ما الذي تفعله تركيا بالضبط في ليبيا؟

ما الذي تفعله تركيا بالضبط في ليبيا؟


26/03/2020

ترجمة: علي نوار


في تشرين الثاني (نوفمبر) من العام ٢٠١٩، وقّعت كل من الحكومة التركية وحكومة الوفاق الوطني بقيادة فايز السراج، اتفاقيتين للتعاون أحدثتا حالة من الدهشة والاستياء في دول الجوار القريب، خاصة في كل من جمهورية قبرص واليونان وإسرائيل ومصر، التي تتنازع معهم أنقرة السيادة على الشطر الشرقي من البحر المتوسط. ويتعلّق الاتفاق الأول بهذه النقطة، بينما ينظّم الثاني، رغم انفصاله عن الأول لكن هناك بالقطع صلة بينهما، التعاون العسكري والدعم الذي ستقدمه تركيا، والذي لا يتضمّن حتى الآن نشر قوات مقاتلة.

اقرأ أيضاً: من يسعى إلى إشعال الحرب مجدداً في ليبيا؟

ويتجاوز الأثر الاستراتيجي لهذه الاتفاقات الحدود الجغرافية لليبيا وظهرت تبعاته في نطاق أوسع. وكما كان متوقعاً، لم يقف أحد موقف المتفرج، ورأت دول أخرى لها مصالح في ليبيا، مثل فرنسا وإيطاليا، نفسها مضطرة لاتخاذ موقف رافض للاتفاقيتين، وهو نفس الموقف الذي أظهره الاتحاد الأوروبي، بينما وصفت الولايات المتحدة ما حدث بأنّه "استفزازي". على الجانب الآخر بدت كل من روسيا والصين متحفّظتان في هذا الصدد، لتمنحا نفسيهما قدراً أكبر من حرية الحركة حيال هذا الملف وفقَا لما ستؤول إليه الأمور.

تُعتبر تركيا ضمن الدول التي تخطّط سياستها الخارجية بأكبر قدر من التروّي. لا يمكن الجزم بأنّ هذه الطريقة ناجحة على الدوام، لكنّها بالتأكيد ترتكز إلى أسس راسخة ولا تأتي تصرّفاتها من منطلق الارتجال. بالتالي ينبغي تحليل الحراك الخارجي التركي من هذا المنظور، بحيث يمكن استشفاف دوافع هذا التحرّك وتوقّع نتائجه الاستراتيجية على توازن القوى في المنطقة.

المصالح التركية في ليبيا: الأسباب

إنّ اهتمام تركيا بليبيا ليس بحديث. فقد كانت جزءاً من الإمبراطورية العثمانية، كما أنّها كانت أول تجربة قتالية يخوضها الشاب مصطفى كمال أثناء الحرب التي اندلعت على خلفية احتلال إيطاليا لليبيا عام ٢٠١١، وأسهم أداؤه البارز خلال معركة جاليبولي أثناء الحرب العالمية الأولى والتي حوّلته إلى بطل قومي.

من العوامل التي تتوافر في ليبيا وتمثّل بالنسبة لتركيا فرصاً سانحة لا ينبغي إهدارها تغلغل التأثير التركي في أفريقيا

ورغم أنّ العوامل العاطفية بالطبع لها أهميتها، إلّا أنّ السياسة الخارجية التركية الحالية ركّزت انتباهها على بلد أصبح اليوم ضمن تصنيف الدول الفاشلة بسبب التدخّلات الخارجية بنسبة كبيرة. لكن ما سرّ هذا الاهتمام الواضح؟ يمكن بكل يسر رصد أربعة عوامل على الأقل تتوافر في ليبيا وتمثّل بالنسبة لتركيا فرصاً سانحة لا ينبغي إهدارها: ١) تغلغل التأثير التركي في أفريقيا، ٢) وضع اليد على موارد الطاقة الليبية، ٣) تقويض دور مصر الإقليمي، ٤) ترسيم حدود السيادة في شرق البحر المتوسط. ويرتبط أول عنصرين مباشرة بسياسة التوسع في أفريقيا التي بدأت الحكومة التركية في اتباعها منذ منتصف العقد المنصرم. أمّا العاملان الآخران فلهما أهداف أبعد وربما يكونان الدافع وراء توقيع تلك الاتفاقيات المذكورة، نتيجة لأنّ هذين العاملين من شأنهما دفع تركيا لبذل كل ما بوسعها من أجل تحقيقهما.

النفوذ في القارة الأفريقية

سمحت الطفرة الاقتصادية التي عرفتها تركيا بعد وصول حزب العدالة والتنمية للسلطة للحكومة التركية بأن تتطلّع لتوسيع نطاق علاقاتها التجارية على المستوى العالمي، مصحوبة بسياسة خارجية تركّز على استعادة دور القوة الإقليمية ذات الرؤى العالمية والذي لطالما اعتبرت على مدار التاريخ أنّ بلاد الأناضول جديرة به. ونظراً لاعتبار الكثيرين أفريقيا قارة المستقبل، فقد وضعت القارة السمراء ضمن الأهداف التي تسعى أنقرة لتحقيقها على النحو الأمثل.

اقرأ أيضاً: في ظل تفشي كورونا.. تركيا تُغرق ليبيا بالسلاح بدلاً من المعدات الطبية!

بيد أنّ حدثين جللين شهدتها دول ذات تاريخ عثماني عام ٢٠١١، فتّحا أعين القيادة التركية على فرصة ثمينة لإضفاء لمسة "تجديد" على السياسة الخارجية تجاه أفريقيا وتصدير صورة إلى بلدانها بأنّ تركيا دولة تحترم التزاماتها وتمتلك القدرة على تقديم حلول حقيقية لأزمات وهما المجاعة التي ضربت الصومال والثورة في ليبيا التي انتقلت رياحها إليها من دول الجوار التي مرّت هي الأخرى بما يسمّى "الربيع العربي". وفي الحالة الأولى أسهمت تركيا بصورة كبيرة في المساعدات الإنسانية والتي أرست أسس تعاون أوسع بكثير كانت نتيجته مكانة مرموقة لأنقرة في جميع أرجاء القارة الأفريقية مع مرور الوقت. لذا تُعدّ الصومال بالنسبة لتركيا قصة نجاح ودليل على أنّ النموذج التركي في التعاون هو بديل لنماذج أخرى سواء الصيني أو الروسي أو الغربي.

اقرأ أيضاً: المتحدث باسم الجيش الليبي يكشف عدد المرتزقة السوريين والأتراك في ليبيا

فيما لم تكن التبعات في الحالة الثانية إيجابية بالدرجة المنشودة. فمنذ اللحظة الأولى تعاملت تركيا مع المجلس الوطني الانتقالي بوصفه "الممثّل الوحيد للشعب الليبي" وكانت أول دولة توفد سفيراً إلى طرابلس بعد سيطرة المجلس على المدينة، إضافة إلى دعمها المستمر والقوي لحكومة الوفاق الوطني التي تمخّض عنها الاتفاق السياسي من أجل ليبيا المُبرم في كانون الأول (ديسمبر) من العام ٢٠١٥. ولكي تعزّز وضعها كدولة تتصرّف من منطلق الإيثار وتخلّصت من أحمال ماضيها الاستعماري، تنفّذ تركيا منذ ٢٠٢٥ عدّة مشروعات لتوفير المساعدات الإنسانية عن طريق وكالتها الحكومية للتعاون "تيكا" وكذلك منظمة الهلال الأحمر.

اقرأ أيضاً: المرصد يكشف عدد القتلى من مرتزقة تركيا في ليبيا

لكن ولأسباب لا يتّسع المجال لذكرها، لا يظهر الاستقرار السياسي ضمن خصائص ليبيا ما بعد القذافي، وتسبّبت الحملة التي يشنّها المشير خليفة حفتر في وضع حكومة الوفاق الوطني في مأزق. وتبرز تركيا هنا كأحد أهم داعمي حكومة الوفاق الوطني، بحيث تروّج لنفسها بين الدول الأفريقية على أنّها تحترم النظام العالمي، وعلى أمل أن يسهم كل نجاح تحقّقه في ليبيا في تعظيم رأسمالها السياسي بحيث تستطيع استثماره في باقي القارة.

الطاقة

إنّ الحديث عن السيطرة على موارد الطاقة باعتبارها أحد الدوافع، إذا لم يكن أهمّها، وثورات عام ٢٠١١، وتدخّل حلف شمال الأطلسي "ناتو" الذي أدّى لإسقاط نظام القذافي هو من باب ذكر البديهيات. ولا تعدّ تركيا استثناء من ذلك. ويتشكّك الكثيرون اليوم في فكرة أنّ الإيثار هو المحرّك الوحيد الذي يدفع تركيا للاهتمام بليبيا. بالتأكيد تحاول تركيا الحصول على الموارد التي تفتقر وتحتاج لها من أجل المحافظة على سلامة اقتصادها وهو ما يعني بالتالي تحقيق أهداف سياستها تجاه أفريقيا.

من أهداف تركيا أيضاً وضع اليد على موارد الطاقة الليبية وتقويض دور مصر الإقليمي وترسيم حدود السيادة في شرق المتوسط

وتمتلك ليبيا احتياطات هائلة تُقدّر بحوالي ٤٨ مليار و٤٠٠ مليون برميل من النفط (ما يعادل ٢.٨٪ من الاحتياطي العالمي)، علاوة على ١.٥ مليون متر مكعّب من الغاز الطبيعي، لكن استخراج هذه الموارد خلال الفترة السابقة لعام ٢٠١١ ينحصر بين شركات بعينها مثل؛ بريتيش بتروليم البريطانية وتشيڤرون الأمريكية وإيني الإيطالية وربسول الإسبانية وشيل الهولندية وتوتال الفرنسية وشركات أخرى صينية ونمساوية ونرويجية وألمانية.

وحتى اليوم، لا تزال صناعة النفط التركية غائبة عن الساحة الليبية. وربما يكون هذا الوضع قاب قوسين أو أدنى من التغيّر. فمن شأن وجود حكومة موالية في طرابلس تسهيل دخول شركة النفط التركية الرسمية إلى آبار النفط الليبية، ليس فقط في الأراضي القارّية، بل وأيضاً تلك الواقعة في مناطق سيادتها بالبحر المتوسط. وبالفعل، كشفت تركيا عن نواياها بتنفيذ مشروعات تنقيب في المياه التي تصنّفها الحكومة الليبية بأنّها منطقة اقتصادية خالصة.

منافسة إقليمية

لم تكن العلاقات الثنائية بين مصر وتركيا تاريخياً سهلة قط. ومنذ حقبة الإمبراطورية العثمانية التي كانت مصر جزءاً منها حتى نهاية الحرب العالمية الأولى، تتنافس الدولتان على زعامة وقيادة العالم الإسلامي السُنّي، بل أنّ عهد الرئيس المصري السابق أنور السادات، والذي كان يتزامن مع الحرب الباردة التي اتّسمت بالتقاء مصالح مصر مع الكتلة الغربية، لم يشهد كذلك محادثات حقيقية بين الطرفين. رغم أنّ العلاقات مرّت بنوع من الدفء خلال الفترة الوجيزة التي تواجدت فيها حكومة من الإخوان المسلمين. لكن سقوط حكم الإخوان في ٢٠١٣، علاوة على الدعم الذي توفّره تركيا للإخوان المسلمين، الجماعة المحظورة في مصر، أوصل العلاقات بين البلدين إلى نقطة أقرب للانقطاع.

اقرأ أيضاً: أردوغان يخفي قتلاه في ليبيا!

وتدعم مصر، المشير خليفة حفتر وجماعة الجيش الوطني الليبي. بالتالي، أضحت ليبيا مسرحاً لحرب بالوكالة بين بعض الدول. وكل ذلك في ظلّ موقف مبهم من ناحية روسيا التي رغم إعلانها الحياد، إلّا أنّ دعم شركة "ڤاجنر" العسكرية الروسية الخاصة للجيش الوطني الليبي معروف للجميع.

وهنا يظهر في الصورة اتفاق التعاون العسكري والأمني. ويقتصر هذا الاتفاق على ملفّات الدعم التقني والمشورة وتبادل المعلومات والاستخبارات والتدريب والتأهيل والتجهيز، وكذا الصناعات الدفاعية، وقائمة من ٢٣ بنداً آخرين، بيد أنّه لا يشمل نشر قوات مقاتلة.

اقرأ أيضاً: المجلس العالمي للتسامح والسلام يحذر من تدخل "قوات التدمير التركي" في ليبيا

بموجب هذا الاتفاق، أرسلت تركيا مستشارين ومدرّبين عسكريين إلى ليبيا؛ حيث حدثت أولى الخسائر بالفعل. وقد اعترف الرئيس أردوغان بالفعل بسقوط عدد من أفراد الجيش الوطني السوري، وهو فصيل سوري معارض تدعمه تركيا. إضافة إلى هذا الفصيل، تنشط بالفعل في ليبيا شركة الأمن التركية الخاصة "سادات" منذ عام ٢٠١٣ على أقل تقدير. لذا فإنّ تركيا ستبذل كل ما بوسعها على الأرجح للحيلولة دون سقوط حكومة الوفاق الوطني، وبالتالي تسهيل تغلغل مصر في المشهد الليبي. ولا ينحصر هذا في إمداد حكومة الوفاق الوطني بالمعدّات العسكرية فحسب، بل يمتدّ ليصل إلى الدفع بقوات مقاتلة، حسبما تقتضي الأوضاع على الأرض، وقد طلبت حكومة الوفاق الوطني بالفعل المزيد من القوات المسلحة التركية.

لقد أصبح من الضروري بشدّة بالنسبة لتركيا احتواء النفوذ المصري في القارة الأفريقية، وربّما انتظار تغيير النظام في مصر والذي تعتقد أنقرة أنه قد يفضي إلى إزالة العقبات في طريق تطبيع العلاقات الثنائية. ومن أجل إكمال "الحصار"، أقامت تركيا علاقات وثيقة مع السودان، حيث يتمتّع أردوغان بتأثير متزايد. وخلال زيارته للبلاد في ٢٠١٧، تعهّد الرئيس بتشييد بنية تحتية والارتقاء بحجم التبادل التجاري بين البلدين ليبلغ ١٠ مليار دولار، ليضمن حقّ إعادة بناء جزيرة سواكن، وهو ميناء عثماني مهم يعود للفترة بين القرنين؛ الخامس عشر والتاسع عشر، على سواحل البحر الأحمر. إلّا أنّ سقوط نظام الرئيس السوداني السابق عمر البشير جاء ليوجّه ضربة موجعة للتطلّعات التركية، التي أصبحت مسألة استمراريتها في مهبّ الريح. وبعد فترة مقتضبة من الترقّب، بدأت الحكومة التركية في الوقت الحالي سلسلة من التحرّكات لمحاولة تجاوز ما حدث، بما يشمل تعزيز التعاون في مجال الدفاع.

ترسيم مناطق السيادة في شرق البحر المتوسط

يُعدّ هذا هو الملفّ الأهم من المنظور التركي في الوقت الراهن والذي جاءت نتيجته في صورة توقيع مذكّرة التفاهم حول ترسيم مناطق السيادة في البحر المتوسط. ولفهم ذلك الأمر يجب العودة بشكل خاطف إلى القانون الدولي للبحار الذي ينصّ على أحقّية كل دولة في ٢٠٠ ميل بحري من آخر نقطة في أراضيها المحاذية للبحر، ومنطقة اقتصادية خالصة يمكن للدولة فيها ممارسة حقها في السيادة، وفي حالات بعينها يمكن مدّ نطاق هذه المنطقة بحيث يصل إلى ٣٥٠ ميلاً بحرياً.

سقوط نظام الرئيس السوداني عمر البشير جاء ليوجّه ضربة موجعة للتطلّعات التركية التي أصبحت مسألة استمراريتها في مهبّ الريح

لكن المشكلة في حالة شرق البحر المتوسط تكمن في محدودية المساحة وبالتالي صعوبة تطبيق القانون الدولي، لذا لا بديل أمام دول المنطقة سوى ترسيم الحدود البحرية عن طريق التفاوض فيما بينها مع الالتزام "بعدم القيام بأي شيء قد يهدّد أو يعوق إتمام الاتفاق النهائي".

وحتى الآن وإزاء غياب الاتفاق، امتنعت تركيا واليونان عن الإدلاء بأي إعلان رسمي يمكن تأويله على أنّه عدائي. بيد أنّ الاتفاق التركي-الليبي يعدّ خرقاً لهذه الحالة لا سيما وأنّه يتضمّن وضع خطّ فاصل بطول ١٨.٦ ميلاً بحرياً متساوي البعد بين السواحل التركية والليبية. وتكمن المشكلة هنا في وجود جزر مثل كريت بالقرب من هذا الخط الفاصل، إضافة إلى جزر أخرى أصغر من حيث المساحة مثل كارباتوس ورودس اللتين ونظراً لكونهما مأهولتين بالسكان، تضفيان المشروعية على مطالبات اليونان التي يتجاهلها الاتفاق التركي الليبي.

اقرأ أيضاً: ليبيا و"صوفيا الجديدة"

من جانبها، تدّعي تركيا أنّ الاتفاق أُبرم مع حكومة شرعية بموجب الدستور وتحظى باعتراف المجتمع الدولي، ما يعني أنّه يسير في إطار القانون الدولي. واستناداً إلى معاهدة فيينا للحق في إبرام الاتفاقات.

والحقيقة أنّ الخلاف حول ترسيم مناطق السيادة في الشطر الشرقي من البحر المتوسط والاستفادة من موارد الطاقة المكتشفة أسفل مياهه هو الذي أدّى لتوقيع الاتفاق. ورغم أنّ العملية لا تزال في بداياتها، إلّا أنّ استغلال الحقول المكتشفة على مدار العقد الأخير أسفر عن تشكّل تحالفات استراتيجية إقليمية: وتضمّ المجموعة الأولى كل من اليونان وقبرص وإسرائيل ومصر التي تتعاون فيما بينها لإيجاد صيغة حول الاستفادة من مواردها المحتملة، بينما تشمل المجموعة الثانية كل من تركيا وجمهورية شمال قبرص التركية، والأخيرة لا تحظى باعتراف المجتمع الدولي. بالمثل تمتلك كل من فرنسا وإيطاليا، ممثّلتين في شركتي النفط "توتال" و"إيني"، على الترتيب، مصالح تجارية في هذه المياه، ما دفعهما لاتخاذ صفّ المعسكر الأول الذي يتمتّع بتأييد الاتحاد الأوروبي. كذلك لدى الولايات المتحدة مصالحها التجارية الخاصة بالموارد المحتملة في المياه التي تطالب قبرص بالسيادة عليها.

اقرأ أيضاً: مع التدخل التركي في ليبيا.. معركة تونس ضد الإرهاب تزداد صعوبة

تركت كل هذه التحالفات تركيا في حالة من العزلة. وقد دفع عقد منتدى غاز شرق البحر المتوسط، وهو ملتقى سياسي للتعاون في مجال الطاقة تشارك فيه كل من مصر وإسرائيل والأردن والسلطة الفلسطينية وقبرص واليونان وإيطاليا كما أبدت فرنسا اهتمامًا بالانضمام له، تركيا إلى التحرّك بالتأكيد.

ويرسم الاتفاق بشكل واضح الحدود ويمنح تركيا منطقة من البحر تجبر أي خط غاز قد يمكن مدّه لتصدير غاز شرق البحر المتوسط إلى أوروبا على المرور عبرها، وبالتالي تصبح لدى تركيا الكلمة العليا وصلاحية رفض أو حتى عرقلة مدّ أي خط.

اقرأ أيضاً: كيف استغل أردوغان تزييف التاريخ العثماني في ليبيا؟‎

وبغضّ النظر عن الآثار القانونية التي قد يجلبها هذا الإعلان، فإنّ ترسيم حدود المنطقة الاقتصادية الخالصة في رقعة متنازع عليها عند الأراضي اليونانية وتحديدًا جزيرة كريت، يمثّل تحوّلًا استراتيجيًا. ويأتي هذا التغيّر الاستراتيجي مصحوبًا بنشر قوات تركية في ليبيا دعمًا لحكومة الوفاق الوطني- حتى لو كان هذا الانتشار على نطاق محدود في الوقت الحالي- ليضع الملف الليبي في وسط المشهد الجيوسياسي شديد الخصوصية في شرق البحر المتوسط وحيث تسعى تركيا لاستعادة مكانتها كقوة إقليمية لا بديل عن التفاوض معها ولا مجال لتجاهلها. وعلى حد تعبير نائب الرئيس التركي فؤاد أقطاي "فرص نجاح أي خطة في المنطقة لا تشمل تركيا ضئيلة للغاية". لذا يبدو واضحًا بشكل جليّ أنّ تركيا تنتهج سياسة الأمر الواقع.

النتائج على الجيوسياسية الإقليمية

مما سبق يتّضح أنّ الأسباب التي تدفع تركيا للتدخل في الساحة الليبية منذ 2011 ترتبط بصورة كبيرة بتطلّعاتها نحو تأكيد نفوذها في القارة الافريقية عن طريق مشروعات تعاون سياسي واقتصادي وعسكري. رغم أنّ تطور الأحداث في البلد العربي وعودة شبح الحرب الأهلية منذ نيسان (أبريل) من العام الماضي قوّض بشكل ملحوظ من بريق النجاح الذي وصلت له أنقرة حتى الآن. على الجانب الآخر، أسفرت العزلة التي تختبرها تركيا في شرق البحر المتوسط عن اتباعها لاستراتيجية تمرّ عبر الدمج بين المسألتين، بحيث يصعب للغاية التطرّق لإحداهما دون المساس بالأخرى. وسيعني استمرار حكومة فايز السراج وجود حليف ثمين ويؤدّي لتقوية الاتفاق حول ترسيم الحدود البحرية في مياه البحر المتوسط الشرقي.

اقرأ أيضاً: أردوغان في ليبيا قرأ الدرس الإيراني

وحتى الآن وباستثناء لبنان وسوريا، أعلنت جميع الدول المطلّة على البحر المتوسط؛ مصر وإسرائيل وقبرص واليونان وإيطاليا، وانضمّت إليهم فرنسا- التي تمتلك وجودًا بحريًا في هذه المياه وحيث زارت حاملة طائراتها "شارل ديجول" مؤخرًا ميناء ليماسول في قبرص، أنّ الاتفاق المذكور باطل، بينما وقّعت فرنسا مع اليونان اتفاقاً لتعزيز التعاون الدفاعي يعكس بالطبع نواياهما. كما لا يمكن إغفال مهمة الاتحاد الأوروبي البحرية التي حصلت على الضوء الأخضر من المجلس الأوروبي في 17 شباط (فبراير) الماضي بناء على مقترح فرنسا لمراقبة الحظر على الأسلحة المفروض على ليبيا من جانب مجلس الأمن الدولي، وتعني هذه المهمة حضورًا عسكريًا سيصعّب كثيرًا على تركيا تحقيق أهدافها بالتنقيب عن موارد الطاقة في المياه التي تدّعي سيادتها عليها.

اقرأ أيضاً: اعترافات قبطان وطاقم سفينة نقلت الأسلحة من تركيا إلى ليبيا..

على أنّ مناقشات عاصفة تدور في أروقة الاتحاد الأوروبي بغية إيجاد توازن بين الموقف الرسمي بدعم حكومة السراج المعترف بها دولياً، وهو موقف المعسكر الذي تقوده إيطاليا بوصفها المنادي الأكبر بهذا الموقف، ومصالح فرنسا التي تقف وراءها اليونان وقبرص، والأخيرتان قد تستفيدان من انتصار محتمل للمشير حفتر. ومن شأن تضارب المواقف داخل الاتحاد الأوروبي أن تفضي في نهاية المطاف إلى إضعاف افتراضي للوحدة الأوروبية وبالقطع لن تتوانى تركيا عن استغلال ذلك.

أما الولايات المتحدة، فتختلف نظرتها للأمور بعض الشيء رغم رفضها للاتفاق التركي-الليبي، على أنّ تطور الأحداث في سوريا قد يؤدي لتغيير موقفها بعض الشيء. والحقيقة أنّ الأولوية الاستراتيجية لواشنطن هي إيقاف انتشار نفوذ روسيا والصين على الصعيد العالمي، كما أنّ الحملة العسكرية التي بدأها نظام الرئيس السوري بشار الأسد بدعم روسي في محافظ إدلب أحدث شرخًا عميقًا في العلاقات بين روسيا وتركيا، ما يُترجم إلى فرص سانحة.

اقرأ أيضاً: مرتزقة أردوغان في ليبيا.. القصة الكاملة (فيديو)

وبالفعل، أظهرت الولايات المتحدة إشارات تقارب من أجل بث بعض الدفء في علاقاتها مع تركيا والتي قد تستثمرها واشنطن على النحو الأمثل لإيقاف تغلغل التأثير الروسي في البحر المتوسط.  والحقيقة أنّ سعي موسكو الحثيث للحصول على موطئ قدم لها على الشاطئ الجنوبي من البحر المتوسط شيء معروف للعامة، لذا فإنّها تبقي على قنوات الاتصال مفتوحة مع جميع الأطراف المتنازعة في ليبيا، وكذلك في مصر حيث تمتلك تأثيرًا متزايدًا. خلاصة القول هنا أنّ تعزيز وضعية تركيا في ليبيا قد يخدم، بشكل غير مباشر، المصالح الأمريكية في المنطقة.

اقرأ أيضاً: تحذيرات دولية من استمرار انتهاكات أردوغان لحظر الأسلحة على ليبيا

لكن الاستراتيجية التي تنتهجها تركيا في البحر المتوسط لا تخلو أيضًا من المخاطر. فمن شأن وجود قوات مسلحة لقوة إقليمية متوسطة التأثير فضلًا عن محدودية القدرة على العمل عن بعد والحفاظ على استدامة قدراتها العسكرية، أن يضع تركيا وبسهولة في موقف شديد الصعوبة ما يعني عجزها عن تطبيق استراتيجيتها.

اقرأ أيضاً: بالأسماء والصور.. المسماري يكشف عن أبرز إرهابيي تركيا في ليبيا

وفوق كل ذلك، فإنّ تطوّر الأمور من الناحية العسكرية على نحو مغاير لمصلحة تركيا، قد يتسبّب في جرجرة الأخيرة إلى الانزلاق رغمًا عن إرادتها بشكل أكبر في الأزمة الليبية، وهذا في الوقت الذي تحتاج فيه لتركيز مواردها العسكرية على الحدود، خاصة السورية. وفي ظل هذه الظروف، فإنّ أنقرة لا تقامر فقط باستراتيجيتها في البحر المتوسط، بل باستراتيجيتها الأمنية على الحدود.

وعلى أي حال، سيتكفّل الوقت بالكشف عن أي الاستراتيجيات المتصادمة ستخرج فائزة في نهاية المطاف في هذه المنطقة التي تشهد تصاعدًا في التحرّكات العسكرية.


مصدر الترجمة عن الإسبانية:

https://bit.ly/2It9gcx



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية