لماذا يشيع التطرف الديني بين النخب المجتمعية أيضاً؟

لماذا يشيع التطرف الديني بين النخب المجتمعية أيضاً؟


27/01/2021

تستند الرؤية النمطية في تحليل ظاهرة التطرف الديني إلى وجود علاقة بين التطرف   والظروف المجتمعية والاقتصادية، والتي كانت وما زالت وسيلة الجماعات الراديكالية الساعية لاستقطاب المواطنين، إلّا أنّ اختزال ظاهرة التطرف في هذا الإطار فقط يشوبه الكثير من المغالطات والتنميط.

 فظاهرة التطرف الديني ليست حكراً على الفقراء والمهمّشين أو غير المتعلمين، فليس كلّ الفقراء إرهابيين، وليست كلّ النخب مؤمنة بالحرّيات الفردية والدينية. 

كم من دواعش يعيشون بيننا؟ 

ظاهرة شيوع التطرف الديني بين الميسورين مادياً، أو المتعلمين، أو الذين نالوا درجات علمية ما بعد التعليم الجامعي، تثير الكثير من التعجب، وهو ما أدّى إلى شيوع عبارة "كم من دواعش يعيشون بيننا؟"، وتقال العبارة السابقة على سبيل التنديد، واستغراب تلك  الظاهرة.

تستند الرؤية النمطية في تحليل ظاهرة التطرف الديني إلى ربطها بالظروف المجتمعية والاقتصادية

لكنّ دراسة ظاهرة التطرف الديني لا تستند إلى التنديد، وإنما السعي إلى تفنيدها بعيداً عن التصورات الذهنية الشائعة، ممّا يتطلب البحث في الأنماط المتعددة لظاهرة التطرف، وعدم الاكتفاء بأسبابها الاجتماعية والاقتصادية فحسب، وإنما تقصّي الأسباب الإيديولوجية  والعقائدية التي صنعتها أيضاً؛ ممّا يستدعي النظر في ظاهرتين على النحو التالي:

أوّلاً: نظرية المطرح الاجتماعي واستقطاب المهمّشين.

ثانياً: الإيديولوجيا المتطرفة العابرة للطبقات المجتمعية.

أوّلاً: نظرية المطرح الاجتماعي واستقطاب المهمّشين

يتراءى لبعض الباحثين، مثل د.سعود المولى، ضرورة التركيز على البُعد المجتمعي في ظاهرة الاستقطاب الديني، كما ورد في كتابه: السلفية اللبنانية في تمظهراتها الجديدة، الصادر في العام 2014، حيث يقول: إنّ المسجد هو المطرح الاجتماعي؛ أي إنّه يحلّ محلّ المقهى، أو هو استكمال له في ظروف الفقر، فيصبح بالنسبة إلى الشباب مكاناً يتحرّرون فيه من العوز والاغتراب الذي يشعرون به في المجتمع.

هذه الظاهرة ليست حكراً على الفقراء والمهمّشين أو غير المتعلمين

بالرغم من أنّ ما طرحه د.سعود فيه الكثير من الواقعية، إلّا أنها قد تكون مجتزأة بعض الشيء، لذلك يمكننا تقديم رؤية نقدية لهذه النظرية، نضيف إليها أنّ المطرح الاجتماعي البديل ليس بالضرورة ملتقى للفقراء المهمّشين، بل قد يكون ملتقى للميسورين المتعلمين والحائزين على شهادات عليا، الذين يسعون للجهاد بأموالهم وعتادهم في سبيل تصوراتهم الإيمانية النابعة من الإيديولوجيا الدينية حسب قناعاتهم، وليس بسبب التهميش المجتمعي.

اقرأ أيضاً: العلمانيوفوبيا: رهاب العلمانية في خطاب التنظيمات الراديكالية

الأمثلة هنا عديدة، وعلى سبيل المثال لا الحصر، إذا تتبعنا أسوأ عملية إرهابية مسلحة في تاريخ بنغلاديش التي استهدفت أحد المقاهي في العام 2016، فسنجد أنّ منفذي العملية ينتمون لطبقة النخبة الميسورة والمتعلمة، ممّا كان له وقع الصدمة على المجتمع هناك.   وهؤلاء كانوا يجتمعون أيضاً فيما يمكن أن نسمّيه المطرح الاجتماعي، ولم يكن هذا المطرح مسجداً.

ثانياً: الإيديولوجيا المتطرفة عابرة للطبقات المجتمعية

إذن تلك الإيديولوجيا المتطرفة دينياً عابرة للطبقات المجتمعية، ويمكن رصدها ما بين النخب والميسورين والفقراء والمهمّشين على حدٍّ سواء. 

أثارت ظاهرة الإرهابي المتطرف المنتمي لطبقات النخبة المجتمعية الكثير من الجدل مؤخراً في بلدان المنطقة وخاصة باكستان، لا سيّما أنّ مراكز مناهضة الإرهاب ظلت توصي بالاهتمام بالتعليم المدني لمواجهة الفكر الجهادي الذي يتمّ تدريسه في المعاهد أو المدارس الدينية.  

الإيديولوجيا التي لا تدعو لحمل السلاح قد تلجأ إلى أساليب أخرى تحريضية

في هذا الصدد، تقول الباحثة مديحة أفضل، من خلال كتابها الصادر في العام 2018 وعنوانه: باكستان تحت الحصار: التطرف والمجتمع والدولة: "يمكن رصد فئات متعلمة ونخبوية داخل الجماعات الإرهابية المسلحة بالفعل، إلّا أنه بشكل عام لا تفضّل تلك النخب المتعلمة الانضمام لتنظيم القاعدة أو حركة طالبان، إلّا أنّ نسبة ليست بالقليلة من الجامعيين المنتمين لطبقات ميسورة أعربت عن إعجابها بالنسق الجهادي لهذه التنظيمات".

وتعرّضت الباحثة لموقف الجامعيين وغير المتعلمين من قضية إقامة الحدود، ولم يكن هناك فارق في الخلفية العقائدية ما بين الفئات الميسورة والفقراء في هذا الصدد، بدون تعميم بالطبع. ما سردته الباحثة مديحة أفضل في دراستها ليس حكراً على باكستان وحدها، بل ظاهرة منتشرة في منطقة الشرق الأوسط بشكل ملحوظ.

اقرأ أيضاً: أسلمة الراديكالية: هل نجحت القراءة السائدة للعنف الجهادي؟

 وهذا البحث ينبغي ألّا يكون مفاجئاً في نتائجه، فهجمات 11 أيلول (سبتمبر) نفذتها مجموعة من المتعلمين الميسورين الذين دفعتهم تصوراتهم الإيديولوجية الراسخة لارتكاب ما فعلوه. 

وربما يمكننا هنا ذكر مصطلح النخب الجهادية الذي أثاره أبو مصعب السوري في كتابه دعوة المقاومة الإسلامية العالمية، الذي عمل لفترة في لندن، حيث أسّس مكتب دراسات صراعات العالم الإسلامي.

ظاهرة التطرف غير المسلح بين المتعلمين 

لكن هناك ظاهرة قد تبدو في درجة الخطورة نفسها، حتى وإن لم يكن هناك اهتمام لائق بها، وهي ظاهرة قد نسمّيها التطرف الديني المسالم أي غير المسلح، وهنا استخدمنا لفظ "المسالم" وليس "السلمي" عن قصد، فما يبدو مسالماً قد يكون ذلك لعدم قدرته على ممارسه سطوته على الآخرين، وليس نابعاً من احترام الاختلافات. 

اقرأ أيضاً: العرب وفخ التحول الراديكالي

 تلك الظاهرة لا تحرّض على الإيذاء البدني بشكل مباشر، وإنما تحرّض على السجن أو اتخاذ إجراءات تعسفية ضد الآخرين، وهي ظاهرة مجتمعية شائعة، سواء بين الفئات المتعلمة أو غير المتعلمة؛ لأنها قائمة على قناعات راسخة حسب تصورات أصحابها، وليست ظروفاً مجتمعية أو اقتصادية، ومن هنا تنبع خطورتها.

وتكتسب تلك الظاهرة تأثيراً مجتمعياً أكبر حين تنطلق من دوائر النخب المجتمعية.  

ومن بين تلك الأنماط الجديرة بالدراسة في العالم العربي بشكل موسع؛ ظاهرة التحريض ضد حركة الحقوق والحرّيات الفردية، التي قد تتمّ بزعامة بعض الأكاديميين أو القضاة أو الفنانين أو الإعلاميين، الذين لا يمتّون بصلة إلى الجماعات الراديكالية، بل قد يختلفون معها تنظيمياً، ويتفقون معها فكرياً. وتقوم تلك الفئات النخبوية بتحريض وتحريك الوازع الديني لدى الجماهير، وقد تحتمي راديكالية طبقة النخبة بالجماهير تارة، وبالنظام العام وسلطة قانون العقوبات تارة أخرى؛ أي إنّ القانون قد يتضمّن بعض المواد المبهمة التي تدعم هذه المواقف، ومن بينها قوانين الحفاظ على قيم المجتمع وعقيدته، ومعاقبة من يخالف الإطار القيمي العام. 

اقرأ أيضاً: الإسلاميون الراديكاليون إذ يستعيرون طرائق العنف الثوري لليسار

ومن هنا بزغت ظاهرة المحتسبين الجدد الذين ينتمون لطبقة ميسورة أو متعلمة، لكنهم  يمارسون الحسبة الدينية على المجتمع، وبالتالي فإنّ ارتباط ظاهرة التطرّف بالفقر والتهميش المجتمعي وحده ليست منضبطة.

ويغفل هذا التصنيف دور الطبقة المتوسطة بمستوياتها المختلفة، إمّا في دعم الحراك الحقوقي،  وإمّا في الوقوف ضده ودعم الحسبة الدينية، وهذا لأنّ الانحيازات مبنية على التوجهات العقائدية وليست الظروف المجتمعية أو الاقتصادية وحدها، ومن هنا كان الاهتمام بالتكوين العقائدي لظاهرة التعصب الديني ضرورياً في إطارين تعريفيين آخرين، وهما: 

 أوّلاً: الإرهاب المسلح، وثانياً التطرف الديني المسالم؛ أي غير المسلح، ودراسة العلاقة الترابطية بينهما.    

التطرف الديني غير المسلح: هل هو نواة الإرهاب المسلح؟

لم يكن الإرهاب المسلح وليد جماعة متطرفة خارجة عن الأعراف، بقدر ما كان نتاجاً تراتبياً لتطور التطرف والتعصب اللفظي والفكري إلى إرهاب مسلح مدعم بتنظيمات راديكالية، وفي بعض الأحيان قد لا يحتاج الإرهاب المسلح إلى تنظيم يموّله، بعد انتشار ظاهرة الإرهاب الفردي المستند إلى عقيدة حربية، وهو ما تمّ التطرّق إليه في مقال سابق بعنوان: الذئاب المنفردة: هل هو إرهاب عشوائي بالفعل؟   

التعليم النمطي لا يمحو التعصب الديني بالضرورة بل قد يساعد المتعصب على أن يبدو تطرفه منطقياً

 فالإيديولوجيا التي لا تدعو لحمل السلاح قد تلجأ إلى أساليب أخرى تحريضية، وتحتمي تلك الأساليب في ادعاءات الحفاظ على قيم المجتمع وثوابته. ومن هنا قد يتمّ رصد نمطين للتعصب الديني من بين الفئات المتعلمة؛ أوّلهما الإرهابي المسلح، وثانيهما المتطرف دينياً، الذي يرفض حمل السلاح، لكنّه يدعو إلى ممارسة الحسبة على المجتمع.

لذا، فإنّ ارتباط التطرف الديني بحمل السلاح وحده دون التعرّض للإيديولوجيا التي صنعته، حتى وإن بدت تلك الإيديولوجيا مسالمة؛ أي لا تدعو لحمل السلاح، هو أكثر الأخطاء الشائعة في دراسة أسباب ومظاهر التطرف.

ما بين التعليم التلقيني والتفكير النقدي  

التعليم النمطي لا يمحو التعصب الديني بالضرورة، بل قد يساعد المتعصب على أن يبدو تطرفه منطقياً، أو يضفي عليه شيئاً من الوقار والحكمة بين العوام.

يتفوّق التعصب الديني وما يتبعه من إرهاب مسلح على الشهادات العلمية، إن اعتمد التعليم على التلقين وغاب عنه التفكير النقدي الحر، وقد يتفوّق التعصب الديني على أنظمة التعليم التي تستند إلى التفكير النقدي أيضاً، إن كان الطالب يتعامل معها على طريقة الضرورات تبيح المحظورات؛ أي إنّ نيل الدرجة العلمية يصبح هدفاً في سبيل خدمة إيديولوجيا التعصب الراسخة في وجدانه. 

على الرغم من ضرورة الاهتمام بالتعليم أو ما يُعرف بثقافة التنوير والمشاريع التنموية في الطبقات المتوسطة والأدنى، وعلى الرغم من عدم إنكار دور الظروف المجتمعية  والاقتصادية في استقطاب المواطنين تجاه الفكر الراديكالي، إلّا أنّ عدم التعرّض للسياق الإيديولوجي وتهميش دوره في صناعة التطرف، يُدخل المجتمع  في دوائر مفرغة.

الصفحة الرئيسية