ما سر احتفاظ حي شبرا بالحنين المتدفق إلى الزمن القاهري الجميل؟

مصر

ما سر احتفاظ حي شبرا بالحنين المتدفق إلى الزمن القاهري الجميل؟


10/10/2018

لحي شبرا، الواقع في شمال القاهرة، حضور طاغٍ على مستوى التاريخ والسياسة والثقافة التي تميز بهم المكان، وشكل له خصوصية شديدة، في ذاكرة ووجدان الأجيال التي تعاقبت عليه.

ويبعث الحي القاهري العريق مشاعر وحنيناً للمواقف والأحداث التي عاصرتها الأجيال، والقصص والحكايات الشعبية التي بقيت كالمآثر، وخلدتها الثقافة الشفاهية، وتوارثها الأبناء، ما جعلها تحتفظ بطزاجتها، وقوة تأثيرها، وشغف المستمع لها.

تلك الذاكرة، غير المنسية، جعلت من الشوارع والأزقة والبيوت، وكل حجارة صخرية صامدة، بمثابة رئة لحياة كاملة، لا يمكن أن تتوارى، على إثر التحولات التي قفزت على آثارها؛ فأخفت بعض معالمها القديمة، وشوهت معظمها، واندثر جزء لا يستهان به، على مستوى العمران والبشر والثقافة.

قصور الأسرة العلوية في شبرا

ترافقت نشأة شبرا الحقيقية، كما يشير المؤرخ المصري، محمد عفيفي، في كتابه: "شبرا-إسكندرية صغيرة في القاهرة"، مع بداية تأسيس الدولة المصرية الحديثة، في عهد محمد علي، والذي شرع في بناء قصره الشهير فيها، ما ساهم في تطوير الحي، وتوفير العديد من الخدمات له؛ حيث تم شق شارع طويل يربط بين قصره "الريفي" الجديد وقصر عابدين، كما تم زراعة العديد من الأشجار في شوارعها، والتي أضحت موطناً لقصور الأسرة العلوية.

قصر محمد علي وحدائق شبرا حوالي ١٨٩٠

وفي العام 1849، أرسل الخديوي إسماعيل أمراً إلى المريدي باشا، محافظ القاهرة، حتى يجد مكاناً لإقامة دولة الأمير طوسون، ابن سعيد باشا، والي مصر، ما ترتب عليه أن أهداه قصر النزهة الأميري، على طريق شارع شبرا.

قصر النزهة الأميري على طريق شارع شبرا

وفيما بعد، تحولت قصور وسرايات الأمراء، من أسرة محمد علي إلى مدارس، حيث تحول قصر النزهة، في عهد الخديوي توفيق، إلى مدرسة المعلمين، ثم في فترة لاحقة، إلى مدرسة ثانوية عرفت بـ"المدرسة التوفيقية". وفي العام 1927، تحول قصر الأمير طوسون هو الآخر إلى مدرسة شبرا الثانوية.

واجهة قصر عمر طوسون

يرجع اسم شبرا إلى اللغة المصرية القديمة، وانتقلت إلى اللغة القبطية؛ حيث كانت تعرف باسم "جويرو" وتعني "التل"، ثم حرفت إلى "شبرو" و"شبرا". وقد عاشت في هذا الحي العتيق، رموز مؤثرة ومهمة من النخبة السياسية والثقافية والدينية المصرية؛ مثل: الشيخين الأزهريين، محمد أبو زهرة، والبابا شنودة الثالث، والفنانة الإيطالية "داليدا"، والشاعر المصري صلاح جاهين.

مبنى جديد تابع للمدرسة التوفيقية أقيم ضمن الأرض الواقعة في محيط قصرالنزهة

شبرا.. حي المهاجرين

خلال عقود القرن العشرين، وفي النصف الأول منه، كان حي شبرا بمثابة مجتمع كوزموبوليتاني، تتعدد فيه الجنسيات والقوميات والأديان، وجذب إليه المهاجرين الأجانب، خصوصاً من شرق المتوسط، لذا عرف بحي أبناء المهاجرين من البحر المتوسط.

وفي ظل التفاوت الثقافي والديني واختلاف القيم والسلوك بين الأفراد، المنتمين لمرجعيات حضارية مختلفة، استطاع أن يكرس لحالة فريدة من التنوع الغني، والتسامح والتعايش مع الآخرين، الذي ظل يحمي النسيج المجتمعي بين جميع الجاليات والطوائف والأفراد بدون عصبية وعنصرية.

كان حي شبرا مجتمعاً كوزموبوليتانياً، تتعدد فيه الجنسيات والقوميات والأديان ونشطت فيه روح فنية ملهمة وقوية

وفي ظل بزوغ وزخم التيارات اليسارية والقومية والفاشية، خلال القرن الماضي، وتأثير الدعاية الأيديولوجية على أجيال تلك المرحلة؛ فقد تشكل في هذا الحي صورة مكثفة، تقاطعت وعناصرها مع المشهد العالمي؛ حيث عرفت شوارع شبرا، مثلاً، ظاهرة القمصان السوداء "رمز الفاشية" واستعراض ذلك بالدراجات البخارية، والتي مثلت بدرجة ما أحلام قطاع واسع من الجالية الإيطالية، ممن ينتمون للطبقة الوسطى الصغيرة في هذا الحي.

اقرأ أيضاً: أحياء في القاهرة.. هل تعرف سبب تسميتها؟

وفي السياق ذاته، اشتبكت مدارس شبرا مع الأحداث السياسية والوطنية، ووقعت تحت تأثير وزخم الأفكار الأيديولوجية، تحديداً اليسارية، ودعوات التحرر الوطني من الاستعمار وطغيان الحكم الملكي؛ فمن مدرسة التوفيقية، خرج طلاب المدرسة الثانوية، في انتفاضة العام 1935، ضد قرار رئيس الوزراء المصري، إسماعيل صدقي الذي قضى بإلغاء دستور 1923، ومطالبين بعودته، وتلك كانت بواكير نشاط الحركة الطلابية المصرية.

إسماعيل صدقي رئيس وزراء مصر عام 1923

مدارس شبرا والحركة الطلابية الوطنية

يروي أحمد حمروش، أحد الضباط الأحرار، ومؤرخ ثورة يوليو، في كتابه: "نسيح العمر"، أنه كان أحد طلاب تلك المدرسة، وعمره لا يتجاوز الـ14 عاماً، وشارك في انتفاضة الطلاب، وهتف ضد رئيس الوزراء المصري، ووزير الخارجية البريطاني، صمويل هور، ما تسبب في تعرضه للفصل من المدرسة.

اقرأ أيضاً: ما دور المصريين المسيحيين في تأسيس الحركة الشيوعية؟

ومن بين الشخصيات التاريخية التي تخرجت من تلك المدرسة: "زعيم ثورة 1919، سعد زغلول، والناقد الأدبي، رشاد رشدي، والمؤرخ المصري، الدكتور عزيز سوريال، والأخير، كان من أوائل المصريين الذين عملوا بالتدريس في جامعة يوتا الأمريكية، وصاحب "الموسوعة القبطية".

الصحافة والفن في شبرا

ولفت الكاتب اليساري والمؤرخ المصري، الدكتور رفعت السعيد، في كتابه: "الصحافة اليسارية في مصر 1925-1928"، إلى وجود تجربة صحفية، ذات طابع يساري، فضلاً عن نشاط ماركسي، فكري ونضالي في شبرا، بدأ مع صدور العدد الأول من صحيفة "شبرا"، والتي بدأت كمجلة متخصصة في طرح بعض مشاكل الحي، ثم ما لبثت أن تحولت على يد عصام الدين حفني ناصف، أحد قيادات الحركة الاشتراكية المصرية، في طورها الأول، إلى جريدة تلعب دوراً مؤثراً في نشر والترويج إلى الأفكار الماركسية، عبر الاستعانة بعمال ترام شبرا.

حملت شوارع شبرا أسماء بعض من عاشوا فيها مثل الشاعر صلاح جاهين بالإضافة إلى  شاعر الأطلال إبراهيم ناجي

واستطاع القيادي الاشتراكي، ضم أحد الكتاب المصريين المهميين في تلك الفترة للكتابة في المجلة، وهو المفكر سلامة موسى والذي قدمته المجلة باعتباره صاحب "جولات كبيرة في محيط العمال، وقد اشتغل بحركتهم أعواماً طوال، واشتهر فيها بآرائه ومذاهبه الإشتراكية".

كانت شبرا من الأحياء التي نشطت فيها روح فنية ملهمة وقوية، ألهمت العديدين في المسرح والسينما والأدب والغناء. وكان المخرج المصري، هنري بركات، الذي ينحدر من أصول سورية لبنانية، من مواليد حي شبرا، وقد بدأت صلته بالسينما التي درسها في فرنسا، بعد أن التحق بكلية الحقوق الفرنسية، تنفيذاً لوصية والده، فقط، وعمل في المحاماة، لمدة شهر واحد، من خلال إحدى دور السينما التي كانت تحتل مكانها أمام واجهة منزله، فيما استمر في طموحه الفني وشغفه بالإخراج إلى أن أصبح بصمة في تاريخ السينما المصرية ولقب بـ"شيخ المخرجين المصريين".

المخرج المصري هنري بركات الملقب بـ"شيخ المخرجين المصريين"

"بحبك مواهب وصحافة وآداب.. وفي التوفيقية عشقت الكتاب.. وفيكي أحلى عمري وأغلى صحاب.. وأول هوايا سابني جريح". كانت تلك إحدى الأغنيات الفريدة التي عكست بعض مشاعر الحنين والارتباط، كما عبر عنها الشاعر صلاح فايز في قصيدته الغنائية، تجاه هذا الحي العتيق الذي عاش فيه وارتبط بتاريخه، وغناها محرم فؤاد؛ وكلاهما من أبناء شبرا.

نشطت في شبرا روح فنية ملهمة وقوية ألهمت العديدين في المسرح والسينما والأدب والغناء

شوارع شبرا حملت أسماء بعض من عاشوا فيها، مثل؛ الشاعر صلاح جاهين الذي كان يقطن في أحد المنازل القريبة من المدرسة التوفيقية، بالإضافة إلى  شاعر الأطلال، إبراهيم ناجي، الذي ولد في العام 1988، وتخرج في مدرسة الطب، العام 1922، ورغم تنقله للعمل في قرى مصر كطبيب، إلا أنه عاد واستقر في عيادته بالحي الذي ولد وارتبط به حتى توفي في العام 1955.


آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية