لهذه الأسباب تنتشر ظاهرة تبييض البشرة بين السودانيات

السودان

لهذه الأسباب تنتشر ظاهرة تبييض البشرة بين السودانيات


22/09/2018

"الحمد لك يارب؛ أن جلعتني ذا بشرةٍ سوداء، الأبيض هو لون المناسبات الخاصة، الأسود لون الأيام العادِّية، وأنا أحمل العالم منذ بداية الزمان".

لم يكن الشاعر الإيفواري (برنار داديي) يعلم، حين كتب قصيدته هذه، أنّ أمراً فظيعاً سيحدث يوماً ما في بلد إفريقي آخر؛ بأن يصل هوس الانتماء للعروبة بشريحة واسعة من مواطنيه حدّ العمل الدؤوب والمستمر على الخروج من (لون) بشرتهم الداكن، في طلب محموم للونٍ آخر، يقرّبهم زلفى إلى ما يدعون، وظلت النُخب السودانية لاهثة لتحقيق هذا (الهدف الإستراتيجي)؛ ليس عبر كريمات التبييض وحدها، فهذه جاءت متأخرة نسبياً، واختصت بها النساء؛ كونهنّ الشريحة الأضعف، فلا بأس من استخدامهن (فئراناً) لتجارب فاشلة!

اقرأ أيضاً: ماذا تخبرك الأزياء عن رحلة التحولات السياسية والدينية في السودان؟

وتتويجاً لتنظيرات فكرّية ومفاهيم ثقافية، تبلورت منذ استقلال البلاد، وتم دعمها باستمرار من قبل الحكومات المتعاقبة، مُذّاك وحتى الآن، انتشرت "ظاهرة" تبييض البشرة وسط النساء السودانيات، وتفاقمت بشكلٍ يدعو للقلق، منذ استيلاء الإخوان المسلمين على السلطة عبر انقلاب حزيران (يونيو) العام 1989؛ حيث تصاعد الهوس الإسلاموي المقترن بالعروبة، فصارت المرأة (بيضاء) البشرة، إن وجدت، تجد حظاً وافراً في مخلتف مناحي الحياة؛ فاللون الفاتح صار مفتاحاً للنجاح والزواج و(الحظوة) لدى السلطة السياسية، والتوظيف في القطاعين؛ العام والخاص، خاصة في القنوات التلفزيونية وخلافها.

انتقدت الكارب إخضاع النساء للمماثلة في الزيّ والشكل

موت بطيء

مضت نحو ثلاثة أعوام؛ مُذ أطلقت رابطة طلاب كلية الصيدلة بجامعة الخرطوم مبادرتها المشهورة "بشرتي من ذهب، وأنا فخورة بها"، من أجل توعية الفتيات السودانيات بمخاطر استعمال كريمات تبييض البشرة، وإقناعهن نفسيّاً بالإقلاع عن استخدام هذه المركبات الخطيرة على صحة الجلد، والتي غالباً ما تتحوّل إلى سرطان قاتل، وأنّ لون البشرة الطبيعي أغلى من الذهب، ولا يشوب البشرة السوداء أيّ قبح يدعو (صاحباتها) إلى التخلص منها، واستبدالها بأخرى مشوّهة ومريضة.

الكارب: تعريف السودانيين المرتبك لذواتهم يتجلّى عند التعامل مع النساء بإخضاعهنّ لمزاج الأيديولوجية المهيمنة

وكشفت المبادرة أنّ الخطر الذي يواجه فتيات السودان من استخدام كريمات تبييض البشرة كبير، ولا يمكن تجاهله؛ هو مرض سرطان الجلد، الذي يفضي إلى الموت في كثير من الحالات، وعزت تفشي الرغبة في تغيير لون البشرة لدى السودانيات، إلى الإعلام المرئي، خاصّة المحلّي، الذي يستهدف المشاهد السودانية؛ حيث يضع لون بشرة المذيعة معياراً وحيداً للجمال والكفاءة.

وأشارت المبادرة إلى أنّ المجلس القومي للأدوية والسموم، حظر تداول أكثر من (31) منتجاً قاتلاً لتبييض البشرة، مثل: الأستروئيد والهيدروكينون، فيما كشف التقرير السنوي لمركز الإحصاء بمستشفى الخرطوم للأمراض الجلدية، الصادر في العام نفسه، عن أنّ المستشفى استقبل 80739 حالة العام الماضي، منها 20852 حالة تشوّهات ناتجة عن استخدام "كريمات تبييض البشرة"، بما يعادل نسبة 25.8% من جملة الحالات التي يستقبلها المستشفى، بعدما غزت الأسواق الشعبية السودانية، في الأعوام الأخيرة، مستحضرات التجميل مجهولة المصدر، وأكدت تقارير طبية أنّ المحلات التجارية التي تبيع كريمات تبييض البشرة عادة ما تلجأ إلى بيع منتجاتها بطريقة لا تتطابق مع المواصفات الطبية، ودون الحصول على استشارات طبية، الأمر الذي أدّى إلى تزايد أمراض الجلد وسط الفتيات.

اقرأ أيضاً: هل سواد البشرة مرادف للقبح وبياضها معادل للجمال؟!

وأوضح التقرير؛ أنّ هناك تزايداً كبيراً في عدد الحالات في ستة أمراض جلدية، يرجَّح أن أحد مسبباتها كريمات التبييض التي تضمّ الزئبق، والكورتيزون، والهيدروكينون".

قصص مأساوية: سطوة الأيديولوجيا

وفي السياق؛ روت المدير الإقليمي للمبادرة الإستراتيجية لنساء القرن الإفريقي، هالة الكارب، لـ "حفريات"، قصصاً مأساوية رصدتها المبادرة التي ترأسها، ومنها: "تقدّمت فتاة في عشرينية واثقة من إمكانياتها ومؤهلاتها للعمل كمقدمة برامج بالتلفزيون السوداني، وبعد أن أجرت المقابلات المطلوبة، تلقت اتصالاً يفيد بنتيجة المعاينة، وجاء على النحو الآتي، بحسب الكارب: "لقد كان أداؤك في المعاينة رائعاً، لكن هناك مشكلة واحدة، ربما تقف عائقاً في حصولك على الوظيفة؛ هي أنّ لونك غامق أكثر من اللازم! لكن، عموماً هذه المشكلة يمكن حلّها، فقد درجنا في إدارة التلفزيون على تغطية تكاليف تفتيح لون البشرة لكلّ مقدمات البرامج والمذيعات العاملات لدينا".

وفي حادثة أخرى مشابهة، تواصل هالة الكارب: "تقدّمت فتاة للالتحاق بكلية الشرطة، وأثناء المعاينة الروتينية التي أجريت بواسطة لواء شرطة/ امرأة، تفرّست الأخيرة وجه المتقدمة إلى الوظيفة مليّاً، ثم قالت: (لونك غامق جداً، هل يمكن أن تزيحي الحجاب حتى أرى شعرك، ما إذا كان في درجة سواد بشرتك".

أسماء طه: النساء ينصرفن لتغيير أشكالهنّ وألوانهن لتكريس مزيد من الدونية بإشاعة مفهوم المرأة الأنثى بدلاً من المرأة الإنسان

تضيف الكارب: المفارقة الساخرة أن يحدث كلّ ذلك في السودان؛ حيث يمثل الأفارقة السود غالبية سكانه، وأنّ تعريف السودانيين المرتبك لذواتهم صار يتجلّى عند التعامل مع النساء، بإخضاعهنّ لمزاج الأيديولوجية المهيمنة، التي قررت أنهنّ يجب أن يكن ذوات بشرات شاحبة أو فاتحة أو مفسوخة؛ فيا له من أمر محيِّر يصعب عقلنته!

وانتقدت المدير الإقليمي للمبادرة الإستراتيجية لنساء القرن الإفريقي، ما سمّته "إخضاع النساء للمماثلة في الزيّ والشكل"؛ فصرن جميعهنّ يرتدين "الإسكيرتات" (التنورات) الطويلة المفارقة لجماليات التفصيل، والبلوزات ذات الأكمام الطويلة القابضة، والحجاب الذي يلتف حول الرأس كاشفاً عن وجه فاتح/ شاحب، يتناقض فيه لون البشرة مع لون الشفاه والأجفان.

فداءً للبياض

وأشارت الكارب إلى أنّ مستشفى الخرطوم للأمراض الجلدية شهد، عام 2000، افتتاح قسم خاص لمعالجة الآثار الجانبية الناتجة عن استخدام (خلطات) تفتيح البشرة، على أن يستوعب حوالي 15 حالة في وقت واحد، وأنّ جلّ هذه الإصابات عبارة عن حروق والتهابات في الوجه ناجمة عن استخدام (الخلطات) محلية الصنع.

مي هاشم: ظلّ الأسود مرتبطاً بالرقيق فيما ظلّ اللون الفاتح رمزاً للنظام السياسي والاقتصادي والاجتماعي في السودان

وعزت هالة الكارب ذلك إلى التحولات، الاجتماعية والسياسية والثقافية، الكبيرة، التي شهدها السودان منذ العام 1989؛ فبعد أن كان بوتقة للتنوّع والتعدد الثقافي والتعايش، أصبح أسيراً لعقلية رافضة لهذا التعدد، فرضت على السودانيين مجافاة ثقافتهم المحلية والاغتراب عن ذواتهم، فدفعت النساء غامقات الألوان الثمن؛ بأن يتحولن إلى فاتحات، حتى لو أدّى الأمر إلى أن يدفعن أرواحهن الغالية فداءً للبياض، واستجابة  للتصورات الشائهة للإسلام و"شيزوفرينيا" الذات المتشظية، المفروضة عليهن بواسطة الطغمة الإسلاموية الحاكمة، التي تجرّم انخراطهن في الحياة العامة، وتتحكم في تفاعلهن الاجتماعي، وتعرضهن للتعذيب والجلد، عبر سياسية  الاستيعاب القسري التي يمارسها نظام الإسلام السياسي والأيديولوجيات المتحالفة معه.

أمور شخصية لكنّها ضارة

أسماء محمود محمد طه؛ القيادية في الحزب الجمهوري، تقول لـ "حفريات": "إنّ ما تلبسه المرأة، وما تتحلى به، وغير ذلك من الممارسات الخاصة التي تقوم بها، ينبغي أن ننظر إليه كخيار شخصي، وأن نقيّمه على هذا الأساس، كما هو الحال في قبول المجتمع لخيارات الرجال، وذلك لتشجيع أفراد المجتمع على حرية الاختيار، وعلى حماية هذه الحرية، التي تضيق دائرتها، خاصةً بالنسبة إلى المرأة في المجتمعات التي تحكم بأنظمة شمولية متخلفة".

أسماء محمود محمد طه قيادية في الحزب الجمهوري السوداني

تضيف أسماء: "فيما يخصّ كريمات تبييض البشرة، ومع احترامي للخيارات الشخصية، إلا أنني أرى ضرورة محاربتها والابتعاد عن استعمالها، فعلاوة على أضرارها الصحية؛ فإنّ لها أضراراً أخرى متعددة، ما يهمّني منها اثنان: أولهما، وأهمهما؛ نظرة المرأة لنفسها، وتركيزها على مظهرها، بصورة فيها الكثير من المبالغة؛ التي تتجه إلى تغيير اللون والشكل أحياناً، لتصير في نهاية المطاف أنثى يُعجب بها الرجال، هذا قصارى ما ينجم عن هذه العملية المعقدة والضارّة، في حين أنّ المرأة  ما تزال مضطهدة، خصوصاً في المجتمعات التي تُطبق فيها ما تُسمّى "قوانين الشريعة الإسلامية"، فيما هي في أغلب أحوالها تشويه للشريعة؛ إذ تركّز هذه القوانين على التمييز ضدّ النساء في الحقوق، فعوضاً عن الالتفات لتصحيح هذه الأوضاع المجحفة، التي تكاد أن تنعدم فيها كرامة المرأة، تنصرف النساء لتغيير أشكالهنّ، وألوانهن لتكريس مزيد من الدونية، بإشاعة مفهوم المرأة/ الأنثى، بدلاً عن المرأة الإنسان.

اقرأ أيضاً: الحب ينتصر على لون البشرة في "حارة السمران" بغزة

أما الأمر الثاني، وفق أسماء؛ فهو عدم الرضى عن ألواننا الداكنة، وفي ذلك استلاب واضح، وكأننا نسلم بأنّ المرأة بيضاء البشرة هي الأجمل.

وتواصل أسماء حديثها: "أعتقد أنّ هذه النظرة يجب أن تتغير، بأن نتصالح مع لون بشرتنا، وبلا شكّ، فإنّ هناك الكثير من النساء والرجال ممن ينظرون إليها بإعجاب، كما تقع على عواتق الرجال مسؤولية إعانة النساء في نشر ثقافة الرضا والإعجاب بالبشرة الإفريقية، حتى تتغير النظرة السائدة، كما أنّ علينا جميعاً أن نغوص في العمق، فنبحث عن قيم أعمق من المظهر؛ ففي الخلق القويم قوة للعقل وسموّ للعاطفة الإنسانية، وهذا ما نحتاج إليه اليوم.

لا أحد يُغني لها للسواد

إلى ذلك، عزت التشكيلية ومديرة التطوير والمشروعات بمركز الفيصل الثقافي في الخرطوم، الأستاذة مي هاشم، إلى عمق التاريخ؛ حيث إنّ اللون الأسود مذموم، بحسب تعبيرها، على امتداد الحضارات والثقافات والبقاع المختلفة من الأرض عبر الحقب التاريخية المتنوعة، لكنّ هذا المفهوم اندثر إلى حدّ كبير في كثير من البلدان المتقدمة، بعكس ما يحدث في السودان؛ حيث اللون الفاتح بجميع تدرجاته يحظى بالكثير من القبول والرضا، حتى على مستوى الأشعار والأغاني؛ حيث احتفت الأغاني السودانية باللون (الأبيض، القمحي، الأخضر، الأحمر)، فيما لا نجد أغانٍ  تحتفي باللون الأسود أو (الأزرق)، كما يسمّى في السودان.

أسماء طه: علينا جميعاً أن نغوص في العمق فنبحث عن قيم أعمق من المظهر

وتعتقد مي هاشم أنّه، وبعد عهود تجارة الرقيق التي انتشرت في عهد محمد علي باشا، حتى نهاية دولة المهدية، ظلّ اللون الأسود مرتبطاً بالرقيق، فيما ظلّ اللون الفاتح رمزاً للنظام السياسي والاقتصادي والاجتماعي في السودان، ورغم انتهاء الرقّ، والتقدم الاجتماعي الحتمي الذي طرأ؛ إلّا أنّ عقدة اللون الأسود ما تزال متجذّرة في النفوس، ولا تفارق أذهان أكثر الناس مدنية وتحضراً.

وعلى المستوى السياسي؛ كان، وما يزال، التهميش والإقصاء قائمين، لكلّ من يعتقد أنّ أصوله غير عربية، بما في ذلك الحصول على مناصب أو وظائف مرموقة؛ بل إنّ القبول الاجتماعي، كما في حالات الزواج مثلاً، ارتبط باللون أيضاً.

اقرأ أيضاً: هذه أخطر 10 دول على النساء

وعزت مي هاشم، في إفادتها لـ "حفريات"، السبب الرئيس للجوء النساء السودانيات إلى عمليات تبييض البشرة، عبر الحقن والكريمات، إلى سيطرة مفهوم العروبة عليهنّ، باعتباره بوابة الولوج إلى الرضا السياسي والاجتماعي، فكانت النتيجة أن استشرت الظاهرة حتى على نطاق المتعلمين والمثقفين، وعدّت مي ما يحدث "أزمة هوية"، و"نكراناً للذات" بالدرجة الأولى.

 

الصفحة الرئيسية