ما الاتجاهات السياسية لشرق السودان بعد الثورة؟

السودان

ما الاتجاهات السياسية لشرق السودان بعد الثورة؟


23/09/2019

ظل شرق السودان الإقليم الأكثر إهمالاً في مسارات تنمية الدولة السودانية، منذ ما بعد الاستقلال، وبما انعكس بصورة واضحة على مكوناته السكانية المحلية ومناطقه الأكثر فقراً ونسياناً من طرف المركز.

اقرأ أيضاً: السودان: ما أبرز تحديات ما بعد الثورة التي تواجه حكومة حمدوك؟
وبالرغم من وجود الميناء الرئيس للسودان "بورتسودان" في الشرق، إلا أنّه يمكن القول إنّ الطبيعة القاسية وشبه الصحراوية، فضلاً عن طبيعة المكون الأغلب من سكانه الأقدمين (البجا) التي تميل إلى عزلة واضحة في نمط انغلاقها التاريخي، عزّز ذلك الإهمال الذي كرّسته دولة المركز، لا سيما وأنّ المركز ذاته مارس كذلك تهميشاً ممنهجاً في كل من غرب السودان وجنوبه، بحيث انتهت مأساة ذلك في شكل قنابل موقوتة، كانت نتيجتها في الجنوب؛ انفصاله عن السودان في العام 2011، فيما كانت نتيجة إهمال المركز في غرب السودان حرباً أهلية اشتعلت في دارفور وجبال النوبة منذ العام 2003 راح ضحيتها مئات الآلاف من المواطنين.

ظل شرق السودان الإقليم الأكثر إهمالاً في مسارات تنمية الدولة السودانية منذ ما بعد الاستقلال

التهميش والعزلة بطبيعة الحال، عزّزا قابليات كثيرة لمؤثرات وتجاذبات حدثت في الشرق، مثل؛ الصراع الذي وقع بين قبيلتي النوبة والبني عامر والحباب في العام 1986 إثر انتفاضة العام 1985 التي أطاحت بالجنرال نميري، وكانت أسباب ذلك الصراع سياسية انعكست مفاعليها في الخواصر الرخوة لمدينة بورتسودان وأحيائها الطرفية. ثم تجدّد هذا الصراع بين ذات المكونين منذ عيد الفطر الماضي تزامناً مع مجزرة فض اعتصام القيادة العامة في الخرطوم، ولأسباب سياسية أيضاً هذه المرة، ثم استأنفت بقايا الدولة العميقة لنظام الإنقاذ، في منتصف آب (أغسطس) الماضي تأجيج الفتنة بين المكونين ولم يتم إطفاء نارها، إلا بانعقاد الصلح قبل أسبوع برعاية نائب رئيس مجلس السيادة الفريق محمد حمدان دقلو المعروف بـ"حميدتي".

الميناء الرئيس للسودان " بورتسودان"
ورغم تسكين الصراع الأهلي بانعقاد الصلح؛ إلا أنّ هناك أسئلة كثيرة تتصل بطبيعة الوضع السياسي الذي سيكون عليه شرق السودان خلال المرحلة الانتقالية التي بدأت لتوّها. لاسيما وأنّ الفريق "حميدتي" عضو مجلس السيادة، الذي أشرف على الصلح بين النوبة والبني عامر في شرق السودان ربما أدرج ذلك ضمن إطار ما كان يحدث في دارفور من صراع قبلي أيام الحرب الأهلية (كان هو جزءاً منه)، وسيكون ذلك، بطبيعة الحال، فهماً خاطئاً؛ لأنّ طبيعة الصراع بين النوبة وبني عامر والحباب في بورتسودان، تختلف جوهرياً عن صراع قبائل دارفور.
حيال هذا الواقع الانقسامي تعكس البنية السياسية للواقع الحزبي مشهداً مثالياً للتدمير الذي طال قواعد اللعبة السياسية والحزبية في السودان، على ضعفها، طوال ثلاثين عاماً فتّت فيها نظام الإنقاذ تلك البنية عبر التشظي والتقسيم الذي مارسه ضد الأحزاب.

أفرز إهمال المركز للأطراف مآسي سياسية واجتماعية واقتصادية وحروباً أهلية

ولأنّ السياسة كالطبيعة لا تقبل الفراغ، فقد انعكست مفاعيل تشظي البنية السياسية على بروز كيانات وأجسام تمارس السياسة عبر عناوين مناطقية أو قبلية. وهكذا بسقوط البشير في 11 نسيان (أبريل) الماضي، وانهيار حزب المؤتمر الوطني الحاكم، بدا واضحاً أنّ الوجود الحزبي في شرق السودان عكس تماماً طبيعة تلك الكيانات مثل؛ مؤتمر البجا، بفروع مختلفة، وحزب التواصل، والأسود الحرة، وكيان الشمال.
مما هو معروف، تاريخياً، أنّ شرق السودان بمكوني البجا من سكانه الأصليين، كان منطقة حزبية مقفلة للحزب الاتحادي الديمقراطي، منذ ما قبل الاستقلال وبعده وأثناء الفترات الديمقراطية الثلاث في السودان.
لكن مع بروز الأحزاب العقائدية، يميناً "الإخوان المسلمين" ويساراً "الحزب الشيوعي"، التي ازدهرت خلال الحرب الباردة؛ تعرضت النخب والقوى الحديثة من أبناء منطقة شرق السودان (على قلّتهم)، كما في بقية أنحاء السودان، لاستقطاب حاد فرَّغ القواعد الحزبية لكل من الحزبين التقليديين (حزب الأمة والحزب الاتحادي الديمقراطي) باتجاه تيارات اليمين واليسار التي تسيّدت الساحة منذ النصف الثاني من القرن العشرين وحتى نهاية الحرب الباردة في تسعينيات القرن الماضي.

اقرأ أيضاً: هل يساعد "أصدقاء السودان" على تجاوزه تحديات السياسة والأمن والاقتصاد؟
اليوم بعد ثورة 19 كانون الأول 2018 (ديسمبر) في السودان تلوح في الأفق متغيرات واضحة حيال مستقبل الأحزاب العقائدية وخطاباتها الأيديولوجية، سواء أكانت يمينية أو يسارية. وفيما يبدو أنّ المرحلة السياسية القادمة في السودان تتأهل للاعبين سياسيين جدد مثل حزب المؤتمر السوداني (يسار وسط) الذي سطع نجمه مع صعود اسم رئيسه المهندس عمر الدقير عبر الخطابات السياسية الأنيقة، وعبر الالتفاف الذي يلقاه الحزب من قبل كثيرين من الشباب، نظراً لدوره المشهود في مناهضة نظام البشير قبل سقوطه.

 رئيس حزب المؤتمر السوداني عمر الدقير
وخلال هذه الأيام يزور الدقير رئيس المؤتمر السوداني مدن الإقليم الشرقي، بدايةً بمدينة القضارف، ومروراً بمدينة كسلا، وصولاً إلى بورتسودان من أجل التبشير بالخطاب الجديد للحزب وضم أنصار جدد. 
هناك تيار آخر ، هو حزب التجمع الاتحادي، الذي التأم شمله قبل شهر تحت هذا الاسم وهو في الحقيقة صيغة سياسية حديثة ومطورة لاستئناف الدور الريادي للحزب الاتحادي الديمقراطي، ولكن بعد فكّ ارتباطه بالطائفة الختمية التي يرعاها السيد محمد عثمان الميرغني (الذي لا يبدو لحزبه الاتحادي الديمقراطي مستقبل سياسي بعد مشاركته في حكومات نظام البشير).

انعكست مفاعيل تشظي البنية السياسية ببروز كيانات وأجسام تمارس السياسة عبر عناوين مناطقية أو قبلية

وطائفة الختمية، التي يتولى إرشادها السيد محمد عثمان الميرغني رئيس الحزب الاتحادي الديمقراطي، هي إحدى الطائفتين الدينيتين للسودانيين، تاريخياً، وهي الطائفة الموازية لطائفة الأنصار؛ قاعدة حزب الأمة التي يؤمّها الصادق المهدي. ويمثّل حزب التجمع الاتحادي المنشق عن الحزب الاتحادي الديمقراطي إحدى كتل قوى الحرية والتغيير، ومن أبرز أعضائه الدكتور محمد ناجي الأصم، أحد رموز الثورة السودانية وصاحب الخطاب التاريخي لقوى الحرية والتغيير الذي ألقاه في حفل الاتفاق على الإعلان الدستوري يوم 17 آب (أغسطس) الماضي بين قوى الحرية والتغيير والمجلس العسكري الانتقالي برعاية الاتحاد الإفريقي، ومشاركة قوى دولية وإقليمية عديدة. كما أنّ من بين أبرز قادة حزب التجمع الاتحادي محمد الفكي سليمان عضو المجلس السيادي السوداني. أما رئيس الحزب فهو الدكتور بابكر فيصل وهو كاتب ومفكر وصحافي.
وحول هذا الوضع الجديد للمستقبل السياسي في شرق السودان بخصوص حظوظ حزب المؤتمر السوداني يرى الصحافي والمحلل السياسي صالح عمار أنّ "هناك جيلاً جديداً في شرق السودان، شارك في الثورة بفاعلية. والآن وجد نفسه بلا حاضنة سياسية، وهذا الوضع يتعلق أيضاً بأجزاء السودان الأخرى. وفي هذه المساحة لحزب المؤتمر السوداني مساحة كبيرة للحركة واستقطاب عضوية جديدة إذا أحسن قراءة الملعب الشرقي الذي ستحرك فيه".

 الصحافي والمحلل السياسي صالح عمار
ويضيف عمار، في حديثه لـ "حفريات": "للشرق قضايا محلية تشغل إنسانه، وأي حزب لن ينجح ما لم يثبت لهذا الإنسان بالعمل، أنّه يدافع عن قضاياه بصدق، وإذا نجح حزب المؤتمر السوداني في ذلك فلا شك أنه سيكسب مؤيدين"، مستدركاً "في نهاية المطاف، هناك كتل اجتماعية ستظل مغلقة لفترة من الوقت، ومن الصعب اختراقها بسرعة، وهذا ما يمكن معالجته بالتحالف مع بعض الأحزاب المحلية التي لها قاعدة".

اقرأ أيضاً: السودان: الخارجية بين أيدي الدبلوماسية "الناعمة".. فهل المشاركة النسائية منصفة؟
وحول طبيعة الدور الذي يمكن أن يلعبه حزب المؤتمر السوداني في شرق السودان، يقول عمار: "المطلوب من الحزب الانتباه إلى أنّ مواطن الإقليم ونخبته تتميز بالذكاء أيضاً، ففي حالة أنّ الحزب يريد أن يتعامل مع أهل الإقليم كرصيد انتخابي فقط، فهناك تجارب مماثلة فشلت مثل؛ الحركة الشعبية التي استقطبت في مرحلة ما أعداداً كبيرة من سكان الإقليم، لكنهم سرعان ما انفضوا من حولها؛ لأنّها لم تتعدَّ مرحلة الشعارات.

صالح عمار: ثمة جيل جديد شرق السودان شارك في الثورة بفاعلية ووجد نفسه بلا حاضنة سياسية

ويزيد أنّ الأمر ينطبق أيضاً على الحركة الإسلامية والحزب الشيوعي "هذه النقطة مهمة؛ لأنّ قادة حزب المؤتمر السوداني يتم استقبالهم الآن من بعض محترفي السياسة في الشرق وغيرهم بحفاوة، وفي اعتقادي جزء من الأمر مربوط بتوقعاتهم بقرب الحزب من السلطة حالياً، ولهذا أيضاً، الحذر واجب من النخب المحترفة، والتركيز على الكوادر صاحبة الصيت الأخلاقي والسيرة في مقاومة نظام الإنقاذ، وخدمة المجتمع".
من جانبه، يجيب القيادي بحزب التجمع الاتحادي، مُبِرْ محمود، عن سؤال "حفريات" حول اتجاهات الوضع السياسي وعلاقة الاتحاديين بشرق السودان قائلاً: "عندما نتحدث عن شرق السودان، فنحن نتحدث عن إقليم يمثل ما نسبته 18% من الأراضي السودانية. ويتمتع بخصوصية اقتصادية واستراتيجية وأمنية فرضها موقعه الجغرافي، في كونه يجاور 4 دول إقليمية مهمة هي: السعودية (عبر البحر)، ومصر ، وإريتريا، وإثيوبيا".
ويوضح أنّه يمثل في جزء منه منفذاً بحرياً هو الأهم في المنطقة "ولقد ظل هذا الإقليم، تاريخاً، يساهم مساهمات مقدرة في الدخل القومي، عبر الزراعة في ولايتي القضارف وكسلا، ومن خلال ما تدره الموانئ البحرية في كل من مدينتي بورتسودان وسواكن بولاية البحر الأحمر. وبالرغم من ذلك ظل سكان الإقليم هم الأفقر في السودان والأفدح تهميشاً، والأقل تمثيلاً في هياكل السلطة العليا، ويعود ذلك في جزء منه لتفشي الأمية في الإقليم ولطبيعة النظم الأهلية وقوانين الضبط الاجتماعي والثقافي المتحكمة فيه. وفوق كل هذا وذاك لعدم اهتمام الحكومات المتعاقبة بقضاياه كما يجب".

القيادي بحزب التجمع الاتحادي مُبِرْ محمود
وبخصوص الترتيبات السياسية المتوقعة لحزب التجمع الاتحادي الجديد في شرق السودان يقول محمود "نحن كاتحاديين ديمقراطيين عبر تخلقنا الحديث المسمى؛ التجمع الاتحادي، وبحكم ارتباطنا التاريخي بهذا الإقليم، نستطيع القول وباطمئنان؛ إنّ المسافة بيننا وبين مواطني الإقليم مازالت مجسرةً وعامرةً بالثقة، رغم التحولات الكبيرة التي طرأت على المناخ السياسي خلال الثلاثين عاماً الماضية؛ فالاتحاديون هم الأكثر تفهماً لطبيعة مشكلات إنسان الشرق، ولأنّنا، كذلك، نملك رؤيةً واضحةً ومتكاملةً لما ينبغي أن تكون عليه المعالجات في المدى الإسعافي القريب، وفي المدى الاستراتيجي البعيد".

اقرأ أيضاً: هل يشكّل التوافق بين السودانيين نموذجاً لحلّ أزمات المنطقة والإقليم؟
ويؤكد محمود أنّ "أولى هذه المعالجات تبدأ بمحاربة الفقر؛ إذ يعتبر المشكلة المركزية التي تتناسل منها جميع المشاكل الأخرى، ولذلك نحن نقترح في هذا الصدد برنامجاً إسعافياً يوقف التدهور المريع في مشاريع الزراعة المطرية في القضارف، وفي دلتا طوكر ودلتا القاش ومشروع حلفا الزراعي، وأيضاً نرى ضرورة السعة الاستيعابية للموانئ البحرية وضرورة الاستثمار الجاد عبر القطاعين؛ العام والخاص في الفرص السياحية التي يزخر بها الإقليم".
وعلى صعيد تصور حزب الجمع الاتحادي لبعض القضايا الخدمية والسياسية والحدودية بشرق السودان يقول محمود: "ظللنا طوال فترة معارضتنا لنظام البشير ننبه لمشكلات الإقليم الأخرى، وعلى رأسها مشكلتا مياه بورتسودان والصحة. كما ظللنا نطالب بوضع حد لجرائم تهريب البشر وتجارة السلاح المنتشرة في الإقليم، واقترحنا أيضاً، تكوين آلية من خبراء قانونيين ومختصين من وزارتي الداخلية والخارجية وممثلين لمواطني الشرق لإيجاد حل جذري يعالج قضايا المنازعات في منطقتي الفشقة وحلايب الحدوديتين".
وتعليقاً على قضية السلم الاجتماعي التي تصدرت المشهد العام في مدينة بورتسودان مؤخراً يؤكد محمود "نعتقد أنّ أي مشروع مستقبلي يستهدف تحقيق العدالة الاجتماعية للإقليم لن ينجح ما لم يتأسس على اعتراف شجاع من نخبتنا السياسية كافة بالظلم التاريخي الذي تعرض له مواطنو الإقليم".



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية