ما الحاجة لإعادة التفكير في الاستشراق اليوم؟

ما الحاجة لإعادة التفكير في الاستشراق اليوم؟

ما الحاجة لإعادة التفكير في الاستشراق اليوم؟


22/11/2023

يعتقد البعض أنّ الحديث، حالياً ومجدداً، عن الاستشراق، ليس سوى انخراط تقليدي جداً وكلاسيكي المنزع، نحو نوعٍ من المعرفة والتفكيك حاصل منذ عقود، وأنّه لا حاجة للحديث عن الاستشراق اليوم في ضوء انقلاب مفهوم الاستشراق نفسه، وفي ضوء مرور عقود من نقدِه، خاصة بعد ظهور مؤلّفات عديدة، على رأسها "الاستشراق" لإدوارد سعيد 1979، تنتقد الاستشراق وتبيّن سياسات معرفته، وأيديولوجيتها.

اقرأ أيضاً: الجابري بين نقد الاستشراق واستهلاك أحكامه
وهناك من يذهب إلى أنّ استمرار الحديث عن الاستشراق والاستعمار ما هو إلا انجرار في "نظرية المؤامرة" الدنيئة، والتي يصطنعها الإعلام الشعبويّ والشوفينيّات عموماً.

هناك من يرى أنّ استمرار الحديث عن الاستشراق والاستعمار ما هو إلا انجرار بنظرية المؤامرة التي يصطنعها الإعلام الشعبوي

إذاً، ما الحاجة لإعادة التفكير في الاستشراق اليوم؟ ولماذا هذا التأكيد على ارتباط المعرفة بالسلطة في الإنتاج الاستشراقي؟ هل هي مناكفة للغرب الكولونيالي، السياسي، الذي يعيد إنتاج أجسامنا وجغرافياتنا ومعرفتنا وفقاً لمخيالها الجامح، ولمتخيله النشط عن "الإسلام" و"الشرق" و"العرب"؟

على الرغم من تبدّل حقول الاستشراق، أو لنقل تغيّر مسمياتها؛ حيث يتمّ الحديث اليوم عن "ما بعد الاستشراق"، لتفادي القصور الاستشراقي في تحليل الشرق ودراساته، لا يسع المرء إلّا أن يستشهد بما قاله إدوارد سعيد في "الاستشراق" (ص44-45، الترجمة العربيّة، ت.محمد عناني): "ومن الصحيح أنّ الاستشراق مصطلح لم يعد يتمتع بالحظوة القديمة؛ فالمتخصصون يفضلون استخدام مصطلح "الدراسات الشرقيّة" (Oriental Studies) أو مصطلح "دراسات المناطق" لسببين؛ الأول، أنّه يتسم بقدر أكبر مما ينبغي من الغموض والتعميم، أما السبب الثاني فهو أنّ من ظلال معانيه الإيحاء بالاستعلاء الذي كان المديرون الأجانب يتّسمون به في عهد الاستعمار الأوروبي في القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين.

اقرأ أيضاً: العرب والاستشراق.. فصول من سوء الفهم والصّدام

ومع ذلك، ما تزال الكتب تكتب والمؤتمرات تُعقد حول "الشرق" باعتبارهِ الموضوع الرئيس، وهي التي تقيم حجمها على ما قاله المستشرقون القدماء، أو المحدثون باعتبارهم موضعَ الثّقة. ومعنى هذا؛ أنّ الاستشراق وإن لم يُكتب له البقاء بالصورة القديمة، فإنّه ما يزال حياً في الحياة الأكاديمية من خلال ما أرساهُ من مذاهب وقضايا فكرية بشأن "الشرق" و"الشرقيّ".

اقرأ أيضاً: مراجعة الاستشراق أم نقض الغرب؟

تُفيد الإشارة الذكيّة لإدوارد سعيد إلى أنّ تغيير مسمّى الاشتغال حول "الإسلام" و"الشرق" عموماً، لا يعني تغيير المتخيل نفسه عن هذه المفاهيم التي يدرسها الاستشراق، وهذه المناطق، والمجالات المعرفيّة التي هي محلّ اختصاصه. فانتهاء الاستشراق بصورته الكلاسيكية لا يعني أنّ تصوّرات المستشرقين نفسها، قد خضعت للتفكيك من قبل مؤسّسة الاستشراق. فما يزال المجال التمايزي قائماً بين الشرق والغرب في ثنائيّة أشبه ما تكون بالعرقية، وهو تمايُز معاييري بالأساس، يبوّئ الغرب المنزلة المعيارية، ويجعل من بقية العالَم "موضوعاً للدراسة" ومكاناً للاستعمار، وممارسة الهيمنة.

إنّ مزية كتاب "الاستشراق" لسعيد، هي أنّه وضّح ليس فقط سياسات المعرفة الاستشراقيّة في إعادة تعريف الشرق والمسلمين خصوصاً، وتاريخهم وسحْب أرشيفهم المحلّي وإعادة تحقيقه لمعرفة تصوّراتهم، إنّما، ما وضّحه الكتاب بالأساس -وذلك بالاستفادة من البروفسور جوزيف مسعد- أنّ الاستشراق، في عمقه، كان محاولة لتخليص الغرب من "الأخلاق الشرقيّة" التي صوّرها الغرب طوال الوقت على أنّها أخلاق رعويّة واستبداديّة وغير ليبراليّة، بل ضد الليبرالية وغير حديثة.

اقرأ أيضاً: إعادة النظر في الاستشراق

بالإضافة إلى ذلك، فإنّ المتخيّل الاستشراقي تخلله كِبر جامح حيال ما يدرس من الإسلام والشرق والثقافات غير الحديثة؛ إذ لم يعمد المستشرق على مراجعة أدواته النقدية، ليس لأنه ضعيف علمياً بالأساس، بل للتفوق الذي يحظى به بوصفه دارساً لثقافات غير حديثة، وبدائية، وهذا وفّر له مساحة رحبة من إلقاء الأحكام حول معرفة هذه الثقافات وتشكّلها ومنتجاتها.

لا يقتصر نقد الاستشراق على المنحى الأكاديميّ فقط، بل ما نسعى للوصول إليه في هذه المقالة، هو أنّ المعرفة الاستشراقيّة حول الإسلام والشرق والعرب لم تكن منذ نشأت وحتى الآن حبيسةَ النقاشات الأكاديمية بين "خُبراء المعرفة" والمتلقين لها، بل ما أجادل به هو أنّ هذه المعرفة تشكل قطاعاً واسعاً من المخيال الأوروبي والأمريكي حيال الإسلام وثقافته والشرق ومناطقه غير الحديثة.

اقرأ أيضاً: الصراع على الإسلام.. من الاستشراق إلى الجهادية الإسلامية

فصورة الإسلام تخضع إلى ذات المتخيّل الاستشراقي، ويتم النظر إليها وفق ذات الاستراتيجيات المعرفية التي أنشأها الاستشراق. وبالاعتماد على تيموثي ميتشل في كتابه "استعمار مصر"، يمكن القول إنّ الإسلام في المتخيل الغربي بمثابة "معرض" تم إنشاؤه استشراقياً، بحيث أصبح هناك "قلق التمثيل" الحاصل بين "الإسلام" كنظام معرفة قائم بالفعل، وبين "الإسلام" كنسخةٍ أُعيد رسمها ضمن "معرض" كبير في المتخيل الغربي.

أظهرت الأحداث الأخيرة التي يقوم بها تنظيم داعش، صورة الإسلام قائمة في المخيال الأوروبيّ، وأوضحت، لليمين ولليسار على السواء، أنّ صورة الإسلام ما تزال تحمل القلق نفسه الذي كان، رغم مرور سنوات من الظنّ، بأنّ هذه الصورة قد ولّت إلى غير رجعة.

إنّ الهجوم على المراكز والصحف والمدن الأوروبيّة من قبل داعش، بيّن أنّ إنتاج الرؤيّة الجوهرانيّة تجاه "الإسلام" (وأنا أتعمّد وضع الإسلام بين مزدوجتين لقناعات تأويليّة) ما تزال موجودة، حيث لا يُنظر لهذه الأحداث بعيون جوهرانية، ويتم خلط الإسلام بثقافته الواسعة والمتعددة بمثل هذه الأفعال، وتخرج الدعوات بالتالي إلى إصلاحه حتى يكون معتدلاً.

إذ يمثّل "الإسلام" نقطة قلقة في المتخيّل الغربيّ، وكلّما ظنّ المرء أنّ هذا المتخيّل بدأ يغيّر من نمط معرفته، يزداد المرء، في الوقت نفسه، اعتقاداً أنّ هناك نظرات جوهرانيّة عن "الإسلام" والمسلمين". وكلّ عمليات تحسين صورة الإسلام غربياً لن تجدي نفعاً؛ لأنّها واقعة في الأوروبة والمركزة الغربيتين.

ما يزال المجال التمايزي قائماً بين الشرق والغرب إذ يبوّئ الغرب المنزلة المعيارية ويجعل من بقية العالَم موضوعاً للدراسة

يتذكر المرء وهو يتابع بعض الأحداث مثل تشارلي إيبدو، وأحداث قتل المسلمين بأمريكا وغيرها، ما كتبه الراحل إدوارد سعيد في كتابه "تغطية الإسلام" (covering islam) حين قال: "ينظر الجمهور في أمريكا وأوروبا اليوم إلى الإسلام باعتباره "أنباءً" من نوع لا يسرّ على الإطلاق".

لهذا فإنّ الدعوة إلى إعادة التفكير في الاستشراق، تبتغي في النهاية نشاطاً مجتمعياً وتحليلاً شائعاً، وليس الانكفاء الأكاديمي، كما يُظنّ؛ فالتصوّرات الاستشراقيّة متغلغلة في الإعلام والذي هو أكثر شيءٍ يلامسه الإنسان اليوم.

وللحقيقة والإنصاف، ليست التصوّرات الاستشراقيّة متغلغلة في "الميديا" الغربية فقط، ولا في الإنتاج المعرفي الغربي، بل هي متغلغلة في "الميديا" العربيّة بشكلٍ رديء، وهؤلاء الكولونياليون الذين هم أبشع من الكولونياليين الأصليين، ليسوا سوى مروّجي الإمبراطورية الأمريكية والاستعمار في العالَم العربي. وبالطبع، فهم يساندون كل الرجعيات العربية لإنقاذ المنطقة من القوى الظلامية.

اقرأ أيضاً: برنارد لويس... بطريرك الاستشراق

نحن ضحايا المتخيل، ولكن، للأسف، هو متخيل مزدوج، خارجي وداخلي، من المؤسسة الاستشراقيّة ومن ضحايا الاستعمار في الداخل، وتعد تخيلات الذين من الداخل أبشع؛ لأنها صادرة عن عرقيين سُذّج مندفعين وراء "الإمبراطورية البيضاء" ويروّجون لها.

الصفحة الرئيسية