ماذا تعرف عن الطاوية؟

أديان ومعتقدات

ماذا تعرف عن الطاوية؟


12/03/2018

تميّز الشرق الأقصى بنشأة واحتضان فلسفات وأديان ذات طابع مختلف ومتميز، تنحو نحو الزهد، والتأمل، والتصوف، أكثر من كونها متجهة إلى المنطق والتفلسف، أو العقائد، والعبادات والطقوس. وقد عرفت الصين عدداً من هذه الديانات، التي تداخلت وتعايشت مع بعضها، من "الكونفوشيوسية"، التي اتجهت نحو معالجة علاقة الفرد بالمجتمع، والدولة، إلى "البوذية"، المتمحورة حول علاقة الإنسان بذاته، و"الطاوية"، التي عالجت علاقة الإنسان بالحياة، والوجود، وكيفية خلق التناغم الكلي في داخل الإنسان وفي خارجه حتى بلوغ الانسجام الكلي (الطاو).

لاوتسه.. المعلم المسنّ
لا تتضمن الطاوية بناءً عقائدياً، وليس فيها عبادات محددة، مما يجعلها أقرب إلى كونها فلسفة تأملية أكثر منها ديانة. وتنسب بداية الطاوية إلى الفيلسوف "لاوتسه"، وهو لقب صيني، يعني "المعلم المسنّ". ولد لاوتسه سنة 604 ق.م، في عهد سلالة "التشو"؛ حيث عمل أميناً للمحفوظات التاريخية في مدينة لويانغ، عاصمة "التشو"، فاستفاد واطلع على كل ما كتب في شؤون السياسة والمجتمع لمملكة التشو.

أبنية تاريخية من مدينة لويانغ

آمن لاوتسه في فلسفته بالبساطة والتناغم، وفضلها على التعقيد، وما ينبني عليه من تحضر ونظم معقدة، وهو ما دفعه في مرحلة متأخرة من عُمره، إلى مغادرة لويانج والخروج في رحلة، على ظهر ثور، إلى أقصى الحدود الغربية، ليصل إلى مشارف التبت، وهناك استوقفه حارس إحدى البوابات على الطريق، وبُهر بما له من هيبة ووقار، فطلب منه أن يدوّن أفكاره وفلسفته حتى لا تضيع من بعده، فاستجاب له لاوتسه، واعتكف ثلاثة أيام، تحت شجرة، ليكتب كتاب "طاو تي تشنج"، ويعني "الطريق وقوتها"، الذي تألف من 81 مقطوعة شعرية قصيرة، من الحكم والتعاليم، وأصبح أساساً لتعلم الفكر والفلسفة الطاوية، وهو اليوم من أكثر الكتب ترجمةً في العالم.

تتضمن الطاوية بناءً عقائدياً وليس فيها عبادات محددة ما يجعلها أقرب لكونها فلسفة تأملية أكثر منها ديانة

ولاوتسه، هو نبيّ الطبيعة والبساطة؛ حيث كان من أوائل من تحسّسوا آثار العمران والحضارة على النفس البشرية؛ وتبقى اللوحة التقليدية التي تظهره وهو على ظهر الثور تبقى رمزاً لهذا الخروج الكبير، الفكري والجسدي، الذي يتوق إليه كل فرد أنهكته قوانين الحضارة ونظمها الضابطة.

لوحة خروج لاوتسه إلى التبت

وهكذا، ظهرت الطاوية مع لاوتسه، أثناء حكم سلالة تشو بشكلها الفلسفي المجرد، ثم تطورت لاحقاً عبر القرون التالية، إلى أن أخذت أثناء حكم سلالة "هان" شكل تعاليم دينية، ولتأخذ اسمها التي عرفت به حتى الآن: الطاوية.

الطاو.. التناغم مع الوجود
المفهوم المركزي في الطاوية هو "الطاو"، ويعني الطريق أو السبيل، ويقصد به السير على منوال الطبيعة، ووفق قوانينها، وهو مصدر الوجود، ومجرى الحياة، ونظامها المثالي؛ الطاو هو الحقيقة المطلقة عن الكون، ووجوده متعالٍ على الزمان والمكان، إنّه كنهر عابر للوجود، بلا بداية، ولا نهاية.

تنسب بداية الطاوية إلى الفيلسوف "لاوتسه" وهو لقب صيني يعني "المعلم المسنّ"

وبحسب الطاوية أيضاً، فإنّ الهدف الرئيس للوجود الإنساني هو التناغم مع الطاو، وهو ما يتحقق عندما نكون على اتصال بأعماق وحقيقة أنفسنا، وعندما نفكر فيما نحن عليه الآن، عوض التفكير بما يمكن أن نكون، وعندما نسمع أكثر، ونجادل أقل.. انفع الآخرين، وابتعد عن المنافسة، ولا تستخدم القوة، فهي لن تخلف إلا المقاومة، وعش بشكل أبسط، فالتعقيدات تأخذك بعيداً عن الطاو.. وبالنهاية، كل شخص يستطيع إيجاد الطاو الخاص به، طريقه الخاص، فالطرق بعدد البشر، ولا يوجد طريق واحد صحيح.

لوحة شهيرة من التراث الصيني ترسم صورة تخيلية لـ"لاوتسه"

الين واليانغ.. الثنائية التكاملية
تتجسد الفلسفة الطاوية من خلال "الين" و"اليانغ"؛ حيث يتحقق التناغم في العالم من خلال اندماجهما؛ والين هو الجوهر الأنثوي السالب في الطبيعة، والذي يتبدى في الظلمة والبرودة والنداوة، بينما يمثل اليانغ النهار، والنور، والذكورة، والارتفاع.
وتُسمّى ثنائية الين واليانغ بالثنائية الطاوية، والتي تختلف عن "الثنائية التناقضية"، السائدة في ثقافات شعوب حوض البحر المتوسط؛ أي العالمين الأوروبي والعربي، وبالذات في الأديان الإبراهيمية؛ فالثنائية الطاوية هي ثنائية انسجامية، توليفية، تعتبر أنه بالإمكان اتحاد الأضداد واندماجها، بينما الثنائية التناقضية، تؤكد على الفصل بين الأضداد واستحالة التقائها، وهو ما ينتج عنه منظومة "الأحسن والأسوأ". بينما ترى الفلسفة الطاوية أنّ كل طرف لا يكتمل إلاّ بالطرف الآخر.

شعار الين يانغ.. رمز الطاوية

وبحسب الفلسفة الطاوية فإنّ "الخير" هو الانسجام والتكامل بين الثنائيات، أما الشر فإنّه ينتج من تخلخل الانسجام والتوازن بين هذه الثنائيات، والمغالاة في دور أحد الطرفين على حساب الطرف الآخر.
ويعبر رسم شعار الين يانغ الشهير عن الانسجام الكلي بين أقطاب الوجود المتضادة، حيث يبيِّن الخط الفاصل المتلوي أن هذين القطبين دائما التداخل وأحدهما في الآخر، وتُظهِر الدائرة الصغيرة ضمن كلٍ منهما إمكان التحوُّل من الواحد للآخر.

اعتكف لاوتسه 3 أيام ليكتب  كتاب "طاو تي تشنج" الذي أصبح أساساً لتعلم الفكر والفلسفة الطاوية

وقد أكّد لاوتسه في فلسفته أنّ الأشياء تتألف من الشيء ونقيضه، مثل: الوجود والعدم، الصعب والسهل، الطويل والقصير، الأعلى والأدنى، الجمال والقبح، الأمام والخلف، القوة والضعف، الحياة والموت، الذكاء والغباء، النصر والهزيمة، وأنّ الشيء ونقيضه ليسا منعزلين في الوجود؛ بل يتفاعلان بصورة متبادلة، وذكر أنّ الوجود والعدم أنجب كل منهما الآخر، والصعب والسهل يكمل كل منهما الآخر.

شعار الين يانغ في علم دولة كوريا الجنوبية ذات الميراث الحضاري الصيني

الطاوية كديانة
مرت الطاوية خلال تاريخها الطويل بمرحلتين رئيستين، كانت في الأولى فلسفة خالصة، ثم صارت في الثانية مشوبة بالطقوس الدينية، وكان هذا التحول إلى دين ردة فعل ضد الدين الجماعي الكونفوشيوسي بقرابينه وطقوسه المفرطة، إلى درجة لم يعد بمقدور الناس القيام بها، فجاءت الديانة الطاوية لتكون ديانة الخلاص الفردية لأهل الصين، فتحررهم من فروض الكونفوشيوسية الثقيلة. وقد تأثّرت الطاوية بالديانة الصينية الشعبية، بحيث صار لها نظام كهانة وراثي يقوم أعضاؤه بأداء طقوس وصلوات خاصة. وفي مرحلة لاحقة حاول الأباطرة دعم الطاوية لتكون دين الصين الوطني في مواجهة البوذية القادمة من الهند. وقد لجأ العديد من أتباع الطاوية إلى جزيرة تايوان بعد وصول الحزب الشيوعي إلى الحكم عقب الثورة الماوية عام 1949، ويوجد اليوم حوالي 31 مليون طاوي، حول العالم، يتركزون في الصين وتايوان.

اللباس التقليدي للراهب الطاوي

من الطب الصيني إلى تصميم المنازل
وقد تم تطبيق مبدأ الطاو في البحث عن التوازن والانسجام بين ثنائيات الوجود في الكثير من مجالات الحياة الاجتماعية في الصين، وفي مقدمتها الطب الصيني، فهو قائم على الفكرة البسيطة التالية: أنّ جسم الإنسان يحتوي على هاتين الطاقتين (اليانغ الحارة، والين الباردة)، وأنّ الصحة تعني التوازن بين هاتين الطاقتين، والمرض يعني الخلل في توازنهما.

مخطوطات تشرح تركيب الجسم البشري وفقاً للطب الصيني

كذلك طُبّق مبدأ الين واليانغ في مجالات كالرياضة، مثل؛ رياضة المبارزة الصينية (كونفو)، وتمارين التوازن، وطبقت الطاوية حتى على تصميم المباني السكنية؛ حيث تبنى المدن والبيوت وتُصمّم داخلياً على أساس حفظ التوازن بين طاقتي الين واليانغ، فينصح مثلاً أن يكون اتجاء الرأس عند النوم نحو الشمال والشرق، لأنّه اتجاه (ين) يمنح الهدوء والخدر، أما في العمل فيحسن الاتجاه جنوباً وغرباً لأنّه اتجاه (يانغ) فعال ومنشط.
وهكذا جمعت الطاوية بين كونها فلسفة مجردة، وديانة، ونمط حياة يومي، وهي اليوم تكتسب اهتماماً متزايداً، حول العالم، خصوصاً في عالم طغت فيه الحضارة على الوجود الإنساني، وصارت تغيراتها المتسارعة سبباً لإرهاقه وتشتته.

 

الصفحة الرئيسية