ما مخاطر الخضوع التام للموروث؟

ما مخاطر الخضوع التام للموروث؟

ما مخاطر الخضوع التام للموروث؟


21/09/2023

يعد الرضوخ الكامل للموروث، أياً كانت صورته ومضمونه، من الأشياء التي تقف حجر عثرة أمام الانطلاق إلى المستقبل، وفي كثير من الأحيان تصبح التقاليد قيداً حديدياً على حرية الإبداع والانطلاق إلى الأمام، ومن ثم ينشأ الصراع الحتمي بين حفظة التقاليد بدعوى أنهم يصونون التراث، والمجدّدين بدعوى أنّهم يبدعون كيفما شاؤوا، وهو ذلك الصراع الذي أخذ عنوان الأصالة والمعاصرة، وتزداد المعركة ضراوة إذا كانت تم ربط هذه التقاليد وتحصينها بالثقافة الدينية؛ حيث تصبح الأصالة عنواناً للإيمان، والمعاصرةُ عنواناً للمروق.

تزداد المعركة ضراوة إذا رُبطت التقاليد بالثقافة الدينية فتصبح الأصالة عنواناً للإيمان والمعاصرةُ للمروق

كثير من هذه العادات والتقاليد ظهرت في ظروف مغايرة في زمانها، استجابة لتحديات وأسئلة نابعة من واقعها، والنظر إليها بغير هذه الزاوية يؤدي إلى خلق نمط من التفكير والأقوال والأفعال ينزه القديم ويتعارض مع تطورات العصر، فإنّ تمسك به الناس حرفياً، بزعم أنّه يشكل مخزوناً للحكمة والأخلاق والحل وسير الأجداد التي يجب الالتزام بها، يكون -بلا شكّ- عائقاً أمام تقدمهم.

اقرأ أيضاً: الخطاب الديني السلفي وصناعة الأسطورة

هذه الموروثات، بمختلف أشكالها، عبّرت أو عكست في أيام انطلاقها ثم رسوخها عن منافع ومصالح فئات وشرائح اجتماعية معينة، وربما أفراد متحكمين في الأمور، فلا عجب أن يحرص عليها اليوم من هم على شاكلتهم رغم تبدل الأزمنة، وتباعد الشقة بين القديم والمعيش. ومثل هؤلاء حفاظاً على مصلحتهم والمكتسبات التي يحققونها يحاربون بكل طريقة كل إبداع وجديد، وخرق للمألوف، وطرح للبدائل، وهذا يقتل القدرة على التخيل السياسي أو غيره.

كثير من العادات والتقاليد ظهرت في ظروف مغايرة بزمانها استجابة لأسئلة طرحها واقعها

تجد هذه العادات والتقاليد، بكل ما تنتجه من قيم وأفكار وطقوس، حجيتها في إطار عملية التنشئة الاجتماعية؛ حيث يقوم الأجداد والآباء بتعليم الأبناء والأحفاد ما ورثوه وألفوه، أو اعتادوا عليه، ويصرون على أنّ هذا هو الصواب، وأنّ صلاح الجيل الجديد يكون على قدر تمسكه بهذه "الأصول" وما "وجدنا عليها آباءنا"، وعملية التنشئة تلك لها أدواتها المتعددة وبالتالي تفرض القديم كله، وتستعمله في معاندة أي جديد أحياناً، ليتحول إلى كابح أو كابت للقدرة على إبداع ما ينفع الحاضر، ناهيك عن التخطيط للمستقبل.

اقرأ أيضاً: مأزق الخطاب الديني في عصر المعرفة والشبكية

ورغم حاجة الناس المتجددة إلى الدين، فإنهم لا يرونه إلا من خلال ما وصلهم عن الأقدمين، لا النص الديني نفسه الذي يتجاوز حيز الزمان والمكان، بل عبر ممارسات وتصرفات تحملها أقاويل، كثير منها لا يمكن البرهنة عليه بشكل قاطع، لأنه في النهاية تسجيل لتاريخ اجتماعي، ينطبق عليه ما ينطبق على الكتابة التاريخية أحادية الجانب، أو التي تُروى على لسان المتغلب، ويحملها هؤلاء المنتصرون عبر الزمن بقدر حرصهم على اندثار رواية المغلوب.

لا ينبغي إهمال كل ما أتى به الموروث وإلا لن نتعلم شيئاً من حكمة التاريخ

وطالما شكلت هذه المرويات التاريخية، التي هي عبارة عن تاريخ أتباع الدين وليس الدين نفسه، عائقاً أمام التجديد، ومثلت قيداً على الخيال، بدعوى أنّ هذا "بدعة"، و"كل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار". وإذا قمنا بجرد حساب لتصريحات وتصرفات أتباع الجماعات الدينية السياسية، أو تلك التي توظف الدين في تحصيل السلطة السياسية، سنجد أن معتقداتهم بحجية وصدق وطهر ما ملأ رؤوسهم من أقوال الأقدمين تقف حجر عثرة أمام إطلاق خيالهم السياسي، ليتبنوا خطاباً، ويبدعوا طرقاً، تلائم واقعهم المعيش، أو يتكيفوا بالفعل مع المستجد في ترتيبات السياسة وخطابها من قبيل الدولة الوطنية، والدساتير، وسيادة الشعب وكونه مصدر السلطات، والديمقراطية، وتداول السلطة، والحريات الفردية، ...إلخ.

رغم حاجة الناس المتجددة للدين فهم لا يرونه إلا عبر ما وصلهم عن الأقدمين لا النص الديني نفسه

والاستسلام للموروث من الأسباب التي تؤدي إلى انجراح السلوك والفكر في الذات العربية بما يؤثر سلباً في الصحة العقلية، ويعيق التكيف الخلاق، ويمنع انطلاق الخيال الإبداعي، لكن هذا لا يعني إهمال أمرين: الأول أن القديم من عادات وطقوس وأقوال السالفين والسابقين لا يموت تماماً، وليس كله شراً أو قيداً لا فكاك منه، فبعض ما فيه مفيد، شرط ألا يتم التعامل معه بوصفه مقدساً أو معياراً للفضيلة، إنما قابل للنقد والغربلة، بما يقود إلى الاستفادة من إيجابياته ولفظ سلبياته. والثاني: هو أنّ رفض قيد الموروث لا يعني أبداً إهمال دراسة التاريخ واستقراء وقائعه وأحداثه لتعيننا على فهم الحاضر والتنبؤ بالمستقبل.

اقرأ أيضاً: حوارية "تجديد الخطاب الديني": هل فقد رجل الدين دوره في العصر الرقمي؟

الجماعات التراثية أو التي تتمسك بالموروث الديني ولا تريد له تجديداً، تفتقد إلى الخيال، لأسباب تتعلق بكراهيتها التنظير والتفلسف وإنتاج الأفكار المجردة، وانحيازها إلى صرامة التنظيم حتى لو كان متهالكاً، والسعي ليكون أفراده يفكرون بطريقة واحدة، وعدم إيمانها بالتعددية التي تفتح الذهن أمام التفكير في بدائل وخيارات، في ظل الاعتقاد بأنّ ما عليه الجماعة التراثية هو الصواب المطلق والطريق المستقيم، كما يؤدي الإيمان بحتمية الانتصار، لأنّ الطريق رباني والكفاح مقدس، إلى الشعور بالاستغناء عن أي فكر أو رؤية وتصور ومنهج خارج ما تتبناه الجماعة.

الفارق الجوهري بين التسليم والتفكير هو ما يحدد مقدار تأثير الموروث

ويبقى السبب الأهم في التأثير السلبي للوقوع في قبضة الموروث، أو الخضوع لسطوته، على الخيال السياسي هو أن التعامل معه يكون في الغالب الأعم بالتسليم، بينما يحتاج الخيال إلى التفكير. والفارق الجوهري بين "التسليم" و"التفكير" هو ما يحدد مقدار تأثير الموروث، الذي لا يعني هنا أبداً حكمة التاريخ وخلاصاته العميقة، سلبياً على الخيال؛ فكلما ابتعدنا عن التسليم مقتربين من التفكير تزاد فرص إعمال الخيال، والعكس صحيح.

اقرأ أيضاً: المؤسسات الدينية وتجديد الخطاب: ارتباك وتوجس أم جدية في التغيير؟

ومع هذا لا ينبغي إهمال كل ما أتى به الموروث، وإلا لن نتعلم شيئاً من حكمة التاريخ الاجتماعي والفكري. وهنا يقول محمود أمين العالم: "لا ينبغي أن نقف من التراث موقف الرفض أو الاستهانة أو الاستخفاف، ولا موقف التقديس والتقليد الأعمى، ولا موقف الانتقائية والتجزئة والنفعية، ولا ينبغي أن يكون موقفاً من مضمون دون الشكل، أو من الشكل دون مضمون. التراث كله بكل ما فيه، ..، أنا لا أختار من بين هذه الاتجاهات، ولا أنتقي، وإنما أستوعب التراث كله استيعاباً نقدياً في إطار واقعه التاريخي الاجتماعي الخاص، الاستيعاب النقدي ليس انتقاء فحسب، أو تقييماً لجانب منه على حساب جانب، إنما هو إدراك ووعي موضوعي لحقيقة التراث في ملابساته الموضوعية التاريخية، الاستيعاب العقلي النقدي العلمي التاريخي بهذا التراث في مختلف جوانبه، وحركته المتنوعة هو الموقف الصحيح من التراث في تقديري".

اقرأ أيضاً: تراثُ قتل وذبح وفتن أم تراث حب؟

إنّ المطلوب من أجل تجاوز هذه العقبة في وجه إطلاق الخيال السياسي العملي؛ أن نتغلب على كل أسباب العقم في الثقافة القديمة، وأن نعمل على تجديد نظرتنا إلى تراثنا، القريب والبعيد، وأن نعطيه عمقاً جديداً، ومعنى جديداً، وروحاً جديدة.



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية