ليلة القدر بين نصوص التراث والمخيال الشعبي

ليلة القدر بين نصوص التراث والمخيال الشعبي


24/04/2022

يهل رمضان والمسلمون في انتظاره بلهفة وشوق لعزيز غائب، وبعد أول ليلة سرعان ما تتوالى لياليه الساحرة العابقة بإيمانيات وروحانيات لا مثيل لها، ويشع بأنواره في قلوب المسلمين الذين تقلبوا بين طاعة الصيام والقيام وقراءة القرآن الكريم وإخراج الزكاة والصدقات، ويصل المسلمون إلى قمة الرجاء أن يوفقهم الله بإدراك ليلة القدر.

تحتل ليلة القدر مكانة كبيرة في نفوس المسلمين بمختلف أعمارهم؛ فقد كنا ونحن صغار نستمع ونستمتع بحكايات العجائز عن ليلة القدر، ونظل منبهرين بوصفهم للمعجزات التي فتح الله، عز وجل، بها على بعض عباده المحظوظين الذين اصطفاهم ليشاهدوا معجزات هذه الليلة المباركة ولينعموا بفضلها، ويصل الانبهار إلى أقصاه عندما يخبروننا أنّ في هذه الليلة تنكشف السماء عن نور (طاقة نور أو طاقة القدر كما تقول عجائزنا)، ويا سعادة من صادف ليلة القدر؛ فقد ضمن رضا الله، عز وجل، عنه واستجاب لدعائه، ومن وفّقه الله، عز وجل، بقيام تلك الليلة اقتنص ما يساوي عبادة أكثر من ثمانين عاماً كاملة، لهذا ينتظرها البسطاء لعلها تهبهم استجابة علوية لطلباتهم الدنيوية التي لن ترد، أو تضمن لهم الجنة الأخروية.

كنا ونحن صغار نستمتع بحكايات العجائز عن المعجزات التي فتح الله بها على بعض عباده المحظوظين ليلة القدر

من المؤكد أنّ ليلة القدر ليلة عظيمة الشأن، لكن شتان بين حقيقتها كما وصفها الله، عز وجل، في كتابه الكريم، وبين التخيل الشعبي لها، ففي القرآن الكريم يذكرها الله تعالى كليلة تحمل ذكرى نزول أو تنزيل القرآن الكريم فيها، وأنها مقدرة لهذا السبب، وذكرها في موضعين: مرة في سورة القدر حيث سبحانه: ﴿إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ* وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ* لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ* تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ* سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ﴾. وذكرت مرة أخرى في قوله تعالى: ﴿إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ* فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ﴾ (الدخان: 3 – 4).

والآيات الكريمات تصف الليلة وتعظمها، وتعظم أحداثاً وقعت وقت نزول القرآن الكريم، مثل نزول الروح والملائكة وتحول هذه الليلة الى سلام على البشرية حتى مطلع الفجر، وفي هذه الليلة يفرق كل أمر حكيم، لكن ذات الآيات القرآنية لا تشير إلى حتمية تكرار أحداث تلك الليلة من كل عام.

أما التصور الشعبي لليلة القدر فيعتبرها ليلة يتجلى الله، عز وجل، فيها لعباده وتصاحبها علامات خارقة للعادة، ويتناقل الناس حكايات عن ظواهر كونية مختلفة وقعت في ليلة القدر بصيغة المعجزة والأسطورة، مثل رؤيتهم الشجر وكل شيء في حالة سجود لله، ومثل نزول نور من السماء إلى الأرض وتحول الليل إلى ما يشبه النهار، أو عدم سماع نباح الكلاب ولا نهيق الحمير.. إلخ.

التصور الشعبي لليلة القدر جاء استجابة للميول للغيبيات على حساب العقلانيات، ففي الغيبيات راحة نفسية مخدرة، وميل للحصول على جائزة فورية مجانية بضربة الحظ، دون جهد، وسوق مجاني للحصول على الحسنات لا يتكرر إلا مرة في العام، فقط ما على المسلم إلا التفرغ للعبادة في العشر الأواخر من رمضان.

إنّ التماهي مع العقلية المحبة لسماع الأساطير سواء حول يوم القيامة أو علامات آخر يوم في الدنيا، يؤسس لبيئة فكرية أسطورية تغتال على المدى البعيد البيئة العقلية العلمية الإسلامية، وهذا خطر على الإسلام وعلى العقيدة وعلى مسار الدين كله، ولعل هذا ما أدركه شيخ الأزهر الدكتور أحمد الطيب عندما نشر على تويتر تغريدة يقول فيها: "التجديد الدائم في التراث هو المنوط به بقاء الإسلام ديناً حياً متحركاً ينشر العدل والمساواة بين الناس، والتراث حين يتخذ من التجديد أداة أو أسلوباً يعبِّر به عن نفسه، يشبه التيار الدافق، والنهر السيال الذي لا يكف لحظة عن الجريان، وإلا تحول إلى ما يشبه ماء راكداً آسناً يضر أكثر مما يفيد".

من الملاحظ أنّ الفكر الإسلامي الرسمي استجاب للمخيال الشعبي وليس العكس، فبدلاً من أن يقود الفكر الإسلامي عوامّ الناس، ويدفعهم لفهم علمي عقلي لليلة القدر، استجاب لهم وأنتج تفسيرات ونصوصاً تراثية استهدفت إرضاءهم.

هي ليلة عظيمة الشأن لكن شتان بين حقيقتها كما وصفها الله في كتابه وبين التخيل الشعبي لها

ورغم أنّ الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود عندما سئل عن ليلة القدر قال العام كله ليلة القدر ومن قام الحول أدركها، فلا تعيين لليلة بعينها، ولكن العقلية الأسطورية أبت إلا أن تسمع ما يرضيها، فنسبوا للصحابي أبي بن كعب أنه قال: وعن زر رضي الله عنه قال: "قلت لأبي بن كعب رضي الله عنه: أخبرني عن ليلة القدر فإن صاحبنا (يعني بن مسعود) سئل عنها فقال من يقم الحول يصبها، قال: رحم الله أبا عبد الرحمن لقد علم أنها في رمضان، ولكنه كره أن يتكلوا أو أحب أن لا يتكلوا، والله إنها لفي رمضان ليلة سبع وعشرين لا يستثني قال: قلت: يا أبا المنذر أني علمت ذلك، قال: بالآية التي أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: قلت لزر: ما الآية؟ قال تطلع الشمس صبيحة تلك الليلة ليس لها شعاع مثل الطست حتى ترتفع". رواه ابن خزيمة في صحيحه حديث رقم (2193)، وقال عنه الألباني: إسناده حسن لذاته صحيح لغيره.

كل هذا يربك العقل والوجدان العربي والإسلامي، وخصوصاً مع قبول الفقه الإسلامي بتعدد المطالع، أي نفس العقلية التي تتحدث عن ليلة القدر تخبرنا أنه مقبول أن يكون أول رمضان في بلد ما يسبق بلداً آخر، فتكون ليلة السابع والعشرين في بلد هي ليلة السادس والعشرين فأي ليلة قدر كانت؟ أمر آخر مربك؛ مع تقدم العلم أدركنا أنّ الليل يختلف من بلد إلى آخر، فهل ليلة القدر في مصر هي ذاتها في أمريكا والتي تسبقنا بساعات، وهل يمكن أن نخبرهم بليلة القدر ليستعدوا لها؟!

مواضيع ذات صلة:

شم النسيم في رمضان... غاب الجدل وحضرت الذكرى

 رمضان في مصر: حضور صوفي يطفو فوق الذاكرة الإخوانية

10 معارك إسلامية كبرى وقعت في رمضان



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية