ما بعد الدولة البوليسية

ما بعد الدولة البوليسية


12/12/2018

منى سالم الجبوري

فاق النظام الذي أسسه الخميني في إيران ذاك النظام الذي ورثه عن الشاه، عسكرياً وأمنياً وإعلامياً، وأضاف الدين أيضاً.

حذّر أكثر من 500 ناشط طلابي إيران من تشديد حملة القمع في الجامعات، وقالوا إن الأجواء البوليسية بدأت تخيم على كافة أنحاء البلاد. وانتقد هؤلاء الطلبة في رسالة وجهوها إلى الرئيس الإيراني حسن روحاني، صمته إزاء حملة القمع وانتهاك الحريات واتهموه بالتواطؤ مع الأجهزة الأمنية والمتشددين لبسط القبضة الأمنية وقمع الحركات الاحتجاجية. هذا التحذير، الذي يلفت النظر كثيرا ذلك إنه من النوع الذي يفسر الماء بالماء، إذ أنه ومنذ تأسيس نظام الجمهورية الإسلامية الايرانية وبحكم إستناده على نظرية ولاية الفقيه، فإن الممارسات القمعية قد صار شرطاً أساسياً لبقائه وإستمراره.

سبق وأن قمت بتسليط الأضواء على هذا الموضوع تحديدا وذكرت في مقالات سابقة بأن النظام الملكي السابق في إيران قد تميز بثلاثة خصائص أساسية منحته تلك الهيبة والقوة والجبروت التي تميز بها طوال سنين حكمه ولغاية سقوطه في 11/2/1979. وهذه الخصائص الثلاثة هي:

ـ القوة العسكرية: كان نظام الشاه يمتلك خامس أقوى جيش في العالم وكانت مختلف دول المنطقة تهابه ولاتتجرأ على الاصطدام والتحرش به.

ـ القوة الأمنية: امتلك نظام الشاه جهازاً أمنياً قوياً (السافاك)، ساهم بتأسيسه كل من الولايات المتحدة وإسرائيل لكي يساعد نظام الشاه على الوقوف بوجه معارضيه الداخليين ويلعب في نفس الوقت دوراً على صعيد جاره الاتحاد السوفياتي. هذا الجهاز الأمني كان يعتبر من أقوى الأجهزة الأمنية في المنطقة بعد الموساد وكان يكتم على أنفاس الشعب الايراني بشدة.

ـ الدعاية والإعلام: امتلك نظام الشاه جيشاً إعلامياً منظماً بالمعنى الحرفي للكلمة وكان يساهم بمختلف الصور من أجل تجميل صورة النظام وتشويه معارضيه وقد تم استخدام مختلف الطرق والسبل والوسائل الخبيثة والقذرة من أجل تحقيق الأهداف المرجوة.

والتمعن في نظام الجمهورية الإسلامية الإيرانية الذي أعقب نظام الشاه، نجد أنه وبصورة ملفتة للنظر تنطبق عليه الخصائص الثلاثة المدرجة أعلاه لنظام الشاه، حيث أنه قد عوّل على نفس تلك الخصائص ولكن تحت مسميات وعناوين مختلفة، إذ إنّ هذا النظام قد تميز بامتلاكه لقوة عسكرية جرارة فاقت تلك التي إمتلكها الشاه، خصوصا عندما قام بدعم آلته الحربية النظامية بقوات الحرس الثوري وقوات التعبئة التي تجاوزت جيش الشاه بكثير. كما أن هذا النظام قد منح الجانب الأمني والاستخباري أهمية قصوى فاقت جهاز السافاك بكثير إذ أن رجال الدين الحاكمين لم يقفوا عند حد تشكيل وزارة الاستخبارات بمالية خاصة لا يتسنى إعلانها أبدا وانما عززوا ذلك بقوات القدس الارهابية التي تكمن وظيفتها بأعـمال إرهابية تجسسية مشبوهة على الصعيد الخارجي. أما الجانب الاعلامي والدعائي فإن الجهد المبذول بهذا الخصوص قد كان استثنائيا وتغلب هو الاخر على الجهد الذي بذله النظام السابق بهذا الخصوص. ومن نافلة القول إن نظام الجمهورية الاسلامية الايرانية يمتلك جيشا إعلاميا منظما بقوة أموال الشعب الايراني المهدورة في مختلف دول العالم، ناهيك عن ماكنته الاعلامية الموجهة تحت إشراف وهداية مرشد النظام نفسه بالإضافة إلى وسائل الإعلام التابعة لأذرعه في بلدان المنطقة والتي تعمل تحت إشراف وتوجيه من طهران.

نظام الجمهورية الاسلامية الايرانية، وإن زعم في أدبياته وعبر وسائل إعلامه الموجهة بأنه نظام ثوري تحرري يؤمن بالحرية والديمقراطية، لكن ممارساته الاستبدادية وأعماله القمعية وخصوصاً في مجالي حقوق الإنسان والمرأة، تثبت بأنه يبقى الاسوأ والاكثر قمعاً واستبدادًا من نظام الشاه ومثلما لم يكن بوسع نظام الشاه تقبل أي صوت معارض او مخالف له، فإن هذا النظام قد رفض بالمرة فكرة مخالفته او معارضته في الحكم وزاد على نظام الشاه بأنه قد إعتبر المعارض له بمثابة المحارب لله ورسوله، وهي سابقة خطيرة في التأريخ المعاصر ليس لإيران وانما المنطقة والعالم وهو مامنح هذا النظام بعداً وجوهراً بوليسياً فريداً من نوعه بحيث تجعل من مهمة معارضته ومقاومته مهمة عسيرة وصعبة ومعقدة جدا، ويعيد للأذهان عصر الاستبداد الكنسي ومحاكم التفتيش سيئة الصيت.

ما يجري اليوم في إيران ليس نظاماً بوليسياً، كما قد يسعى البعض للإيحاء، وإنما هو أسوأ من ذلك بحكم مزجه القوانين والأنظمة الوضعية بالقوانين والانظمة الدينية والخروج بمكون جديد لا يصلح له أية تسمية سوى مصطلح "ما بعد الدولة البوليسية".

عن "ميدل إيست"

الصفحة الرئيسية