ما الفرق بين المجون والشعوبية والزندقة؟

ما الفرق بين المجون والشعوبية والزندقة؟

ما الفرق بين المجون والشعوبية والزندقة؟


01/06/2023

تكاثر الخلط مؤخّراً في أوساط المثقفين، بين المجون والشعوبية والزندقة، إلى الحد الذي قد يوحي بأنّها ظاهرة واحدة، وليست ثلاث ظواهر متمايزة رغم التداخل الشديد بينها.

اقرأ أيضاً: لماذا تعد "الشعبوية" كلمة مشينة؟
ولعل ظاهرة المجون هي أقدم وأهون هذه الظواهر خطراً، كونها عبّرت عن نمط حياة وسلوك، أقرب ما يكون إلى نمط الحياة الوجودية البوهيمية المستغرقة في الملذّات الحسيّة، مثل؛ التعلّق بالنساء وإدمان الخمر وتعشّق الغلمان، فضلاً عن الانخراط في مجالس اللهو والعبث، والإكثار من المزاح الفاحش المقذع. ومن الملاحظ أنّ هذه الظاهرة التي انطلقت منذ مستهل العصر الأموي -لأسباب تتمثل في تدفق الثروات جرّاء حركة الفتوح والاختلاط بالفرس والروم وانبعاث العصبيات الجاهلية- لم ترتفع إلى مستوى التصريح بالتمرّد على الأسس الأيديولوجية أو السياسية للدولة العربية الإسلامية؛ بل ظلّت هامشاً مسكوتاً عنه، كونه يكاد يقتصر على شرائح من نخبة المجتمع التي لم تدّخر وسعاً لاستقطاب بعض الشعراء والأدباء الشعبويين.

تعد الشعوبية الظاهرة السياسية الأكثر خطراً في التاريخ العربي الإسلامي ولم تخلُ من العديد من المفارقات الصاخبة

بل إنّ أخبار نجوم هذه الظاهرة، لم تخل من الطرافة والفكاهة التي استأثرت بالتدوين والتوثيق، ولعل خفة ظل هؤلاء النجوم هي التي تكفّلت بامتصاص مشاعر الاستنكار التي عبّر عنها الفقهاء والمحدّثون والزّهاد بنسب متفاوتة، تجاه هذه الظاهرة الاجتماعية، حتى كادت ردود أفعال الدولة العربية الإسلامية تقتصر على سجن بعض العابثين لمدة محدودة فضلاً عن توبيخهم وتعزيرهم.
أمّا الشعوبية، التي تعدّ الظاهرة السياسية الأكثر خطراً في التاريخ العربي الإسلامي، فلم تخلُ من العديد من المفارقات الصاخبة؛ إذ في ضوء تعصّب الأمويين للعرب -والمقام لا يتسع لإيراد كثير من الشواهد على هذا الصعيد- وفي ضوء التهميش الذي مارسوه تجاه القوميات الأخرى -خلافاً لمنطوق ومضمون الإسلام الذي جاء للناس كافة- فقد راحت مشاعر التململ في أوساط القومية الفارسية تحديداً بالتصاعد، حتى بلغت درجة التمرّد الصّريح الذي وجد من يستثمره ويغذّيه ويوظفه باتجاه الثورة على السلطة الأموية وإسقاطها.

اقرأ أيضاً: الوليد بن يزيد بين وقائع التاريخ وقداسة الخلفاء الأمويين

ولست بحاجة للتنويه بأنّ العباسيين هم الذين نفخوا في أُوار هذه النزعة حتى استتب لهم الحكم في عهد المنصور، ثم تخلصوا دون هوادة من قادة التيار الشعوبي الفارسي، وعلى رأسهم طبعاً أبو مسلم الخراساني، وأعادوا للدولة العباسية مؤقتاً، صبغتها العربية الخالصة. لكن التوجّه الليبرالي الذي وَسَم فترة حكم هارون الرشيد بعد ذلك، تمخّض عن تنامي النفوذ الشعوبي الفارسي مجدداً، إلى درجة اضطرت معها زوجته (زبيدة) إلى خوض صراع مرير مع (البرامكة) الذين كادوا يسيطرون على كل مفاصل الحكم، بل كادوا يصادرون الإرادة السياسية لهارون الرشيد نفسه.
وبغض النظر عن (القشّة) التي قصمت ظهر البرامكة -لأن المصادر القديمة لا تدّخر وسعاً لتسطيح وأسطرة الأسباب- فإنّ هارون الرشيد وجد نفسه يقف مجدّداً في المربع الذي سبق لجده المنصور أو وقف فيه، فاضطر راضياً أو مرغماً لاستئصال البرامكة على نحو دام.

اقرأ أيضاً: صفحات مهمشة في تاريخ الدولة العباسية: هل ظلم المؤرخون الشطار والعيارين؟
ومن نافلة الحديث القول بأنّ هذا الانقلاب الدراماتيكي على البرامكة، قد تمخّض عن إعلاء متعمّد لصورتهم في المصادر القديمة من جهة وعن تشويه متعمّد لصورة الرشيد، فبدا البرامكة رموزاً للرصانة والحكمة والثقافة والشهامة والكرم، وبدا الرشيد رمزاً للشهوانية والمزاجية والاستبداد! وهما صورتان تظهران النفوذ الشعوبي الفارسي في الوسط الثقافي العربي القديم من جهة، وتتطلبان تنبهاً وحذراً من جانب الباحثين المعاصرين الذين يمرّ أغلبهم بهاتين الصورتين مرور الكرام.
ولا ريب في أنّ الموضوعية الخالصة، تتطلّب منا أيضاً التذكير بأنّ الشعوبية الفارسية التي لم تدّخر وسعاً لوصم العرب بالبداوة والسذاجة والأميّة والرعوية، قد جوبهت بدفوعات مفحمة لم تخل من التعصب للعرب ومن الاستعلاء على الشعوب الأخرى، وأخص بالذكر ما سطره الجاحظ وابن قتيبة في هذا الشأن.
وإذا كانت الدولة العربية الإسلامية قد تغاضت عموماً عن ظاهرة المجون لأسباب اجتماعية، ولم تدّخر وسعاً لاحتواء الحركة الشعوبية لأسباب سياسية، فإنّها لم تتسامح أبداً مع حركة الزندقة رغم نخبويتها الشديدة، كونها تهدف لتقويض الأساس العقائدي لهذه الدولة في الحد الأعلى أو التشكيك به في الحد الأدنى.

اقرأ أيضاً: الزندقة.. سلاح الطغاة والفقهاء لمواجهة المعارضين والعقلاء
والزندقة هي إظهار الاعتقاد بالإسلام وإبطان الاعتقاد بسواه من الديانات والملل القديمة مثل: المجوسية والزرادشتية والمزدكية والبوذية والهندوسية. وقد يتساءَل قارئ: وماذا عن الأخبار التي نطالعها بخصوص مجالس المناظرة بين أهل العقائد في عهدي الرشيد والمأمون تحديداً؟ والجواب يتمثّل ببساطة في أنّ هؤلاء قد ناظروا فقهاء المسلمين ومتكلميهم بحرية تامة، وقُيّض لبعضهم أن يتبوأ أعلى المناصب وأن يجني أكبر الثروات؛ لأنهم لم يتظاهروا بالإسلام ويبطنوا غيره، فصرّحوا بمعتقداتهم وآرائهم دون مواربة، وقد كفلت لهم الدولة حرية الاعتقاد والتعبير على قاعدة الانتماء والولاء التام للحضارة العربية الإسلامية التي لم تضق بالاختلاف والنقد، بل هي طلبته ورحبّت به وأفادت منه وأنفقت عليه، وخاصة في عهدي الرشيد والمأمون.

لم تتسامح الدولة العربية الإسلامية إذن، مع الزندقة بكل صورها وأشكالها ومستوياتها، بدءاً من عهد المهدي العباسي الذي تفرّع تماماً لمطاردة الزنادقة واستئصالهم. ولم يقلّ المعتزلة تشدداً عن الخلفاء العباسيين بخصوص الزندقة، إلى درجة أنّ واصل بن عطاء لم يتردّد في إهدار دم صديقه بشار بن برد من على منبر المسجد؛ لأن الأخير لم يستجب لتحذيراته؛ بل راح يمعن في الإشادة بالمجوسية والثناء على النار، حتى قُتِل.

تغاضت الدولة العربية والإسلامية عن ظاهرة المجون واحتوت الحركة الشعوبية لكنها لم تتسامح مع الزندقة رغم نخبويتها

ولم يقتصر هذا التشدّد على استئصال الزندقة الصريحة؛ بل امتد حتى طال ما يشبهها، وأعني به التلفّظ بعبارات منافية لأصول العقيدة الظاهرة، مثل شطحات المتصوّفة، وأشهرهم الحلاّج، رغم أنّ هذه الشطحات قيلت في حال الذهول عن الذات وعن العالم على الأغلب، وحتى طال أيضاً من عُرِف عنهم النظر في كتب الحكمة القديمة -الفلسفة اليونانية والهندية- وخاصة في الأندلس.

بل حتى طال من بالغوا في الثناء على الزهد مثل أبي العتاهية، إلى درجة أنّ الرشيد حبسه، جرّاء الظن بأنّه قد خرج من دائرة الزهد الإسلامي المعتدل، إلى دائرة الزهد البوذي المتطرّف.

هذه إذن الملامح الرئيسة للمجون والشعوبية والزندقة، وهي لا تنفي تداخلها لدى شخوص أعلامها في الثقافة العربية، إلى درجة يصعب التعميم معها؛ فبشار بن برد كان ماجناً شعوبياً زنديقاً دون ريب، وأبو نواس كان ماجناً شعوبياً كذلك، وأبو العتاهية يكاد يقترب بشعره المتطرّف في الزهد من حدود الزندقة، وأبو العلاء المعرّي لم يكن ماجناً ولا شعوبياً، لكن تقشّفه المتطرّف أدخله في دائرة الاتهام بالزندقة! مع ضرورة التذكير بأنّ دواعي الإيجاز والتكثيف، قد حالت دون استطراد الكاتب إلى العديد من الهوامش والاستثناءَات التي لا تنفي أطراد الملامح الرئيسة، مع أنّ التفاصيل تملأ آلاف الصفحات في المدوّنة العربية القديمة.


آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية