ما قصة "المليون تركي" في ليبيا ولا يعلم عنهم إلا أردوغان؟!

ليبيا

ما قصة "المليون تركي" في ليبيا ولا يعلم عنهم إلا أردوغان؟!


30/01/2020

في حديثه أمام البرلمان التركي بتاريخ 15 كانون الثاني (يناير) 2020 برّر الرئيس التركي رجب طيب أردوغان تدخّله العسكري في ليبيا بأنّه لا يستطيع الوقوف مكتوف الأيدي أمام "الإبادة" التي يتعرض لها مليون ليبي من أصل تركي على يد قوات الجيش الوطني الليبي في هجومه على طرابلس، بعد هذه التصريحات انطلقت آلة الدعاية الإخوانية الناطقة بالعربية لتروج لهذه الأكذوبة، وأطلقت عليهم اسم الكراغلة، ورفع بعضهم الرقم إلى 1.5 مليون شخص!


ونقل موقع عربي 21 المنحاز للإخوان تصريحاً عنصرياً على لسان قنصل تركيا السابق في بنغازي، سعيد أكين، أكد فيه وجود أعداد كبيرة من الأتراك الليبيين حين قال: "إنّ اللواء المتقاعد خليفة حفتر، مارس التطهير العرقي ضد "الأتراك النبلاء" في ليبيا، وقام بطرد عشرات الآلاف من شرق البلاد، إلى الغرب حيث تسيطر حكومة الوفاق المعترف بها دولياً".

برّر أردوغان أمام برلمانه تدخله العسكري في ليبيا بحماية مليون ليبي من أصل تركي

مقولة "الأتراك النبلاء" تكشف عن نظرة استعلائية تجاه العرب، لا ترى فيهم إلا شعوباً تابعةً، والأمر المثير للسخط هو قبول الكوادر العاملة في عربي21 لهذا الازدراء؛ فلم يروا فيه شيئاً يستحق التبرؤ منه.
قبل تصريحات أردوغان لم يكن لمسمّى الكراغلة وجود يُذكر في وسائل الإعلام التابعة لتركيا والإخوان، وبعدها اختلف الوضع، وبات الحديث فجأة عن قبيلة يتخطى عددها مليون فرد، كأنها ظهرت من العدم، فحتى موقع الجزيرة حين نشر تقريراً عن القبائل الليبية العام 2011، بعد أيام من انطلاق التظاهرات ضد الرئيس السابق معمر القذافي، لم يشر من بعيد أو قريب إلى "الكراغلة"؛ فيبدو أنّ اختلاق أكذوبة المليون كرغلي هدفها دغدغة مشاعر الأتراك على أساس قومي، ولم يكن مستهدفاً بها مخاطبة العرب.

نشأة الكراغلة
في كتابه بعنوان "سكان ليبيا" عرف هنريكو دي أغسطيني الكراغلة في ليبيا بقوله: القولوغلية والعامة ينطقونها قرغلية، وهم ينحدرون من التزاوج الواقع بين الإنكشارية الوافدين من مختلف أجزاء الإمبراطورية العثمانية، بنساء محليات أو مسيحيات من سبايا القرصنة.

اقرأ أيضاً: ليبيا وإغلاق القبائل لحقول النفط
ويقول إنّه قد تكونت من سلالتهم مع الزمن وحدات اجتماعية مهمة وقبائل حقيقية استعملتها الحكومة في خدماتها مقابل مزايا معينة، وقد انضمت إليهم فيما بعد قبائل عربية أو بربرية بنفس الالتزامات والمزايا، وانبسط عليهم أيضاً اسم القولوغلية، ومن هذه القبائل الزباينة. 

قبل تصريحات أردوغان لم يكن لمسمى الكراغلة وجود يُذكر في وسائل الإعلام التابعة لتركيا والإخوان

دخلت طرابلس تحت الحكم العثماني العام 1551، وتشابه الوجود العثماني فيها مع تونس، والجزائر، ويعاني العهد العثماني في ليبيا من قلة المصادر والمراجع التي تناولته، بينما حظيت الجزائر بنصيب وافر منها، ويتلخص الحكم العثماني في شمال إفريقيا (ليبيا، تونس، الجزائر) بأنه حكم "أوليغارشية القرصنة والإنكشارية" بتعبير المؤرخ الفرنسي روبير أجيرون.
تمثل الحكم العثماني في سيطرة الانكشارية وريّاس البحر على الحكم، مع تبعية اسمية للسلطان العثماني، وانفرد هؤلاء بالسلطة، وعملوا على تجنيد جنود أتراك وألبان وغيرهم – دون العرب – في فرقهم العسكرية، ونتج عن تزاوج هؤلاء الجنود مع النساء المحليات طبقة الكراغلة، والتي تميزت عن طبقة الآباء الانكشارية خصوصاً في الجزائر، ودخلت في صراع معهما حتى نالت امتيازات خاصة، وفق كتاب "الجزائر خلال الحكم التركي" لصالح عبّاد.
تشكل الهرم الاجتماعي في شمال أفريقيا العثماني من قمة احتلها الأتراك بما يتوافد عليهم من الأناضول عبر التجنيد، ثم الكراغلة، ثم العرب وفق طبقاتهم. لكن اختلف الوضع في ليبيا عن الجزائر، لأسباب عدة أهمها قلة السكان، وحجم الأراضي الزراعية، فلم يكن حاكم طرابلس العثماني في حاجة إلى جيش دائم لجمع الضرائب إلا قليلاً، واعتمد في دخله على عائدات القرصنة البحرية حتى مطلع القرن 19.
لم تشهد طرابلس صراعاً بين الآباء الانكشارية والأبناء الكراغلة، لعدم وجود طبقة جند انكشارية قوية دائمة، وتعاون باشا طرابلس مع الكراغلة، فأعفاهم من الضرائب والرسوم نظير مشاركتهم في الجيش عندما يستدعيهم، سواء لجمع الضرائب أو إخماد الثورات.


تمتعت هذه الفئة بمميزات أخرى منها تولي المناصب الإدارية والعسكرية، وبشكل عام حازت وضعاً أفضل بكثير من سائر أبناء الشعب الليبي، تلك المميزات دفعت بطون عدة من القبائل للانضواء في خدمة باشا طرابلس، فحصلوا على الامتيازات عينها، وتشاركوا السكن مع الكراغلة، وتماهوا معهم حتى أُطلق عليهم كراغلة. توجد إحصاءات عن عدد الانكشارية والكراغلة في الجزائر العثمانية، ولم يتعدوا عدة آلاف، ومع الاحتلال الفرنسي العام 1831 غادر أغلب الأتراك وكثير من الكراغلة، ومن بقي ذابوا بين الشعب الجزائري.
بخلاف الجزائر حكم الكراغلة ليبيا في عهد الأسرة القرمانلية (1711-1835)، عاد بعدها الحكم المباشر للدولة العثمانية في عهد السلطان محمود الثاني، حتى تخلي الأتراك عنها للطليان في معاهدة أوشي عام 1912.

جزء من النسيج الليبي

لم تشهد ليبيا طوال العهد العثماني عملية تجنيد أتراك من الأناضول لينضموا إلى الانكشارية مثلما حدث في الجزائر؛ إذ لم يكن لباشا طرابلس جيش انكشاري دائم، وترتب على ذلك انتفاء توالد أجيال متتالية من الكراغلة، مما يفسر السماح بدخول العرب والبربر من أهل ليبيا في طبقة الكراغلة الاجتماعية.

اقرأ أيضاً: أردوغان ينتهك الهدنة ويواصل إرسال مرتزقة من إدلب إلى ليبيا
إذن، لم تكن كلمة الكراغلة تصنيفاً عرقياً بل هي تصنيف اجتماعي، اتسم بالانفتاح لضم أفراد جدد، وساعد على ذلك توطن الأجيال الأولى للكراغلة، وذوبانها في الثقافة العربية لمدة قرون، فلم يقاوم هؤلاء اندماج العرب والأمازيغ في طبقتهم لانعدام حواجز الثقافة واللغة والعرق. قليل من يحمل اسم الكراغلة لكونها تصنيفاً اجتماعياً في الأساس، ولذلك احتفظت مكونات هذه الطبقة بأسماء عائلاتها فنجد منهم عائلة القرمانللي،  وعائلة التوغار، وعائلة قورجي، عائلة زمبت، عائلة الخوجة، والشراكسة، وغيرهم.

انطلقت الدعاية الإخوانية لتروج لهذه الأكذوبة ورفع بعضهم الرقم إلى 1.5 مليون شخص

بالإضافة إلى ذلك، لم تمثل طرابلس الغرب في مخيلة الأتراك سوى منفى؛ فجعلتها الحكومة العثمانية وجهة لنفي المغضوب عليهم، مثلما نفت عدداً من دروز لبنان إليها في أعقاب مذابح العام 1860 في الشام.
تراجعت مكانة الكراغلة في نهاية العهد العثماني مع تشديد قبضة الحكم المركزي، وانتفاء الحاجة إليهم عسكرياً، وحلول الجيش النظامي الجديد محلهم، اختلف جنود هذا الجيش عن الانكشارية، كونهم ظلّوا منعزلين عن الشعب الليبي، ولم يتزوجوا منهم؛ فهم مجندون يؤدون خدمتهم العسكرية، وبعد انتهائها يعودون إلى أوطانهم.
لم يغير الاحتلال العثماني للبلاد العربية من هويتها الديموغرافية أو الثقافية، خصوصاً في شمال أفريقيا التي حرص الأتراك فيها على الانعزال عن العرب والأمازيغ، فميّزوا بين أبنائهم من غير التركيات، وبين أولاد التركيات.


في ليبيا لم يكن التواجد التركي كبيراً في العدد، فلم يكن عدد سكان البلاد، أو مواردها يتطلبان وجود جالية تركية كبيرة، استقر الأتراك والكراغلة في المدن الساحلية بالقرب من الإدارات العثمانية، ومع الوقت طغت عليهم الطبيعة القبلية للمجتمع الليبي فتشكلوا في تجمعات قبلية مستحدثة، وحملوا اسم الكراغلة، إلا أنّ هذه الوحدات القبلية لا تعني وحدة عرقية؛ إذ ضمّت خليطاً من ذوي الأصول التركية والألبانية والشركسية والعربية والأمازيغية.
نشأت هذه التجمعات صغيرة العدد في جميع المدن التي وجدوا فيها، خصوصاً في طرابلس ومصراته وزليطن، وبشكل أقل في بنغازي وعدة مدن، ولا يُلاحظ وجود يذكر لهم في مناطق الجنوب الليبي أو ما عُرف سابقاً باسم إقليم فزان، فقد أسندت مهام الكراغلة إلى عدة قبائل عربية وبربرية ظلت محتفظة بأصولها العرقية.
وعلى النقيض من القبائل الليبية التي ترتبط بوحدة الدم، فإنّ هذه القبائل لا يجمعها وحدة الدم أو السكن، فتعيش في أماكن منفصلة، ولم تظهر على ساحة الخلافات القبلية لكونها من سكان الحضر، ولم تظهر بين أسماء القبائل إلا مؤخراً حينما بدأت الآلة الدعائية لأردوغان والإخوان في استنفارها بغية استغلالها في خدمة المشروع التركي.

حقيقة عدد الكراغلة
وفيما يتعلق بعدد الكراغلة فلا توجد إحصاءات رسمية لهم كقبيلة واحدة نظراً لأنّهم أقرب إلى طبقة اجتماعية لا بنية قبلية، إلا أنّ الأمر الأكيد هو أنّهم ليسوا من بين مصافّ القبائل الكبرى في ليبيا، وفقاً لبيانات الاحتلال الإيطالي العام 1914، وبيانات عثمانية قريبة العهد، وتقديرات لصاحب كتاب "سكان ليبيا" الذي عاش فيها وأصدر كتابه العام 1917 فإن عدد الكراغلة بالنسبة إلى عدد بقية السكان في منطقة طرابلس الغرب وفزان مثّل 16/1 فقد بلغ العدد الإجمالي لليبيين في طرابلس الغرب وفزان 570 ألف نسمة، من بينهم 36 ألف من الكراغلة، ويعيش 17 ألف منهم في مصراتة.

اقرأ أيضاً: 8 محللين جزائريين يعاينون موقف بلادهم من الأزمة في ليبيا
لم يتعد وجود الكراغلة في إقليم برقة بضعة آلاف، ففي بنغازي ذكر هنريكو دي أغسطيني أنّ عددهم في مطلع القرن العشرين بلغ 2300 من أصل 19 ألف نسمة مجمل عدد سكان المدينة، بينما لم يكن لهم وجود يُذكر في بقية إقليم برقة، ولم يشكلوا سوى نسبة ضئيلة من السكان.

أغلب الكراغلة انصهروا بين الليبيين ولا ينظرون إلى أنفسهم على أنّهم أتراك باستثناء الإخوان المسلمين

تتيح الأرقام السابقة القول إنّ نسبة الكراغلة إلى بقية الليبيين لن تكون كبيرة، وبمقاييس القبائل الليبية فهي قبيلة صغيرة.
أغلب الكراغلة انصهروا بين مكونات الشعب الليبي، ولا ينظرون إلى أنفسهم على أنهم أتراك، إلا من ينتمي إلى الإخوان المسلمين منهم، وهو أمر غير مستغرب؛ فأغلب أفراد الإخوان يودون لو كانوا أتراكاً، فما بالنا بمن يشتبه بانتماء أحد أجداده القدامى إلى العرق التركي.
ظهرت مسألة الأصل التركي مؤخراً بعد ما عُرف باسم الربيع العربي، فبعد أن استخدم أردوغان الإخوان المسلمين كحصان طروادة لاختراق العالم العربي، يحاول اليوم استغلال الكراغلة للسيطرة على ليبيا، نظراً لأهمية القبيلة في الساحة الليبية، إلا أنّ أوهامه ستتحطم على صخرة الوطنية الليبية.
فقد تبرأت تجمعات الكراغلة في شرق ليبيا من تصريحات أردوغان، وأصدرت بياناً أعلنت فيه دعمها للجيش الليبي الوطني، وندّدت بما وصفته خيانة فايز السراج رئيس حكومة الوفاق بسبب تعاونه مع الميليشيات الإرهابية، وتفريطه في سيادة البلاد لصالح الأتراك.
أما في مصراتة فدعم جزء من سكانها للأتراك لم يأت لكونهم كراغلة، بل لارتباطهم بجماعة الإخوان المسلمين كما هو معروف.



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية