ما الذي أعاد رواية جوستين "الممنوعة" للظهور عربياً؟

ما الذي أعاد رواية جوستين "الممنوعة" للظهور عربياً؟


07/01/2020

منذ 228 عاماً كتب الفيلسوف والروائي الفرنسي "دوناتيه ألفنس فرانسوا دي ساد" (1740 - 1814) الملقب بـ "الماركيز دي ساد"، لكونه من طبقة النبلاء، روايته الشهيرة "جوستين"، التي تصور شرور العالم وساديته، وتعري غرائزية الإنسان وحيوانيته، اللتين تتغلبان على العقل وتقهران الأخلاق. "جوستين" واحدة من الروايات التي مُنعت، منذ صدورها في العام 1791، وحتى بعد موت كاتبها بأعوام، الذي كان أول من جعل العنف مادة للرواية، وأول من تحدث عن "السادية" التي نُسبت إليه فيما بعد؛ أي التلذذ بتعذيب الضحايا.

اقرأ أيضاً: من مستنقع "الرذيلة" نعطي دروساً بـ "الفضيلة"!
كان دي ساد أرستقراطياً متمرداً على تقاليد طبقته وقيمها، وكانت رواياته (السادية) ذات الطابع الفلسفي متحررة من جميع قوانين الأخلاق؛ تستكشف مواضيع وتخيلات بشرية دفينة، مثيرة للجدل وأحياناً للاستهجان، في أعماق النفس البشرية، من قبيل البهيمية والاغتصاب وانعدام الضمير... وكان من دعاة السعي إلى المتعة الشخصية المطلقة، من دون أي قيود أخلاقية أو دينية أو قانونية.

عام 1791 كتب الفرنسي دي ساد روايته الشهيرة "جوستين" التي تصور شرور العالم وساديته

حاول "دي ساد" أن يوصل فلسفته السادية إلى المجتمع الفرنسي والعالم عن طريق تطبيقها في الممارسة، ومن ثم، تجسيدها في الأدب، مما جعل السلطات الفرنسية تحكم عليه بالسجن عشرين عاماً في زمن "نابليون بونابرت"، وذلك لتماديه في الانحراف وتعذيب ضحاياه، وقد وصفه علماء النفس والفلاسفة بالمنحرف والفاحش، لكن وجد فرصته حانت أخيراً، لكي يسمعه القراء والقارئات ويخطو بهم وبهنّ نحو الحرية الفكرية وفق رؤيته.
"جوستين" سيرة فاجعة من الألم والعنف الجسدي والنفسي والوحشية اللامتناهية، وسهولة ارتكاب الإنسان للجريمة، وتعبر عن صراع طويل وأبدي بين قوى الخير والشر، أو كما أسماها "دي ساد" بين "الفضيلة والرذيلة"، لكنها

أيضاً ضرب من الفلسفة وحثّ للعقل على التفكير في الطبيعة البشرية، وأثر الحياة الاجتماعية والسياسية في إطلاق الغرائز البدائية، كما هي الحال عندنا، منذ أعوام، أو في عقلنتها وتهذيبها وإخضاعها للقيم الاجتماعية والإنسانية.  

لمحة عن الرواية
توفي مدير أحد المصارف، في فرنسا، بعد أن خسر كل ثروته؛ تاركاً فتاتين لم تبلغا السن القانونية، "جولييت"، 14 عاماً، و"جوستين"، 12 عاماً، وهما مختلفتان في الطباع: "جولييت " تطمح إلى السلطة، مهما كان الثمن باهظاً للوصول إليها، أما "جوستين" فقد اختارت درب "الفضيلة"، الذي رأت من خلاله ويلات التعذيب والقهر والاغتصاب طيلة 14 عاماً.

اللافت في هذه الرواية أن جميع شخوصها يحملون الشر في دواخلهم باستثناء "جوستين"

خاضت "جوستين" غمار الحياة؛ هربت من رب عملها الذي كان يضطهدها إلى كنيسة نائية، أملاً بالخلاص من العذاب، فوصلتها ليلاً وقد أغلقت الكنيسة أبوابها، طلبت من الخادم أن يساعدها، فأتاها بأحد القساوسة، استمع إليها، وطمأنها، وطلب منها أن تتبعه. ولكنه ما إن ابتعد قليلاً حتى ناداها بـ"العاهرة"، وأدخلها إلى زاوية آمنة، لتجد أربعة "آباء" تناوبوا على اغتصابها وإيذائها، وبدأت معاناتها من جديد. عثرت هناك على فتيات أخريات وقعن في فخ الآباء الساديين. بعد 14 عاماً من العذاب والامتهان التقت بأختها "جولييت" التي أسكنتها في منزلها، العائد إلى زوجها ذي المكانة الرفيعة في فرنسا، والذي وقف مع "جوستين" ودافع عنها في المحكمة ليثبت براءتها من الجرائم المنسوبة إليها أثناء رحلتها مع العذاب والسادية المُمارسة عليها.

اقرأ أيضاً: هل سنكون أكثر أخلاقاً إذا قلّصنا نوافذ الحرية؟
اللافت في هذه الرواية أنّ جميع شخوصها يحملون الشر في دواخلهم باستثناء "جوستين" التي تحمل "الفضيلة" أو بذرة الخير، وهذه ليست إلّا تعبيراً واضحاً عن الدروب الشائكة لتماهي الإنسان مع "الرب" المتمثل "بالخير"، وتحصين نفسه من نزواته العنيفة، والتفريق بين القوانين الطبيعية والقوانين الاجتماعية، يقول "دي ساد" في ص 42، "... وعود الدين الباطلة، والقوانين، هي التي توقف الحمقى عن التحوّل إلى مجرمين، وأداء النوايا العظيمة، لكن القوي النشيط يعرف موقع اهتماماته الحقّة، يهزأ ..والإنسان، يتحدى الموت، يزدري القوانين بقناعة عميقة أنّه قياس لكل شيء"، فالبشر متساوون أمام الطبيعة، لكن في القانون الاجتماعي الحكم للأقوى الذي يعرف من أين تؤكل الكتف، بهذا المعنى يقول في الصفحة ذاتها: "... الفضيلة لا تجمعنا معاً، فقط أهواؤنا الشخصية ما يربطنا، (....)، ما يسميه المجتمع هواه ليس غير كتلة أهواء مجمعة، وإن لم يكن لديكِ ما تقدمينه للمجتمع فما الأهمية التي تولينها لنفسك؟ أفضل ما يقدمه المرء لنفسه هو أن يعتزل المجتمع، والانضمام إلى من يقاومون ذاتيته الجمعية،... ليس أمام المنبوذين مثلنا غير وسيلتين فقط، الجريمة أو الموت".

اقرأ أيضاً: تنوُّع خيارات الإنسان.. ماذا عن سؤال الأخلاق؟
وضعت تلك الرواية أساساً متيناً لتوظيف الخوف والعنف في الأدب والفن، فأتت بعدها روايتا "فرانكشتاين" المسخ البشري، و"دراكولا" مصّاص الدماء، اللتين غزتا عالم الأدب، والسينما الغربية في بداية القرن العشرين ولا تزالان حتى يومنا.

"جوستين" سيرة فاجعة من الألم والعنف الجسدي والنفسي والوحشية اللامتناهية وسهولة ارتكاب الإنسان للجريمة

لم تكن شخصيات "دي ساد" من طبقة النبلاء، إنما من هوامش المجتمع الفرنسي، الموجودة في كل مكان من العالم، تعيش في عزلة عن المجتمع، ليقع أصحاب "الفضيلة" في شراكها، مثل "جوستين" التي رفضت أن تكون سلعة في العالم الرأسمالي الصاعد؛ فالشر عند "دي ساد" يبلغ حده الطبيعي، في إرضاء رغبة السيد، وما أن ينتشي ذلك السيد حتى يتوقف عن تعذيب ضحيته. والمستهجن في الرواية أنّ جميع ضحاياها من النساء. ولا يزال اغتصاب نساء "العدو"، في عالمنا المتمحور على السادية والمازوشية، يعبر عن لذة الانتصار.
بعد ظهور الرواية عربياً لأول مرة العام 2006 بترجمة "رقابية" منقوصة عن الإنجليزية، عادت للظهور مؤخراً كاملة بلغة الضاد تحت عنوان "جوستين.. لعنة الفضيلة" بعد أن ترجمها كامل عويد العامري عن لغتها الأصلية.
ليس غريباً أن تعود "جوستين" عربياً في القرن الواحد والعشرين؛ فحال مجتمعاتنا الآن لا تختلف عن حال المجتمع الفرنسي في "عصر الإرهاب" الذي أعقب الثورة الفرنسية وصوّره "الماركيز دي ساد" في انقساماته الدينية والاجتماعية والسياسية، وليس أدل على ذلك من الفظائع التي تطالعنا كل يوم، وجرائم "داعش" التي تعد تعبيراً مفرطاً عن السادية التي استمرأها كثيرون باسم امتلاك الحق؛ ما جرى ويجري في سوريا والعراق وايران واليمن وغيرها ليس إلاّ "جوستين" بحلة جديدة.



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية