ماذا تعرف عن مكيافيلي الهند؟

ماذا تعرف عن مكيافيلي الهند؟


31/12/2018

"الغاية تبرّر الوسيلة" المقولة، أو ربما التكتيك الأشهر، والدستور الأقرب لقلب وعقل غالبية الحكّام في التاريخ؛ هي أبرز مقولات مكيافيلي، صاحب كتاب "الأمير"، الذي عُدّ كتابه من عيون الفقه السياسي، مؤسساً لما عرف بالواقعية السياسية، التي أضحت ضمن الأفكار التي شكلت علم السياسة بشكله المعروف الآن.

يعد كتاب "الأمير" لمكيافيلي من عيون الفقه السياسي، حيث أسس صاحب "الغاية تبرر الوسيلة" لما عُرف بالواقعية السياسية

تلك المقولة صكّها خيال وعقل الإيطالي، نيكولا مكيافلي، المولود في القرن الخامس عشر، تحديداً عام 1469، والذي تلقّى تعليماً ممتازاً في الكثير من مجالات الأدب والقانون والتاريخ، وتنقّل بين الكثير من الوظائف الحكومية حتى حاز منصب السكرتير الأول لحكومة فلورنسا، الوظيفة التي أتاحت له فرصة السفر والترحال بين العديد من المدن الإيطالية، في أوج عصر النهضة، وكذلك العديد من البلدان الأوروبية، بحكم وظيفته، الأمر الذي مكّنه من الاطلاع على كثير من أسرار السياسة ومكائد القصور، ما جرّ عليه غضب البعض؛ حيث قُبض عليه، ونُفي إلى مزرعته، ليعيش بها بقية حياته، ويسطر فيها خبراته ونصائحه، التي أودعها كتابه "الأمير"، الذي لم ينشر إلا بعد وفاته بأعوام؛ وتحديداً العام 1532.

اقرأ أيضاً: في فهم التنافس: عذراً ميكافيلي.. الغاية لا تبرّر الوسيلة

ذاعت شهرة ميكافيلي، حتى نسب سلوك الواقعية السياسية له، وأصبح وصف السياسة الواقعية بالمكيافيلية شائعاً، وعدّه البعض رائداً في كثير من المفاهيم السياسية؛ مثل؛ الإشارة للدين كأداة تمكين للحاكم يسيطر بها على الشعب؛ حيث حرّض بوضوح على استعمال الدين كوسيلة لتحقيق غايات سياسية، فضلاً عن غيرها من المفاهيم؛ حيث ما تزال كثير من صفات "الأمير المثالي" تذكر في النصوص التي تناقش ملامح القيادة استلهاماً لتراثه، سواء في الأمثلة التي ضربها في روما القديمة، والقدرة على إظهار الحاجة إلى وجود حكومة من أجل رفاه الشعب، وتوضيح النتائج المترتبة على حكومة الدهماء، والقيادة في فنّ الحرب من أجل بقاء الدولة، والقدرة على إدراك أنّ القوة والعنف قد يكونان جوهريين للحفاظ على الاستقرار والسلطة، وتأكيده على أن يمزج الحاكم في صفاته بين الأسد في القوة والثعلب في المكر، وغيرها من الأفكار التي مثّلت نقلة في الفقه السياسي وسياسة الناس، كلّ هذه الأفكار التي حفرت لها مكان الريادة في هذا الباب، ربما طمرت ذكر من سبقه بقرونٍ بعيدة.

عرفت الهند مكيافيلي أسبق من ميكافيلي إيطاليا، فمن هو هذا الرجل الذي سبق صاحب كتاب "الأمير" في هذا الباب؟

اقرأ أيضاً: ميكافيلية بن لادن والتنسيق مع إيران وقطر في ليبيا

إنه كوتلا تشاناكيا؛ الذي أعان القائد الهندي، أو إسكندر الهند، كما يسمّونه "تشاندرا جوتيا"، في تنظيم جيش صغير اجتاح به الحاميات المقدونية، وأعلن الهند حرة من الغازي، ثم تقدم إلى "باتاليبوترا"، عاصمة مملكة "مجافا"، وأثار فيها ثورة، واستولى على إمرتها، وأسس أسرة موريان الحاكمة؛ التي حكمت الهند وأفغانستان 137 عاماً، ولمّا استسلم "تشاندرا جوتيا"، بشجاعته، لحكمة وزيره كوتلا، الذي يصفه ويل ديورانت في "قصة الحضارة" بأنّه لم يكبح جماحه ضمير، سرعان ما أصبحت حكومته أقوى حكومة عرفها العالم، كان زمام الحكم الحقيقي في يد كوتلا، وهو برهمي عرف القيمة السياسية للدين، لكنّه لم يتخذ، بحسب ديورانت، الدين هداية خلقية؛ فهو شبيه بدكتاتوري هذا العصر، في إيمانه بأنّ كلّ الوسائل لها مبررات ما دامت تنتهي إلى صالح الدولة.

اقرأ أيضاً: علاقة الإخوان المسلمين مع داعش: الغاية تبرر الوسيلة

وكان غادراً لا يزجره من نفسه ضمير إلا إزاء مليكه، فقد خدم "تشاندرا جوتيا" في منفاه وفي هزيمته، وفي مغامراته ودسائسه، وفي اغتياله للناس، وفي مكره، واستطاع بفضل حكمته ودهائه أن يجعل ملك سيده أعظم ما عرفته الهند في تاريخها كلّه، ولقد رأى كوتلا، كما رأى من بعده مؤلف "الأمير"، أنّه من المفيد أن يدوّن للأجيال القادمة آراءه التي عالج بها الأمور العسكرية والسياسية، وتنسب الروايات له كتاب "أرذاشاسترا"؛ أقدم كتاب وصلنا من الأدب السنسكريتي.

يسوق لنا ديورانت مثلاً عن واقعيته الدقيقة، فيما ذكره من الوسائل التي تتبع في الاستيلاء على أحد الحصون، وهي الدسائس والجواسيس، واستمالة أعداء الشعب، والحصار، والهجوم؛ حيث يرى في هذه الدسائس اقتصاداً حكيماً للمجهود البدني وقدرة على إدارة موارد الدولة بحكمة.

سبق الهندي كوتلا تشاناكيا، مكيافيلي، في تبرير كلّ الوسائل سياسياً للوصول إلى الغاية

إنّ التعرف إلى ما كتبه كوتلا يَسهُل تلمُّس آثاره في حكمة الهند والصين، التي يبدو أنّ تراثها وسلوك حكامها في العصر الحديث، لم يتغذّى كما يعتقد البعض فقط على ما كتبه مكيافلي، وكلّ رواد النهضة الأوروبية؛ بل يملك القوم منظّريهم وحكمائهم الأقدم، الذين صاغوا أفكارهم وخبراتهم في كتابات أمثال كوتلا؛ الذي حجبه النسيان، فقدم عليه مكيافلي، بالشكل الذي يؤكد أن خبرات الجنس البشري لا يحدّها تاريخ أو جغرافيا، وأنّ التراكم الحضاري الذي عرفته البشرية، تماماً كطبقات الصخور الرسوبية، التصقت طبقاته واحدة تلو أخرى، حتى ضاعت معه إلى حدّ كبير معالم البدايات، وتحديد الأسبق من الآخر، لكنّ الشوفينية التي تتملك البعض والقدرات التي يملكها آخرون، قد تسقط من الذاكرة أسماء أثرت الفكر الإنساني، طمر إسهامها إسهام آخر، غدا أكثر شيوعاً، منتحلاً الريادة، رغم أنّ تأكيد الريادة في تلك الأفكار أمر بالغ التعقيد والصعوبة، بالنظر إلى أنّ تعقيد التجربة البشرية وندرة الكتابة عنها في أزمان غابرة.

ما يعنينا التأكيد عليه؛ أنّ الخبرة البشرية في التعاطي مع الواقع، ومحاولة تطويعه، وبناء أدبيات سياسية للتفاعل الصحيح معه، ليست غربية أو شرقية، ولا تنتمي إلى الهند، أو العرب، أو الصينيين، أو حتى الأوروبيين، إنما هي نتاج تجربة بشرية تعددت فيها الروافد، إلى الحدّ الذي يلزم وصفها فيه بالتراث الإنساني المشترك، الذي يصحّ اقتسام الانتفاع به، كما يصحّ، في الوقت ذاته، ادّعاء إنتاجه والانتساب إليه.

الصفحة الرئيسية