ما السبيل لمشاركة سياسية عادلة؟

ما السبيل لمشاركة سياسية عادلة؟

ما السبيل لمشاركة سياسية عادلة؟


22/10/2023

تقوم العدالة، من زاوية النظر الليبرالية الخالصة، على ثلاثة أركان: المساواة والحرية والمشاركة في الحياة العامة وفي حياة الدولة، في ظلّ تكافؤ الفرص أو تساوي الشروط، ولا تكتمل إلا بإنصاف الفئات المحرومة والمهمشة والمستغَلَّة تاريخياً، ولا سيما النساء، والفئات التي تعاني من غبن تاريخي، منظوراً إليها على أنها "أقليات". هذه الأركان الثلاثة ضرورية، هي ذاتها، لتجاوز الديمقراطية الليبرالية جدلياً إلى الديمقراطية الاجتماعية والتنمية الإنسانية العادلة، لكن الليبرالية هي الأساس.

 

تتأسس المساواة على تساوي البشر عامة، ذكوراً وإناثاً، في الإنسانية، على الصعيد الوجودي أو الأنطولوجي، وتساوي المواطنات والمواطنين، في المجتمع المعني والدولة المعنية، في المواطنة، على الصعيدين؛ الاجتماعي والسياسي. ولا يكتمل معنى المساواة بين الأفراد إلا بتساوي الجماعات، التي ينتمون إليها، على المستوى الثقافي، وفقاً لأي معنى من معاني الانتماء، ولا سيما الجماعات الإثنية والدينية أو المذهبية، والتنظيمات المدنية والأحزاب السياسية. أما الحرية، فهي العلَّة الأولى للوجود الإنساني، من دونها تغدو المساواة إما مساواة في العبودية، وإما نوعاً من عدمية قوامها طمس الحدود بين مجالات الحياة الاجتماعية، وطمس الفروق بين الأفراد والجماعات، وتلاشي القيم الناظمة للحياة الاجتماعية. وأما تكافؤ الفرص أو تساوي الشروط، فهو الشرط اللازم للمشاركة المتساوية في الحياة العامة وحياة الدولة.

لا يكتمل معنى المساواة بين الأفراد إلا بتساوي الجماعات، التي ينتمون إليها، على المستوى الثقافي

المشاركة بالتعريف هي كيفية تعيُّن المساواة والحرية أو ترجمتهما، أو كيفية ممارستهما، في الحياة الخاصة والعامة، أو كيفية ممارسة العدالة. وهي موضوع هذه المقاربة.

المشاركة، في العربية، على صيغة مفاعلة، والتشارك على صيغة تفاعل؛ شكلاً ومضموناً، غير أنّه يجب التفريق بين الاشتراك من جهة، والتشارك والمشاركة من جهة أخرى؛ فمن حيث الاشتراك، نحن نشترك مع جميع الكائنات في الكون أو في الوجود المتعيِّن، ونشترك مع جميع الكائنات الحية في الحياة، وكذا أيُّ اشتراك.

الاشتراك هنا تقرير إيجابي لكون متحقق، اشتراك في وجود متعين أو كون متحقق، لا يفيد سوى هذا المعنى الساكن. أما المشاركة والتشارك فتحيل كل منهما على فعل واعٍ، أو فاعلية حية، تصدر عن مشيئة حرة، لتحقيق شيء ما، أو غاية مشتركة بين المتشاركين والمتشاركات؛ أي إنّ الوعي والإرادة الحرة شرطان أساسيان لإمكان التشارك، إلى جانب شروط أخرى، سيأتي بيانها. المهم هنا أنّ التشارك الحر والمبدع لا يكون إلا في عمل جماعي، يراد القيام به، وغاية يراد تحقيقها. هذا مما يكشف عن كذبة ما يسمى "العيش المشترك" في الخطاب الطائفي؛ إذ ثمة عيش مشترك بيننا وبين الحيوانات.

الحرية هي العلَّة الأولى للوجود الإنساني من دونها تغدو المساواة إما مساواة في العبودية وإما نوعاً من العدمية

ولا يكون تشارك (تفاعل) إلا بين مختلفين ومختلفات، حتى على صعيد الأسرة، التي لا يمكن أن تكون مستقرة ومتوازنة إلا باعتراف أفرادها باختلاف بعضهم عن بعض، وتقدير المختلف أو المختلفة، وحفظ كرامته وحقوقه أو كرامتها وحقوقها، وكذا في سائر المؤسسات، التي تشكل الهيكل الأساسي للمجتمع، فحيثما يكون التشابه والتماثل أو التجانس يكون الركود وعدم النمو. ولكننا لا نتشارك، على أي صعيد إلا مع الذين نثق بهم واللواتي نثق بهن، ونحترمهم أو نحترمهن، ومن ثم، يكون الاعتراف المتبادل بأهمية الاختلاف، وكرامة المختلف وحقوقه، والمختلفة بالطبع، والثقة المتبادلة والاحترام المتبادل شروطاً لازمة للتشارك أو المشاركة، سواء على الصعيد الاقتصادي كإقامة الشركات، ولا سيما المساهمة منها، المحدودة أو غير المحدودة، أم على الصعيد الاجتماعي، كالتشارك في الأفراح والأتراح والتعاضد والتعاون في الملمّات، أم على الصعيد الوجداني (المشاركة الوجدانية) أم على الصعيد السياسي: كالتشارك الحر والمبدع في الفضاء العام، وفي تدبير الشؤون العامة أو المشاركة في حياة الدولة.

ولا تكون مشاركة سياسية إلا في ظلّ حياة برلمانية سليمة، وانتخابات دورية نزيهة، تتنافس فيها الأحزاب السياسية على تقديم أفضل ما لديها للمجتمع، وتداول سلمي للسلطة، وقضاء مستقل، هو وحده المخوّل بحلّ الأحزاب أو وقف نشاطها أو محاسبتها إذا تجاوزت القوانين المرعية، لا السلطة التنفيذية ولا أجهزة المخابرات. فلا معنى للمشاركة في ظلّ سلطة الحزب الواحد أو الحزب القائد أو جبهة تقدمية أو غير ذلك من التراث الرث لـ "الديمقراطية الشعبية".

ولعلّ الأهم في المشاركة أنّها الجسر الذي ينتقل عليه الأفراد من دائرة الحياة الشخصية أو الخاصة لكل منهم أو منهن، إلى دائرة الحياة النوعية، أو العامة، على اختلاف مستويات العمومية، وأنّها السبيل الأمثل لإنجاز عمل جماعي، يحقق مصلحة مشتركة، تتضمن نفعاً خاصاً لكل من المشاركين والمشاركات.

وقد عرف أندريه لالاند المشاركة، PARTICIPATION بأنها: أ – "عملية التشارك أو الإسهام في شيء ما. ب -  ترجمة مخصصة للكلمة اليونانية، التي تدل، في الاصطلاح الأفلاطوني على علاقة  الكائنات الحسية بالأفكار، وعلى العلاقة بين الأفكار التي لا تتنافي. ج – ترابط الفردي والكلي في المعرفة، ترابط الكائن المطلق والأنا في الفعل الحر. جوهر المشاركة هو أن تكشف لي عملاً يتراءى لي، في لحظة قيامي به، كأنّه عملي، وليس عملي في آن. كأنه كلي وشخصي في آن. بدلاً من القول شيمةَ العامة إننا جزء من العالم، سنقول إننا نشارك في العملية التي لا ينقطع العالم عن القيام بها. "لا توجد مشاركة في كون متحقق، متكوِّن، يمكنها أن تجيز لنا إطلاقَ مثل هذا القول بامتلاكنا جزءاً منه .. فالمرء لا يشارك إلا في عمل هو في طريقه إلى التحقق، لكنه يتحقق أيضاً فينا وبنا، بفضل عملية أصلية. .. وعلى الدوام تحتفظ المشاركة في ذاتها بطابع شخصي، ليس فقط لأنها تفترض فعل الشخص، بل أيضاً لأنها بدلاً من وصلنا بمبدأ كلي ومجرد، تصلنا بكائن آخر حي وعيني، نعترف بحضوره في كل مكان، ونكوِّن معه جماعة، ونعقد أواصر صداقة"[1]. المعنى (ج) هو المعنى الأبرز، الذي يعيِّن المشاركة أو يموضعها في الرابطة الوجودية والرابطة الاجتماعية – السياسية بين الفردي والكلي في المعرفة، وبين الفرد والنوع (الإنسان) في الفعل الحر، والذي يؤكد أنّ المشاركة تصلنا بفرد آخر مختلف عنا أو أخرى مختلفة، وبأفراد آخرين مختلفين، نشكل معهم جماعة ونعقد أواصر صداقة.

المشاركة في الشؤون العامة وحياة الدولة صفة ملازمة للديمقراطية الليبرالية ومناهضة كلياً للاستبداد

تتبدى لنا، في هذا التعريف الفلسفي والنصوص التي تؤيده، القيمة المعرفية والأخلاقية للمشاركة، التي نعتقد أنها الدلالة الأعمق والأهم لمفهوم "الحزب السياسي" أو الحزب المدني؛ إذ يقوم الشخص (الرجل والمرأة) بعمل يتراءى له بأنه عمله الشخصي الخاص، وليس عمله الشخصي الخاص في الوقت ذاته. أي إنّ العمل الحزبي أو "النشاط السياسي"، هو عمل كلي وشخصي في الوقت ذاته. والمشاركة هي الرابطة التي لا تنفصم بين الفردي والكلي المجذَّرين بالتساوي في الطبيعة البشرية، إلا في حال العزلة والانكفاء على الذات. ونذهب في هذا السياق إلى اعتبار القابلية للمشاركة واحدة من الخصائص الوجودية للإنسان. "فالكينونة في صميم جوهرها، هي تشارك وتشاطر وتفاعل، تنبع كلها من التشاركية الكيانية في الوجود"[2]. الكينونة ارتباط مطلق بين الفرد والنوع، فهي من جراء هذا الاتباط فعلٌ، لا جوهرٌ ثابتٌ ومستقر. "لذلك تتوفر المشاركة في الحياة العامة على قدر كبير من الإبداع والابتكار. حتى أن مبدأ التشارك يمكِّن الفرد، بصفته النوعية (الإنسانية) من الإسهام في تشكيل العالم.

في ضوء ما تقدم، تكون المشاركة في الشؤون العامة وحياة الدولة صفة ملازمة للديمقراطية الليبرالية وشرطاً من شروط تجاوزها، ونقيضاً كلياً للاستبداد والتسلط والسيطرة على الفضاء العام، و"احتكار مصادر السلطة ومصادر الثروة ومصادر القوة،"، بتعبير خلدون حسن النقيب، على نحو ما رأينا في التجارب الاشتراكية والقومية والإسلامية. من حق أي جماعة أن تشكل حزباً سياسياً، ولو على خلفية دينية، وأن تشارك في الفضاء العام، ولكن، لا يمكن لقانون عادل أن يسمح بوجود جماعة سياسية، تعلن صراحةً أنّها ستحتكر الفضاء العام، وتفرض عقيدتها الخاصة على المجتمع والدولة، ولا مستقبل آمناً لمجتمع يسمح بوجود مثل هذه الجماعة. جميع التجارب التي نعرفها، من مغارب العالم العربي إلى مشارقه، تقول ذلك.

هوامش:

_____________________________________

[1] - أنديه لالاند، الموسوعة الفلسفية، تعريب خليل أحمد خليل، منشورات عويدات، بيروت – باريس، الطبعة الثانية، 2001، ص  944 - 945.

[2]  - راجع/ي ،مجموعة من المؤلفين، الفكر الفلسفي المعاصر في لبنان، تحرير مشير باسيل عون، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 2017، ص 286.


آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية