ما هي سيناريوهات عودة العلاقات المصرية التركية؟

ما هي سيناريوهات عودة العلاقات المصرية التركية؟


09/03/2021

محمد العربي

تراكمت في الآونة الأخيرة مؤشرات على احتمالية حدوث تقارب مصري تركي؛ خاصة مع التغيرات الأخيرة المتمثلة في نهاية القطيعة العربية مع قطر، حليف تركيا الرئيس في العالم العربي؛ وتزايد الضغط المحتمل على أنقرة من قبل الإدارة الأمريكية.

بدأت هذه المؤشرات مع تصريحات المسؤولين الأتراك وعلى رأسهم الرئيس أردوغان، حول إمكانية التعاون مع مصر؛ ثم حديث وزير الخارجية الأخير عن إمكانية عقد اتفاقية لترسيم الحدود البحرية بين مصر وتركيا، وحديث السفير التركي في قطر عن التعاون الاقتصادي بين تركيا ومصر، وحديث وزير الدفاع التركي خلوصي عكار عن احترام مصر للجرف القاري لتركيا، في إشارة إلى المزايدات الأخيرة التـي أعلنت عنها مصر للتنقيب عن الغاز والبترول بعيدًا عن نقاط التماس في الحدود البحرية المتنازع عليها بين قبرص واليونان وتركيا. تأتي هذه المؤشرات أيضًا مع محاولة تركيا أيضًا التقارب مع فرنسا وإسرائيل، اللتين تدهورت علاقاتها بهما في الفترة الأخيرة.           

ومع ذلك، لن يكون التقارب مع القاهرة بسهولة تلك التصريحات؛ فما زالت الأسباب الجذرية التـي سببت الأزمة بين الطرفين، قائمة؛ وتتمثل في محورية دور الرئيس أردوغان في التحريض ضد القاهرة منذ ٢٠١٣، واستمرار الدعم التركي للمعارضة الإخوانية والتـي أصبحت عبئًا بسبب دورها في استراتيجية أردوغان الإقليمية.  

دواعي الحديث التركي عن التقارب مع مصر

تبدو المساعي التركية نحو التقارب مع مصر مفهومة في ظل التحولات الجارية في ليبيا وشرق المتوسط، وعلى مستوى العلاقات العربية- الخليجية. وفي المحصلة النهائية، أدت هذه التحولات إلى تزايد شعور أنقرة بعدم جدوى نهجها التصادمي مع كافة الأطراف المحيطة بها، وضرورة السعي إلى إيجاد نقاط للنفاذ من جدار العزلة المفروض حولها.

على الرغم من أن التدخل التركي العسكري في ليبيا، سواء من خلال المستشارين أو المرتزقة أو الأسلحة قد أنقذ حكومة الوفاق والمليشيات المتحالفة معها، وهو ما اتضح في منتصف العام ٢٠٢٠ مع سقوط قاعدة الوطية والمدن الغربية وصولاً إلى خط سرت- الجفرة، إلا أنه لم يحسم الحرب لصالحها. وبالتالي، ظلت اتفاقية التعاون العسكري وترسيم الحدود الموقعة في نوفمبر ٢٠١٩، غير مفعلة. 

كذلك، أشر اتجاه الأطراف الليبية إلى القبول بمسار التسوية الذي رعته بعثة الأمم المتحدة وأفضـى إلى انتخاب رئيس جديد للمجلس الرئاسـي، ورئيس للحكومة، محمد المنفي وعبد الحميد الدبيبة، على أن حدود الحل العسكري الذي طالما لوحت به أنقرة وأنصارها في طرابلس. كما شهدت فترة التفاوض التي أفضت إلى الاتفاق الليبي في جنيف وتونس تعاظم الدور المصري مع انفتاح القاهرة على أطراف أخرى غير حكومة شرق ليبيا، وتأكيده على التعاون مع الجميع للتوصل إلى حل سلمي للنزاع بما يحول دون تقسيم البلاد أو تحولها إلى بؤرة إرهابية.

ارتبط بهذا التطور، تحرك مصر السريع نحو توقيع اتفاقية لترسيم الحدود البحرية مع اليونان في أغسطس ٢٠٢٠. وهو ما عنـى إغلاق المساحة فعليًّا، وبحكم الجغرافيا، أمام إمكانية تطبيق اتفاقية أنقرة- ليبيا. من ناحية أخرى، كانت الاتفاقية وما سبق من ترسيمات أساسًا لتحويل منتدى غاز المتوسط إلى منظمة إقليمية في ٢٢ سبتمبر ٢٠٢٠، وهو ما عكس طموح الدول المؤسسة تعزيز التعاون حول الإفادة من غاز المتوسط، وإيجاد سبل لإدارة العلاقات فيما بينها. بالنسبة لأنقرة التـي رفضت الاتفاقية اليونانية المصرية، فإن هذه الخطوات كانت بمثابة تأكيد على عدم جدوى مسعاها التصادمي. كان ميلاد هذه المنظمة إيذانًا بتغير نبرة تركيا تجاه القاهرة، وهو ما جاء مع تصريحات أردوغان في الشهر نفسه عن وجود تعاون “استخباراتي بين مصر وتركيا، وأن الحوار بين البلدين أمر ممكن.”  

من المؤكد أن انتخاب جو بايدن رئيسًا للولايات المتحدة، واختياره فريقًا تنفيذيًّا من أهم الداعمين لسياسة تسليح أكراد سوريا، وعلى رأسهم وزير الخارجية أنتوني بلنكين، كان تأكيدًا على ضرورة اتجاه أنقرة إلى لون من الاعتدال في سياستها الإقليمية، سواء في الشرق الأوسط أو شرق المتوسط؛ بسبب ضعف موقفها أمام الإدارة الحالية التـي لم تخفِ نيتها في إثارة المتاعب أمام نظام أردوغان داخليًّا وخارجيًّا.

إلا أن التحول الأقوى جاء مع توقيع دول التحالف الرباعي العربي، السعودية والإمارات والبحرين، بالإضافة إلى مصر، بيان العلا في ٤ يناير ٢٠٢١ الذي ينهي، رسميًّا على الأقل، سنوات القطيعة مع قطر. بالنسبة لتركيا، كان مثل هذا التقارب، بمثابة إمكانية حدوث شرخ في تحالفها الأوثق مع الدوحة على قاعدة دعم تيار الإسلامي السياسـي في المنطقة. ومع تجاوز التقارب بين الدوحة والقاهرة مع توقيع اتفاق لعودة العلاقات الدبلوماسية والرحلات الجوية بين البلدين اتضحت خسائر تركيا مع التحول السريع في ترتيبات الإقليم. وبالتالي، لم يعد هناك بد من اللجوء من تلطيف الأجواء أملاً في تقليل خسائرها.

عوائق في سبيل التطبيع التركي المصري

لا يعنـي هذا أن التصريحات التركية جادة في إمكانية عودة سريعة للعلاقات المصرية التركية. فمن ناحية، اعتادت تركيا مع احتدام التنافس على غاز المتوسط والصراع في ليبيا، على تبنـي خطابات متناقضة، تحديدًا تجاه القاهرة من خلال لعبة توزيع الأدوار. ففي الوقت الذي يتبنـى فيه الرئيس أردوغان لغة حادة تجاه القاهرة، على الرغم من اعتدالها مؤخرًا مع إحباط توقعات تركيا حول إمكانية حدوث تغير في النظام الحاكم في مصر، لم يكف المتحدث باسم الرئاسة إبراهيم قالين ووزير الخارجية جاويش أوغلو عن التعبير عن إمكانية التعاون مع مصر، بصيغ مختلفة.

ويحاول المسؤولون الأتراك بشكل عام في خطابهم الرسمي وغير الرسمي عن ذكر أن هذا التعاون يمتد إلى الاعتراف بالنظام الحاكم في مصر. على سبيل المثال، تجنب مستشار الرئيس التركي ياسين أقطاي، والمعروف بتوجهاته الإسلامية وقربه من دوائر الإسلام السياسي العربية، في حوار له على منصة كلوب- هاوس (الخميس ٣ مارس) التأكيد على مثل هذا الاعتراف، مشيرًا إلى أن العلاقات بين مصر وتركيا تتجاوز الحكومتين. ربما يكون هذا نوعًا من خداع الذات، أو محاولة لإقناع جمهور الإسلاميين خاصة في تركيا أن عودة العلاقات مع مصر لا تعنـي الاعتراف بالنظام الحاكم. وهو في كل الأحوال تفكير غير واقعي، ويفتقد إلى المصداقية.    

في كل الأحيان، يجعل هذا التضارب من تحفظ الموقف المصري تجاه أية محاولات تركية للتقارب أمرًا مفهومًا، إلا أن ما يعزز هذا التحفظ نقطتان هامتان.

تتمثل الأولى في أن أزمة العلاقات المصرية التركية خلقتها بامتياز تصريحات الرئيس أردوغان والذي جعل من نفسه محور الأزمة. بالطبع كان دعم الإسلاميين في العالم العربي، كوسيلة لتأكيد الوجه الإسلاموي المحافظ لحزب العدالة والتنمية وفي القلب منه سياسات أردوغان ورقة انتخابية رابحة، خاصة بعد تجنيس مئات الآلاف من السوريين. إلا أنها ليست ورقة إجماع داخل النخبة التركية وعززت من حالة الانقسام العلماني- الإسلامي في الداخل. إلا أن تجذر هذه السياسات، سيجعل من الصعب التراجع عنها أو تجاوزها.

ترتب على هذا، ثانيًا، أن أردوغان جعل من استخدام الإسلاميين العرب أداة رئيسة في بناء شبكة نفوذه في المنطقة، من خلال عمل أجهزة استخباراته والموارد التـي وفرتها قطر، وشبكة الداعمين من جمعيات أهلية محلية وعابرة للحدود في تركيا والشرق الأوسط وأوروبا. وبالتالي، حتـى لو افترضنا الدوافع البراغماتية التـي دفعت أردوغان للتحالف مع جماعة الإخوان، واستخدامها في الوقت نفسه، فإن تحول الجماعة إلى عائق في سبيل ترميم علاقة أنقرة مع العالم العربي ومصر، لا يعنـي إمكانية التخلص منها بسهولة. يفسر هذا عدم اتجاه أنقرة نحو تقليل دعمها للجماعة بشكل فعلي، فقد أصبحت عبئًا.

التقارب من خلال التعاون الاقتصادي

شهدت أواخر العام ٢٠٢٠ نهاية اتفاقية التجارة الحرة بين مصر وتركيا والموقعة في العام ٢٠٠٥. تنتظر هذه الاتفاقية إعادة التفاوض بين الجانبين. ويعكس مصيرها مدى تأثر العلاقات الاقتصادية بمسارات “التقارب” المحتملة بين البلدين، وربما تكون مؤشرًا على مدى “مصداقية” الحديث التركي عن التعاون مع القاهرة.

فيما عدا انسحاب بعض الاستثمارات التركية من مصر بفعل الأزمة السياسية، لم تتأثر العلاقات الاقتصادية بين الطرفين إلى حد بعيد. وفقًا لبيانات الهيئة العامة للصادرات والواردات، فقد شهد العام ٢٠١٨، ارتفاعًا في نسبة الصادرات المصرية لتركيا بنسبة ٩.٧٪ لتصل إلى ٢.٢ مليار دولار في السنة، مقارنة ب١.٩ مليار دولار في العام السابق. في الوقت نفسه، زادت واردات مصر من تركيا بنسبة ٢٩٪ لتصل إلى ٣ مليار دولار مقارنة ب٢.٣ في العام ٢٠١٧. ويمثل القطاع الخاص في الجانبين الفاعل الأهم في هذه المبادلات التجارية التـي يبدو أنها لن تتوقف في الوقت القريب، خاصة.

حاليًا، تحاول أصوات نيابية أن تعدل الاتفاقية، والمثير أن هذه الأصوات لا تذكر “العوامل السياسية” ضمن دواعي تعديل الاتفاقية؛ بل أسباب متعلقة بحصول المنتجات التركية على دعم حكومي يصل إلى ١٩٪ من حكومة أنقرة بأقل من سعر التكلفة بما يؤثر على الصناعة المصرية المنافسة، بالإضافة إلى ميل الميزان التجاري إلى الجانب التركي.

ليس من الوارد أن تنسحب القاهرة من الاتفاقية؛ فالانسحاب له تكلفته، ومن المؤكد أنه لن يضغط على الجانب التركي سياسًّا. لكن إعادة التفاوض على الاتفاقية قد يوفر، أو بمعنـى أدق، يوسع مساحات التفاوض غير الرسمي أو القنوات الخلفية بين البلدين. وقد يمهد إلى رفع مستوى التمثيل الدبلوماسـي، كخطوة مبدئية لتوسيع دوائر الحوار حول غاز شرق المتوسط وليبيا، وغيرها من الملفات العالقة.

سيناريوهات عودة العلاقات بين البلدين

تجدر الإشارة قبل استعراض المسارات المختلفة التـي يتخذها “التقارب” بين القاهرة وأنقرة، أنه من غير المنطقي أن يطلب الجانبان تغيرات جذرية في سلوك أو هوية النظامين الحاكمين في البلدين، لكن التفاوض سيكون على تغيير السلوك وتهدئة الخطاب السياسـي وصولاً إلى مساحات أوسع للتعاون. ففي السياسة، كما يقول ماركوس أوريليوس “ليس بإمكانك تغيير طبع الرجال، استخدمهم كما هم.”

 من ناحية أخرى، ينبغي التأكيد أن العلاقات بين أنقرة والقاهرة منذ الحرب الباردة، تراوحت بين العداء في حقبة ناصر ومندريس، بسبب توجهات تركيا المعادية للقومية العربية والداعمة للعدوان الثلاثي على مصر، والود في بقية المراحل، الذي لم يصل أبدًا إلى درجة التحالف، وإن كان للقاهرة شكوكها الدائمة تجاه الوجه الإسلاموي لنظام العدالة والتنمية منذ ٢٠٠٢، حتى نهاية نظام مبارك في ٢٠١١. لذا لم يكن التحالف أبدًا ممكنًا بين الجانبين، ربما أيضًا لترسبات ثقافية من العهدين المملوكي والعثماني. ومن المستبعد أن يكون هناك تحالفًا تركيًّا مصريًّا، إلا إذا حدث تغير جذري في طبيعة النظامين الحاكمين على ضفتـي المتوسط.

 

يتركنا هذا مع ثلاثة سيناريوهات في المدى المنظور:

بقاء الأمور على ما هي عليه: مع استمرار التصريحات الداعية إلى التقارب والمقرونة بعدم مصداقية أنقرة وعدم اتخاذها أية خطوات جدية لتقريب وجهات النظر مع القاهرة، مع الإبقاء على قنوات اتصال محدودة، استخباراتية وأمنية، والاتجاه نحو إعادة توقيع اتفاقية التجارة الحرة.

مزيد من التدهور: وهو مرهون بفشل محاولات التقارب الحالية نتيجة عودة أردوغان لاستخدام ورقة الإخوان والتنديد بالقاهرة. أو عرقلة سبيل المصالحة الحالية في ليبيا، نتيجة استمرار تدفق الأسلحة والمرتزقة لدعم المليشيات في مواجهة الجيش الليبـي، أو الاتجاه نحو مزيد من التصادم في شرق المتوسط، خاصة مع حلفاء القاهرة، اليونان وقبرص، بما يخاطر بالمصالح الاقتصادية المصرية في المنطقة، ويزيد من حدة الاستقطاب. إلا أن هذا لا يعنـى أن أنقرة عازمة على التصعيد بغرض التصادم؛ فمن الواضح أن نظام أردوغان يستخدم التصعيد للضغط والابتزاز؛ ولن يغامر عسكريًّا، إلا إذا كانت المخاطرة محسوبة. وفي كل الأحوال، يعنـي هذا السيناريو، اتساع القطيعة بين القاهرة وأنقرة لتشمل اتفاق التجارة الحرة.

التصالح الحذر: وهو مرهون باتجاه أنقرة للحد من دعمها للجماعات المصرية المعارضة في الخارج، خاصة مع انحسار الدعم القطري بفعل الضغط الخليجي، واستجابتها للضغط الأمريكي لإنهاء أزمة شرق المتوسط، بما يمهد انضمامها لمنظمة غاز المتوسط. ستبرهن هذه الخطوات على جدية مساعي التقارب التركية، بما يضمن عودة العلاقات الدبلوماسية بين البلدين، وتحسين العلاقات الاقتصادية والتجارية، بما يضمن عودة المستثمرين الأتراك. إلا أن هذا التصالح سيبقى حذرًا مع استمرار وجود أردوغان واستمرار التناقض في الخطاب التركي.

قد تشهد الأيام المقبلة اتجاه الأمور نحو تحقق السيناريو الثالث، وتدهورها نحو الثاني أو البقاء الأمور على ما هي. إلا أن الأهم بالنسبة للقاهرة أن تدرك حتمية عودة العلاقات مع تركيا في ظل وجود نظام أردوغان أو في غيابه. ومن الصعب تجاهل وجود تركيا وتأثيرها على أمن المنطقة. لذا، حتى يتغير سلوك نظام أردوغان، فمن المهم أن تمد صلات حية وقوية مع الدوائر السياسية خارج النظام، وكذلك الدوائر غير السياسية، مثل تجمعات رجال الأعمال والتجار الأتراك؛ “التوسياد” و”الموصياد”؛ وكذلك الدوائر الثقافية والأكاديمية. والأهم من هذا، عليها أن تحول دون انتقال الشؤون التركية، بفعل القطيعة ودعاية الإخوان، إلى محض مسألة أمنية، فالدبلوماسية تتجاوز ذلك بكثير. 

من ناحية أخرى، ولتعظيم منافع التقارب المحتمل، وتقليل مخاوف الحلفاء في شرق المتوسط، خاصة اليونان، من عواقبه، يمكن أن تصر القاهرة على التحرك الجماعي في تحسين العلاقات مع تركيا، وذلك من خلال منظمة غاز المتوسط التـي قد توفر إطارًا لبدء محادثات جدية بين تركيا واليونان وقبرص لحل أزمة الحدود البحرية العالقة.    

عن "مركز الإنذار المبكر"


آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية