متلازمة استوكهولم: هل نعيشها في مجتمعاتنا اليوم؟

متلازمة استوكهولم: هل نعيشها في مجتمعاتنا اليوم؟


06/09/2020

متلازمة استوكهولم هي حالة نفسية تصيب الفرد عندما يتعاطف مع عدوّه، أو من أساء إليه، وقد يعلن ولاءه له في بعض الأحيان، حسب موسوعة الوكيبيديا الحرّة.

يتسم تاريخ البشرية بسيل هائل من الإبداع، وسيل آخر من الهدم والتخريب، وهدر هائل للطاقة الحيوية بما هو مفيد وجميل، وبما هو غير مفيد، كما أنه يتسم بالعقلانية المنظّمة، التي تبدأ بالمعرفة والإدراك الحسي للأشياء المحيطة بالإنسان من الخارج، بشيئيتها المباشرة، أو ماديتها الفظة، ثم ترتقي إلى الإدراك العقلي، ثم إلى الفهم ومنه إلى العقل، حسب هيغل.

ويرى كثيرون أنّ الإدراك الحسي عتبة مشتركة بين الإنسان والحيوان، وأنّ هذا الإدراك يتطور عند بعض أنواع القردة، ولكن معرفة الحيوان تامة، لا تعدو إطار الغريزة أو الفطرة التي فُطر عليها، ومعرفة الإنسان ناقصة، كما لاحظ باسكال.

 

متلازمة استوكهولم هي حالة نفسية تصيب الفرد عندما يتعاطف مع عدوّه أو من أساء إليه

ويتسم تاريخ البشرية أيضاً بالبشاعة والفوضى الممنهجة، كالتعذيب والقتل، والقتل الجماعي، والخراب والدمار، وكلّ ذلك من صنع الإنسان، "فالإنسان أشكل عليه الإنسان" كما قال "أبو حيان التوحيدي"، فهل عنف الإنسان على الإنسان هو نوع من نكوص إلى الحيوانية؛ أي إلى مرحلة الإدراك الحسي المباشر للعالم على أنه عالم أشياء وأدوات وغايات ووسائل؟

اقرأ أيضاً: مئة يوم من "المراوغات الحوثية" على "استوكهولم"... وعين غريفيث على جولة ثانية

طرح الكاتب السوري الراحل "ممدوح عدوان" مشكلة "الضحية والجلّاد" في كتابه المؤلم "حيونة الإنسان"، وعرض فيه الظواهر الواقعية؛ كالعنف والتعذيب والحرب والموت المعلن والمجازر الجماعية، والحالات المرضية؛ كالفصام والسادية والمازوخية، التي ترجع إلى العلاقة الجدلية بين الجلّاد والضحية، وانطوائها على كثير من وجوه التشابه في المشاعر والسلوكيات بين الطرفين.

 

الضحايا يتحوّلون إلى جلّادين كالأقليات التي عانت من الاضطهاد وانكفأت على نفسها وطوّرت شعوراً بالتفوق والامتياز

وهذه من أبرز تناقضات الروح الإنسانية المعذِّبة والمعذَّبة، الروح المعذِّبة هنا هي الروح المعذَّبة ذاتها؛ فمن قتل إنساناً بغير حق، فكأنما قتل الناس جميعاً، فكان الكتاب صرخة احتجاج على ما آلت إليه البشرية من توحش، بقوله: "أرى أنّ عالم القمع، المنظم منه والعشوائي، الذي يعيشه إنسان هذا العصر، هو عالم لا يصلح للإنسان ولا لنمو إنسانيته، بل هو عالم يعمل على "حيونة" الإنسان؛ أي تحويله إلى حيوان، ومن هنا كان العنوان، ولعل الاشتقاق الأفضل هو "تحوين الإنسان".

والسؤال المطروح والمهم: من الذي جعل من الجلّاد جلّاداً يقتل أو يعذّب بدمٍ بارد، أو حتى يتفاخر بما فعل؟ والسؤال الأهم هو الذي طرحه ممدوح عدوان نفسه: "إلى أيّ مدى يمكن للإنسان إيقاع الأذى بإنسان آخر، لا تربطه به أيّ رابطة سلبية أو إيجابية، أو حبّ أو حقد، أو حتى مصلحة؟".

العامل الأوّل والأهم في ارتداد الإنسان إلى شكله الأوّل، هو السلطة التي تزدري الرغبات الإنسانية وتعمل على كبحها وكبتها، من خلال سياستها القمعية الممارسة على الإنسان، فالإنسان المسلوب الإرادة والمجرّد من حرّيته هو حيوان بالضرورة، تبدأ السلطة منذ ولادة الإنسان: السلطة الأسرية، ثم السلطة التعليمية، والسلطة الوظيفية والسلطة السياسية، وقد عبّر "فرويد" عن ذلك في التحليل النفسي بأنّ "الرغبة تولد مكبوتة"، فالإنسان المتلفع بعباءة السلطة تصبح السلطة عنده هي التابو الحديث الذي لا تُعصى أوامره.

 

الجلّاد لا يولد جلّاداً فالوحش البشري قابع في أعماق كلّ إنسان فإما أن يعززه أو يميته

الجلّاد لا يولد جلّاداً، فالوحش البشري قابع في أعماق كلّ إنسان، فإمّا أن يتغذى من عوامل خارجية محيطة به، وإمّا أن تعمل العوامل المناقضة لإنمائه على موته تماماً.

لم يُغفل الأدب العالمي مسألة الضحية والجلّاد، والتماهي فيما بينهما من خلال التشابكات في التناقض والتماثل، ففي مسرحية "الشلال" لـ"طاغور" يصعب على القارئ/ ـة التمييز بين من هم ضحايا ومن هم جلّادون، فيبدو فيها الضحايا هم الجلّادين أنفسهم، في طرفي النزاع؛ فهم ضحايا تربية ومفاهيم اجتماعية وسلطوية أدّت بهم إلى أن يكونوا ضحايا وجلّادين، في دائرة واحدة، وفي وقت واحد (النزاع في المسرحية بين أهالي قريتين متجاورتين)، وهذا هو شأن الحروب والنزاعات.

اقرأ أيضاً: اليمن ونافذة استوكهولم

الجلّاد، وهو أداة الحاكم أو ذراعه، بل صورته الواقعية بلا قناع، لا يرى في الضحية ـ الخصم سوى أذى للبشر وعدو للبشرية، والخصم هنا ليس فرداً، بل هو عرق أو عشيرة أو طائفة أو حزب ... هكذا النزعة العرقية التي قامت على عقيدة الامتياز والتفوق، وجعلت رسالتها تخليص البشرية من أنصاف البشر الضارين، كما حصل في ألمانيا على يد "هتلر"، ويحصل الآن في سوريا واليمن والعراق ولبنان وغيرها من البلدان التي تعيش حالة نزاع على أيدي أنظمتها الشمولية.

 

العامل الأوّل والأهم بارتداد الإنسان إلى شكله الأوّل السلطة التي تزدري الرغبات وتعمل على كبحها وكبتها

فالضحايا يتحوّلون إلى جلّادين، كالأقليات التي عانت من الاضطهاد في الماضي، وانكفأت على نفسها وطوّرت شعوراً بالتفوق والامتياز؛ لأنها استطاعت الحفاظ على بقائها، "حين تتاح الفرصة لأيّ منها وتخرج إلى النور يمكن أن تسود وتتسلط، وتؤكد امتيازها وتفوقها بحسٍّ انتقامي من الآخرين هو نوع من الانتقام من الماضي"، حسب ممدوح عدوان؛ فالسلطة أو القادة هم المسوّغ الأساسي لارتكاب الجرائم أو إيقاظ الوحش البشري النائم في أعماق الجلّاد، بهدف الدفاع عن هيبتها، إضافة إلى مسوّغ التربية الاجتماعية، فمن ينشأ على العنف، لا يتولد منه إلّا العنف. يحضرني هنا قول "طاغور" وهو في الخامسة والسبعين من عمره: "وأنا في هذا العمر أفتح نوافذي على رياح التغيير، لكنني ما زلت أعاني من أمراض التنشئة".

 "فهل نحن جلّادون"؟ سؤال مؤلم أيضاً طرحه ممدوح عدوان، لكن لا يختلف الأمر كثيراً لو كان السؤال: هل نحن ضحايا؟ الإنسان أشكل عليه الإنسان.


آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية