ماذا بعد سقوط مقلي ؟

ماذا بعد سقوط مقلي ؟


01/07/2021

أثار سقوط مدينة مقلي عاصمة إقليم تيغراي في الشمال الإثيوبي مساء أمس الإثنين الموافق من الثامن والعشرين من يونيو موجة من الاستغراب والتعجب في أوساط المهتمين بالشأن الإثيوبي فور توارد الأنباء، ولكنه حتما سيثير الكثير من المخاوف والتوجسات فيما سيحدث على الساحة الإثيوبية كتوابع لهذا الحدث المبهم والصاقع في آن واحد، وبالتأكيد سينقل أزمة تيغراي وعموم إثيوبيا إلى مستويات وآفاق أخرى من النزاع، وربما سيضع أمام الفرقاء العديد من السيناريوهات والمسارات التي قد تغير وجه إثيوبيا وإلى الأبد.

كانت أزمة تيغراي قبل اندلاع الحرب في الرابع من نوفمبر الماضي أشبه ما تكون بأزمة مراكز القوى التي حدثت في جمهورية مصر العربية عقب وفاة الزعيم جمال عبدالناصر، واستلام نائبه آنذاك محمد أنور السادات لزمام الأمور في البلاد، والذي نتج عنه انقسام الطغمة الناصرية الحاكمة إلى معسكرين متنافسين واستفحال الوضع السياسي، أدى لاحقا إلى قيام السادات بتصفية مراكز القوى بطرق سلمية وسياسية سميت لاحقا بالثورة التصحيحية أو انقلاب مايو 1971، والمتابع للأزمة السياسية الإثيوبية سيجد أن هناك تقاطعات ونقاط تشابه بين الأزمتين لحد الاندهاش، فكلا الأزمتين كانتا صراع سياسيا حول النفوذ بين قوى خرجت من السلطة وتبحث عن فرص للعودة ولكنها تمتلك نفوذا هائلا متمثلا في الدولة العميقة، وبين قوى صاعدة جديدة إلى السلطة تفتقر إلى نفوذ الدولة العميقة ولكنها تمتلك شرعية الحكم.

الإجراءات التي اتخذتها الحكومة الإثيوبية بعد استلام آبي أحمد زمام الحكم في البلاد في أبريل 2018 كانت تهدف إلى الحد من نفوذ جبهة تحرير تيغراي الذي حكمت إثيوبيا طوال سبعة وعشرين عاما تحت مظلة الجبهة الديموقراطية الثورية للشعوب الإثيوبية EPDRF، وقد نجح آبي أحمد إلى حد ما في تخفيف قبضة جبهة تيغراي على مفاصل الدولة الحيوية، ولعل أبرز تلك الإجراءات كانت في:

1- فصل ما يقارب 160 جنرالا وضابطا من الجيش الإثيوبي وأغلبهم من قومية تيغراي.

2- شن الحكومة حملة اعتقالات واسعة شملت العشرات من الوجوه البارزة من قومية تيغراي بدعوى انتهاكات حقوق الانسان وقضايا تتعلق بالفساد.

3- حل الائتلاف الحاكم ” الجبهة الديموقراطية الثورية للشعوب الإثيوبية ” والذي هيمنت عليها الجبهة الشعبية لتحرير تيغراي  TPLF واستبدالها بائتلاف جديد هو ائتلاف الازدهار.

4- تأجيل الانتخابات البرلمانية في البلاد بدعوى الأزمة العالمية لجائحة كوفيد 19 المقرر إقامتها في 2020

5- إلغاء نتائج الانتخابات في إقليم تيغراي في سبتمبر 2020.

كل هذه الإجراءات والمواقف السياسية ساهمت بشكل مباشر اتساع الهوة بين فرقاء الحزب الواحد بشكل دراماتيكي في خلال السنوات الماضية بين 2018-2020، كما أسلفنا في ذكر المثال السابق، فإن وجه الشبه بين أزمة مراكز القوى في مصر والأزمة بين تيغراي والحكومة الفيدرالية في أديس أبابا لم تكن من زاوية الإجراءات التي اتخذتها السلطة الجديدة ضد السلطة التي غادرت قصر الرئاسة فقط، بل أيضا في سلمية هذه الإجراءات وابتعادها عن استخدام القوة لتصفية الحسابات بين الفرقاء، ولكن نقطة الافتراق بين الأزمتين كانت مع إعلان قوات الدفاع الوطني الإثيوبي الحرب على قوات جبهة تحرير تيغراي في الشمال فجر الرابع من نوفمبر2020، وهو ما يعني أن البلاد قد انتقلت من مربع الأزمة السياسية بين القوى إلى حرب أهلية بكل ما تعنيه الكلمة من معنى، ومصطلح الحرب الأهلية كما عرفه بروفيسور العلوم السياسية والمختص بالحروب الأهلية الأستاذ جيمس فيرون James Fearon ” بأن الحرب الأهلية هي صراع عنيف بين قوى وجماعات منظمة تهدف إلى الاستيلاء على السلطة في المركز أو السيطرة على إقليم أو لتغيير نظام سياسي ما” ، وإذا ابتعدنا عن بيانات الحكومة الإثيوبية وعن الحسابات السياسية الدولية بين عواصم صنع القرار في الغرب في إداراة المشهد السياسي في العالم لرؤية المشهد عن بعد، سنجد أن هذا التعريف هو الأدق والأصح لوصف الحالة التي تمر بها الدولة الإثيوبية الآن وتحديدا في أزمة تيغراي.

ربما قد يساهم هذا التوصيف في قراءة حقيقية وجيدة للوضع الراهن في إثيوبيا وربما قد يساهم في تخيل المآلات والسيناريوهات المتحملة التي بصدد الدولة الإثيوبية في الفترة القادمة.

سيناريو المعادلة الصفرية

لجوء الحكومة الإثيوبية إلى خيار الحرب لتصفية الجبهة الشعبية تحرير تيغراي بشكل نهائي قد يكون مفهوما إلى حد ما، ولكن هذا الخيار قد تحول إلى خيار كارثي أو صندوق باندورا مفتوح خصوصا مع دخول القوات الإريترية والمرتزقة الذين شاركت بهم الصومال وأيضا قيام الحكومة بإعطاء الضوء الأخضر لمليشيات قومية منافسة كمليشيات فانو التابعة لقومية الأمهرا في إجراء عمليات عسكرية واسعة في إقليم تيغراي، وما نتج عن دخول هذه القوات إلى ارتكاب انتهاكات إنسانية جسيمة وفادحة بحق المواطنين في إقليم تيغراي.

المؤسف أن بعيد إعلان الحكومة الفيدرالية إتمامها للعمليات العسكرية وهزيمة قوات تيغراي في الثامن والعشرين من نوفمبر2020، قامت الحكومة بسلسلة من الإجراءات التي أقل ما توصف أنها انتقامية وغير حكيمة كإدراج الجبهة الشعبية لتحرير تيغراي ضمن قائمة الإرهاب، والاستمرار في قطع وسائل الاتصال عن تيغراي وفرض سياج أمني وعزل المنطقة، وملاحقة المواطنين الإثيوبيين من قومية تيغراي خارج البلاد وفصلهم بشكل تعسفي من وظائفهم مثلما تم فصل العديد من الجنود الإثيوبيين في قوات حفظ السلام في القارة الأفريقية في نهاية نوفمبر، وإطلاق العنان للقوات الغير الحكومية في ارتكاب ممارسات ثأرية الطابع ضد المواطنين كمنع المواطنين من الزراعة، كل هذه الإجراءات والانتهاكات التي جرت سواء قبل أو بعد إعلان انتهاء العلميات العسكرية في تيغراي قد قطعت بها الحكومة على نفسها خط الرجعة، وقد تجعل مقاتلي الجبهة أمام معادلة صفرية وفي حرب وجودية مع الآخر في أديس أبابا وربما أسمرا أيضا، وستدفعها لشن حرب طويلة الأمد مع الحكومة الإثيوبية كما فعلت في السابق مع نظام منغيستو البائد في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي، والتي قد تنتهي إما بانتصار الحكومة في أديس أبابا أو الجبهة الشعبية لتحرير تيغراي.

سيناريو الفيدرالية الضعيفة/الدولة الفاشلة

السيناريو الآخر الذي قد يكون مطروحا هو أن تعيد الجبهة الشعبية لتحرير تيغراي إحكامها على الإقليم وبناء عليه سيكون للإقليم وضع سياسي واقتصادي خاص على الأقل في الفترة الراهنة، وستعامل معاملة إقليم بحكم ذاتي وبصلاحيات أكبر من بقية الأقاليم القومية الأخرى بحكم الأمر الواقع ومعطيات القوة على الأرض، وهذا السيناريو يعني أن أزمة ” أديس أبابأ – مقلي ” ستعود بشكل أو بآخر إلى المربع الأول – أي إلى ما قبل الرابع من نوفمبر- وهو ما سيعني أن المرحلة الانتقالية الحرجة التي تمر بها إثيوبيا قد تستمر وتطول إلى وقت غير معلوم، هذا إذا افترضنا ثبات العوامل الأخرى في البلاد كالحراك الأورومي والصراع الحدودي بين القوميات والاحتقان الطائفي الذي قد استشرى أصلا في عموم إثيوبيا.

وهذا السيناريو سيكون له تبعات قانونية كثيرة على الدولة الإثيوبية ككيان سياسي، أهمها هو أن إثيوبيا ستكون أقرب ما يكون إلى توصيف الدولة الفاشلة، والذي يعني عدم قدرة الدولة ومؤسساتها من بسط سيادتها على كافة أراضيها الوطنية، بالإضافة إلى أنها ستكون ساحة للتدخلات الأجنبية وهو ما يعني أن صراع الفرقاء في إثيوبيا قد يأخذ بعدا إقليميا وربما دوليا نتيجة اصطفاف القوى المختلفة حول الفرقاء،و ربما سيكون هناك وجود لقوات حفظ سلام بين الفرقاء !

سيناريو الحوار والحلول السلمية

التاريخ والسياسة في العصر الحديث يشيران إلى أن أغلب المفاوضات التي تمت بين البلدان أو الفرقاء في الدولة الواحدة لإجل السلام تمت بعد تحركات ميدانية على الأرض إما على شكل حروب أو عمليات عسكرية، والتي تنتج عنها قراءة جديدة في المشهد، ثم يأتي خيار المفاوضات والسلام لتثبيت الأوضاع الراهنة وإضفاء طابع سياسي غير حربي لنتائج الحرب.

وسيناريو الحوار هو ما دعت إليه الأطراف الدولية مرارا وتكرارا، وخاصة بعد إعلان الحكومة انتهاء علمياتها العسكرية في تيغراي في نهاية نوفمبر، وقد قوبلت بالرفض التام من جهة الحكومة طوال فترة الأزمة، ولكن مع التطور الميداني الذي أحدثته الجبهة، ومع تزايد الضغط الدولي على الحكومة في أديس أبابا، قد تجد الحكومة نفسها أمام خيار التراجع والجلوس على طاولة المفاوضات والحوار.

ولكن من ناحية أخرى، أن تقوم القوى الغربية بالتأكيد على الحوار مع فصيل فقد قوته العسكرية -كما ادعت الحكومة وقتها- يعني أن القوى الغربية كانت على علم بمعطيات القوة لدى الفرقاء، وربما كان سقوط مقلي ضمن صفقة ما بين المعنيين ووسيلة لإرغام كافة الأطراف للجلوس والحديث حول السلام!

سيناريو الاستقالة وإعلان حكومة وحدة وطنية

هذا السيناريو الأخير قد يطرح بشكل جدي كطوق نجاة لكيان الدولة الإثيوبية، التي أصبحت على المحك في مناسبتين خلال السنوات الخمس الأخيرة، فالمناسبة الأولى كانت في الاحتجاجات العارمة التي اندلعت بين عامي 2015-2017 وحملت داخلها بذور فتنة إثنية قومية بين الشعوب الإثيوبية والتي أفضت إلى استقالة رئيس الوزراء السابق هيلاميريام ديسالين في 2018 وكانت بمثابة قبلة حياة لكيان الدولة، وكذلك هو الأمر في المناسبة الثانية المتمثلة في أزمة تيغراي التي أعادت السؤال حول الحالة المضطربة بين القوميات الإثيوبية بسبب تورط الحكومة الحالية في عمليات انتقامية بدعم من مليشيات ذات طابع قومي وفكر شوفيني متطرف كما هو موثق في أداء تلك المليشيات في الأزمة الراهنة، والتي ترتب عنها نتيجتين سلبيتين:

1- عملية التصحيح التي كانت مرجوة لقصقصة أجنحة رموز النظام السابق قد أتت بنتائج سلبية وكارثية على صعيد السلم الاجتماعي للشعوب الإثيوبية.

2- أجهزت تعامل الحكومة مع الأزمة الراهنة على الثقة بين المواطنين والحكومة التي أقحمت أطرافا خارجية لتصفية حسابات داخلية.

وتلك النتائج قد تضفي إلى طرح تساؤل خطير حول سلامة كيان الدولة ووحدة أراضيها في المستقبل، حينها لن يكون بيد المسؤولين الإثيوبيين سوى فكرة استقالة الحكومة والدعوة لقيام حكومة وحدة وطنية تقوم بمعالجة جذرية لدستور 1995 الذي أوجد حلا لمعضلة القوميات ولكنه في نفس الوقت حمل بوادر تفتيت للدولة الإثيوبية، بالإضافة إلى طرح حلول لمشاكل مزمنة كقضية الحريات والفساد، ولن يتم ذلك إلا عن طريق البناء على مكتسبات التجارب السابقة بطرق أكثر حكمة ودقة للإبقاء على كيان الدولة الإثيوبية وسلامة الشعوب الإثيوبية، بدلا من انتهاج الخطاب الشعبوي وإرجاع البلاد إلى ماقبل 1991 والقفز على تجربة الجبهة الديموقراطية الثورية لشعوب إثيوبيا 1991-2018 وإقامة محاكم تفتيش على طول البلاد وعرضها.

ختاما، أزمة تيغراي أحدثت شرخا كبيرا في الدولة الإثيوبية سواء في الداخل أو في صورتها الخارجية، وعكست بشكل حقيقي حجم الخلاف والهوة بين الفرقاء الإثيوبيين، هذا الخلاف لم ينشب مع إطلاق أول رصاصة في صبيحة الرابع من نوفمبر  كما يظن الكثير، بل هو نتيجة رواسب وجذور غاية في العمق، والحقيقة التي يجب أن تقال هو أن هذه الحرب كانت نزوة عسكرية تمت في غفلة من الزمان، وكانت بعيدة كل البعد عن قراءة المشهدين الداخلي والخارجي بشكل عقلاني ومدفوعة بقدر كبير من الشعبوية، ولا نعلم حتى الآن ماهي تبعات تلك النزوة وماهو حجم الضرر الكلي الذي ألحقته بكيان الدولة الإثيوبية.

عن "أحمد هراد"


آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية