مأساة الإيغور في الصين مستمرة: المساجد تتحوّل إلى مزارات سياحية

مأساة الإيغور في الصين مستمرة: المساجد تتحوّل إلى مزارات سياحية


04/08/2021

ترجمة: علي نوار

بين طرقات مدينة كاشغر المتعرّجة في إقليم شينجيانغ، مجموعة من السائحين من عرقية الهان، الأغلبية في الصين، يعتمرون القبّعات وتتدلّى من أعناقهم الكاميرات يصوّبون عدساتها نحو أحد المباني من الداخل؛ رواق يحفّه برجان، مئذنتان على وجه التحديد، لكنّهما مهدّمتان، "هذا"، ثم يتعالى صوت المرشد "كان مسجداً، إلّا أنّ السلطات سحبت ترخيصه، ومن الجيّد أنّ هذا حدث، أولاً لأنّه بذلك يتمّ الحدّ من التحرّر الديني، وثانياً لأنّ الإسلام ينصّ على أنّ كلّ مجموعة من السكان يجب أن يكون لها مسجد، وجرت العادة على أنّ تكاليف البناء والصيانة يتحمّلها الجيران، وبما أنّه لم يعد يعمل، فقد أصبح بإمكان المحليّين ادّخار هذا المال واستثماره في أمور أخرى".

اقرأ أيضاً: شهادات مروعة من الإيغور عن التعذيب والابتزاز... ما الجديد؟

يعود السياح إلى التقاط الصور فيما يستطرد المرشد غير متهيّب "يتمتّع المتديّنون بمطلق الحرية في أداء الصلاة، لكن داخل المساجد الكبرى، التي شيّدتها الحكومة"، وعلى بعد مئات الأمتار، تصوّر مجموعة أخرى من السائحين مسجداً آخر تمّت مصادرته، وحصلت مآذنه على مصير المسجد الأول نفسه، تختفي ردهة هذا الجامع خلف ألواح من الجبس ذات لون وردي باهت، تعلّق سائحة في منتصف العمر قائلة: "يا له من لون بديع!"، وعلى مسافة شوارع معدودة من ذلك المكان، يقف مسجد آخر بلا مآذن أو ملمح أو رمز يشي بوجود مسجد، يتكرّر الأمر بحذافيره مع مساجد عديدة.

لافتة على مسجد: "حبّ الوطن، حبّ الحزب"

على مدى جولة في المدينة القديمة بكاشغر، إحدى أبرز المراكز الثقافية للإيغور في شينجيانغ، تقود الصدفة للعثور على 30 مسجداً تقريباً، منها ثلاثة فقط، بما فيها "عيد غا" المميز بمآذنه الصفراء وهو الأكبر في كاشغر، ما تزال تعمل، لكن تعلوها جميعاً أعلام الصين ولافتة تحمل عبارة "حبّ الوطن، حبّ الحزب".

تمّ تحويل مساجد أخرى إلى أغراض مختلفة: مراكز تطعيم بلقاح "كوفيد-19"، متاجر للتذكارات، بل تحوّل أحد المساجد إلى حانة، الأمر الذي اضطّر ملّاكه إلى إغلاقه، بينما أنشئ مرحاض للسياح بدلاً من أحد المساجد، رُغم أنّه ما يزال من الممكن ملاحظة حرم المسجد القديم من الداخل، حيث كانت تُقام الصلوات، بيد أنّ أغلب المساجد تم إغلاقها.

الغبار الذي يكسو الأقفال وكاميرات المراقبة غير المتّصلة والنفايات المتناثرة بالداخل، تشير جميعها إلى أنّ هذه المساجد على تلك الحالة منذ زمن ليس بالوجيز.

في أحدث تقاريرها، المُعنون "كما لو كُنّا أعداء في خضم حرب"؛ تُندّد منظمة العفو الدولية: بأنّ المسلمين الذين يعيشون في شينجيانغ لا يستطيعون ممارسة دينهم

لا يقتصر هذا الوضع على كاشغر فحسب؛ إذ تُظهر صور الأقمار الاصطناعية اختفاء أماكن خاصة بثقافة الإيغور في جميع أرجاء شينجيانغ؛ فعلى مسافة 500 كلم إلى الشرق من كاشغر، تقع هوّتان، إحدى المدن التي تعيش بها جالية كبيرة من الإيغور في الإقليم، يخيّم شعار المنجل والمطرقة على الأجواء، ليذكّر بـ "القيم الأساسية للاشتراكية"، وفي إحدى النقاط توجد حديقة جديدة تماماً أُقيمت قبيل الاحتفالات بمئوية الحزب الشيوعي، مطلع تموز (يوليو)، لكن في كانون الثاني (يناير) الماضي، كانت هذه البقعة أرضاً خالية، وكانت قبل ذلك مسجداً حمل اسم "بازار الجواد" الذي كانت له شُهرة بائدة.

اقرأ أيضاً: أمريكا تعاقب الصين على إبادة الإيغور بهذه الطريقة

أمتار قليلة وتجد رافعات تعمل بكامل طاقاتها، في قطعة أرض شاغرة، حيث كان يقوم مسجد آخر، تُعلن اللافتات المنصوبة أنّ مجمعاً فندقياً لإحدى أشهر العلامات العالمية، وفي أحد أرجاء المدينة القديمة التي أعيد بناؤها، يظهر مرآب للسيارات يشغل المساحة التي كان يوجد بها مسجد "عيد غا".

تقصّي إزالة الإيغور والإسلام في شينجيانغ

ويقدّر تقرير أعدّه المعهد الأسترالي للسياسات الإستراتيجية، بعنوان "مسح الهوية الثقافية: تقصّي إزالة مساحات الإيغور والإسلام في شينجيانغ"؛ أنّه كان هناك 24 ألف مسجد في شينجيانغ، عام 2004، تعرّضت 16 ألف منها، أي ما يعادل 65% من الإجمالي، للتدمير نتيجة للسياسات الحكومية، وحدث الجانب الأكبر من التخريب بعد عام 2017، وقد تم تدمير ثمانية آلاف و500 مسجد بشكل كامل، إضافة إلى أنّ 30% من الأماكن الإسلامية المهمّة، مثل الأضرحة أو المدارس أو المقابر، وهي عناصر رئيسة في الثقافة الأيغورية، وربط هذا العرق بالأرض التي يعيش عليها، تعرّضت للإزالة هي الأخرى، بينما طالت يد التخريب 28% من هذه الأماكن.

ويؤكّد المعهد الأسترالي؛ أنّ "الإزالة المُتعمّدة لأركان أساسية في ثقافة الإيغور المحلّية والإسلامية في شينجيانغ تبدو كما لو كانت سياسة موجّهة من الحكومة، لكن يجرى تنفيذها على مستوى إقليمي، والهدف النهائي هو فرض الطابع الصيني على الثقافة المحلّية، وفي النهاية تحقيق هدف التغيير الجذري لتفكير عرقية الإيغور وسلوكها".

اقرأ أيضاً: أمريكا تجدد موقفها من الإيغور... ما المناسبة؟

ويرى الأستاذ رايان توم من معهد الصين التابع لجامعة "مانشستر" الإنجليزية؛ أنّ هذا التغيير يمتدّ أيضاً ليشمل المنازل وشكلها وتوزيعها ومحتوياتها، حيث يذكّر بأنّ "الوثائق الحكومية نفسها تكشف أنّ هناك رغبة في تغيير الأماكن الثقافية التي يعيش بها الإيغور، حتى داخل بيوتهم، لتحويلهم إلى مواطنين معاصرين متحضّرين من وجهة نظر الحكومة.

ترى السلطات الصينية أنّ ثقافة الإيغور متأخرة وهمجية، بالتالي، فإنّها تنظر إلى التدمير على أنّه شيء جالب للحداثة والتقدّم والمدنية إلى شعب متخلّف".

الهدف النهائي هو فرض الطابع الصيني على الثقافة المحلّية

وأضاف توم: "يعتقدون أنّ ثقافة الإيغور، التي يعتبرونها متأخّرة، هي السبب، أو أحد أسباب، رفض الإيغور لسيادة الحكومة الصينية، ولعلّ هذا ما يفسّر الدافع وراء السعي نحو تقويض وهدم هذه الأشياء".

لكنّ الصين تؤكّد أنّها ترعى وترمّم دور العبادة الإسلامية، وتدأب على رفض الاتهامات الموجّهة لها بالتضييق على الشعائر الإسلامية لأقلّية الإيغور، وخرج متحدّث باسم حكومة إقليم شينجيانغ، في آذار (مارس) الماضي، ليشدّد على أنّ "دستور جمهورية الصين الشعبية ينصّ على أنّ المواطنين لهم الحقّ في حرية المعتقد، ولن تجبر أيّة جهة حكومية أو حركة اجتماعية أو فرد الإيغور على اعتناق أو عدم اعتناق أيّة ديانة، ولا يمكن اضطّهادهم لأسباب تتعلّق بالمعتقد، جميع الأنشطة الدينية المشروعة محميّة".

اقرأ أيضاً: الغارديان: كيف استخدمت الصين نفوذها الاقتصادي لملاحقة الإيغور؟

وذكرت الحكومة الصينية في كُتيّب تعليمات أنّه "بالنسبة للمنشآت ذات الحالة المتردّية، فقد حلّت الجهات الحكومية المختصّة مشكلة التهديدات المحتملة فيما يتعلّق بالسلامة عن طريق إعادة البناء، والنقل إلى مكان آخر، أو التوسعة، لتضمن بذلك ممارسة آمنة ومطمئنّة للشعائر الدينية وبما يلبّي رغبات المؤمنين".

المساجد تفتح أبوابها أيام الجُمعة فقط

بيد أنّ المساجد القليلة التي ما تزال تعمل، تفتح أبوابها أيام الجُمعة فحسب، وليس لأداء الصلوات الخمس اليومية، وفي ذلك اليوم المُقدّس، وفي الساعة المُصرّح بها، الثالثة عصراً، تتمّ رؤية عشرات المُسنّين الإيغور وهم في طريقهم نحو مسجد "عيد غا"، بينما يقترب ثلاثة أشخاص بالكاد من مسجد أصغر، يؤكّد الحارس بخشونة "لا لن نصلّي.. سنتحدث عن شؤوننا الخاصة"، قبل أن يغلق الباب بتصميم، وكما هو الحال في مساجد أخرى، تراقب الكاميرات حركة الداخلين.

ممارسة الشعائر الدينية خارج المساجد عملية مُعقّدة؛ فحيازة القرآن أو الصيام في رمضان قد تؤدي بالشخص إلى واحد من معسكرات إعادة التأهيل الرهيبة

وتبدو ممارسة الشعائر الدينية خارج المساجد عملية مُعقّدة أيضاً؛ حيث لا تُشاهد أيّة رموز دينية على الملأ، فحيازة القرآن أو الصيام في رمضان قد تؤدي بالشخص إلى واحد من معسكرات إعادة التأهيل الرهيبة، التي تدّعي الصين أنّها قضت على الإرهاب الإسلاموي، وفق انتقادات منظّمات غير حكومية، والإيغور المنفيين في الخارج، أمّا في حال طُرح سؤال حول ماهيّة المكتوب من الآيات القرآنية النادرة التي من الممكن مشاهدتها علناً، على شاهد أحد القبور مثلاً، فتأتي الإجابة واحدة "لا أدري".

في أحدث تقاريرها، المُعنون "كما لو كُنّا أعداء في خضم حرب؛ اعتقال عشوائي وتعذيب وملاحقة من الصين للمسلمين في شينجيانغ"، تُندّد منظمة العفو الدولية: "المسلمون الذين يعيشون في شينجيانغ لا يستطيعون ممارسة دينهم، شعائر إسلامية كثيرة يعدّها المسلمون أركاناً أساسية لدينهم، ولم تكن مُجرّمة صراحة، باتت كذلك بموجب القانون؛ يُحظر على المسلمين تأدية الصلاة، أو ارتياد المساجد، أو إظهار عادات دينية، أو إطلاق أسماء تحمل طابعاً إسلامياً على أبنائهم، ونتيجة لكلّ ذلك، إضافة إلى خطر الاعتقال المستمر؛ اضطّر المسلمون في شينجيانغ إلى تغيير سلوكياتهم لدرجة أنّهم أصبحوا يحاولون ترك انطباع خارجي بأنّهم لا يمارسون دينهم".

مساجد فقدت مآذنها

على أنّ كاشغر وعاصمة الإقليم، أورومتشي، ربمّا تكونان أقلّ تضرّراً من مدن غير سياحية أخرى، مثل هوتان أو يارقند، من حيث اختفاء الأماكن المُقدّسة، رغم أنّ المساجد التي فقدت مآذنها في الحي القديم من كاشغر تبدو كمزارات سياحية أكثر منها دور عبادة تحافظ على ثقافة الإيغور، ولم تعد مدرسة ساتشي في كاشغر تعمل كمدرسة قرآنية منذ أعوام، ويقتصر الدخول إليها على التقاط الصور فحسب، أمّا مسجد "عيد غا"، فيعمل فقط لفترة وجيزة أيام الجمعة للصلاة، ثم فور انتهائها يصبح هناك رسم دخول قدره ستة يوروهات للراغبين في زيارته، ويحتوي مسجد البازار الكبير في أورومتشي على سوق تجاري بداخله، ويعجّ المكتب الكائن على مدخله بكتب الرئيس شي جينبينج.

وبين ضواحي كاشغر، تحديداً في ما تُعرف رسمياً، منذ عام 2015، باسم حدائق الأميرة شيانجفاي، وهي مزار سياحي مشهور للغاية بين السياح من عرقية الهان، يوجد ضريح قديم عمره مئات الأعوام، يتضمّن قبة خلّابة ومآذن شاهقة من القرميد لونه زمرّدي متداخل مع الأزرق البحري.

الأضرحة الصوفية

إنّه أحد الأضرحة الصوفية، وواحد من أهمّ الأماكن بالنسبة للثقافة الإيغورية، ضريح آفاق خواجة، القائد العسكري الذي قاتل أسرة تشينج في القرن الثامن عشر، وقد أقام دولة مستقلّة منتصف القرن التاسع عشر دامت لفترة مقتضبة، وكان هذا المكان لأعوام مركزاً للحجّ يزوره الإيغور لمعرفة تاريخهم، ورغم أنّ اسمه ما يزال ظاهراً على شاهد ضريحه اليوم، لكن لا يرد ذكر أيّ شيء عنه أو حياته أو إرثه.

في المقابل، تسرد الحدائق العامرة بالزهور اليوم، قصة مختلفة؛ إحدى نبيلات الإيغور، وتُدعى شيانجفاي، اسمها الحقيقي إبارهان، والتي وقعت من أول نظرة في حُب الإمبراطور كيانلونج، الذي غزا المنطقة ليضمّها نهائياً إلى الصين منذ نحو قرنين ونصف من الزمان. وطبقاً لهذه الرواية، فقد كانت قصّة الحب بين الاثنين عنيفة، وبعد وفاتها، عمل مئة رجل على دفنها بين الحدائق التي لطالما أحبّتها منذ كانت طفلة.

اقرأ أيضاً: دراسة جديدة تكشف خيوط مؤامرة الإبادة الجماعية للإيغور... تفاصيل

تتوافد يومياً الحافلات المليئة بالسياح المتشوّقين لمشاهدة المنزل الذي نشأت فيه شيانجفاي، والشجرة التي "زرعتها قبل رحيلها إلى بكين"، أو العريشة حيث اعتادت الغناء والرقص، وبالطبع مقبرتها، وتجسّد هذه الرواية للوحدة بين العرقيّتين منذ قرون، الأمر الذي تردّده الخطابات واللافتات الرسمية.

لكنّ الكُتب التي صدرت قبيل قيام الجمهورية الشعبية، عام 1949، تتحدّث في المقابل عن زوجة قائد عسكري من مملكة واحة كاشغر، والتي أُخذت كغنيمة عقب انتصار القوات الإمبراطورية وإعدام زوجها، وقد تخلّصت شيانجفاي أو إبارهان من حياتها في بكين، ولم يعد جثمانها مُطلقاً إلى كاشغر؛ بل يرقد في ضواحي بكين.

مصدر الترجمة عن الإسبانية:

 https://bit.ly/3l3Vhia



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات
الصفحة الرئيسية