الخليفة حيّ يرزق، ولكن بعد أن انحدر به الحال، ومسّته المجاعة، واستمرت المسبغة، جاء المنقذ "بدر الجمّالي"، الذي استدعاه الخليفة آملاً أن يضع حداً لتلك المأساة، وهو ما حدث؛ إذ تزامن دخوله إلى مصر مع بداية زيادة منسوب النيل، وبدأ في فرض رقابة على الأسواق، وأصبح الحاكم الفعلي لمصر، حتى وفاته في الثمانين من عمره.



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية