متى نحرّر هارون الرشيد من صورته الخليعة؟

متى نحرّر هارون الرشيد من صورته الخليعة؟

متى نحرّر هارون الرشيد من صورته الخليعة؟


21/06/2023

لن نبالغ إذا قلنا إنّ هارون الرشيد هو المعادل الموضوعي لمسمّى (الخليفة) في المخيال الغربي، بل وحتى في المخيال الشعبي العربي. ومما يؤسف له أنّ صورة هارون الرشيد في المخيالين لا تسر أبداً؛ فهو نموذج الحاكم المطلق والشهواني والأناني والسطحي.

إنّ هارون الرشيد (149 - 193هـ) واحد من الشخصيات العالمية القليلة التي أسهمت إنجازاتها الاستثنائية في تكوين صورة مضادة لها بطريقة مباشرة وغير مباشرة؛ فقد قيّض له أن يتربّع على عرش الإمبراطورية العربية الإسلامية التي بلغت في عهده (170 - 193هـ) ذروة كونيتها السياسية والاقتصادية والثقافية، وتدفّقت الأجناس والأموال على عاصمة حكمه كما لم تتدفق من قبل، إلى درجة يمكن القطع معها بأنّ (بغداد) غدت عاصمة العالم القديم بكل ما في الكلمة من معنى.

من يطالع القصص التي أوردها القاضي التنوخي سيخرج بنتيجة واحدة مؤداها: أنّ البرامكة هم المتن السياسي والاقتصادي والثقافي والأخلاقي، وأنّ هارون الرشيد لا يعدو كونه هامشاً من هوامش هذا المتن!

لكن صورة بغداد الوردية، سرعان ما راحت تتلاشى على أرض الواقع في عهد المعتصم الذي استحدث عاصمة جديدة لجنده، وفي ضوء تردّي الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية على نحو مطّرد بعد ذلك، حتى عجز  الخليفة المستكفي عن دفع رواتب الجند وثاروا عليه، فاضطر للاستنجاد بالبويهيين الذين خلعوه وسملوا عينيه، بعد شهر واحد من استيلائهم على بغداد في عام 338 هـ  !

ومن المرجّح أنّ النصف الثاني من القرن الرابع الهجري، قد أظلّ عملية استعادة الصورة الوردية لبغداد الرشيد لسببين رئيسين وهما: إشباع الحنين العام للزمن الذهبي، وشيطنة شخصية الرشيد بدافع شعوبي. ويبدو أنّ الدافعين قد اختلطا وتداخلا إلى حد يصعب معه الفصل بين حسن النوايا لدى المسوقين بالدافع الأول وسوء النوايا لدى المسوقين بالدافع الثاني. 

اقرأ أيضاً: 10 تناقضات في حياة الخليفة هارون الرشيد

وحتى نكون أكثر تحديداً، فقد سبق لكاتب المقال أن نشر بحثاً مستفيضاً أثبت فيه على نحو لا يقبل الشك، أنّ كتاب (الفرج بعد الشدة) للقاضي التنوخي هو أبرز الأصول التي استمد منها مؤلفو (ألف ليلة وليلة) مادتهم الأساسية. والشاهد في هذا الالتفات يتمثّل في حقيقة الإعلاء الشديد من شأن البرامكة والتهميش المتعمّد لشخصية هارون الرشيد، إلى درجة أنّ من يطالع القصص التي أوردها القاضي التنوخي سيخرج بنتيجة واحدة مؤداها: أنّ البرامكة هم المتن السياسي والاقتصادي والثقافي والأخلاقي، وأنّ هارون الرشيد لا يعدو كونه هامشاً من هوامش هذا المتن! ولا تعوزنا الفطنة طبعاً لندرك حقيقة أنّ هذه القصص التي ساقها أحد أبرز صنائع البويهيين ليست إلا شكلاً من أشكال تصفية الحساب مع الرشيد من جهة وإعادة الاعتبار للبرامكة الذين صيّرهم الشعوبيون شهداء وأضفوا عليهم من الصفات ما جعلهم أشبه بالقدّيسين من جهة أخرى. ولسنا بحاجة للتذكير أيضا بأنّ هارون الرشيد كان قد وجد نفسه أمام خيارين أحلاهما مرّ: الإطاحة بالبرامكة الذين تغوّلوا على الدولة وسيطروا على كل مواردها ومفاصلها الحساسة من خلال أعوانهم الذين بثّوهم في الدواوين حتى صاروا يحيطون بالخلافة إحاطة السوار بالمعصم، أو السكوت والقبول بتآكل هيبة الخلافة واستقلالها بالقرار.  

سوف يظل المؤرخون يذكرون للرشيد، أنّه عاش وأنجز كل ما أنجز ومات خلال 45 عاماً فقط، حقّق خلالها العديد من الانتصارات العسكرية خارجياً وداخلياً

وعلى أي حال، فسوف يظل المؤرخون يذكرون للرشيد، أنّه عاش وأنجز كل ما أنجز ومات خلال خمسة وأربعين عاماً فقط، حقّق خلالها العديد من الانتصارات العسكرية خارجياً وداخلياً، وأطلق حركة علمية واسعة ما تزال مضرب المثل في كتابات المستشرقين المنصفين. ولو لم يكن له من المآثر سوى أنه انتزع احتكار صناعة الورق من الصينيين وأوعز بإنشاء مصنع للورق في بغداد... لكفاه !

فهل يستقيم لنا بعد ذلك، الاستمرار في ربط الرشيد بنوادر أبي نواس  والإيحاء بأنّ أقوى حاكم عرفته الكرة الأرضية في النصف الثاني من القرن الهجري الثاني، لا همّ له سوى التسكّع مع شاعر عابث؟ وحتى لا نتّهم بالمغالاة في الانحياز لإنصاف صورة هارون الرشيد، فنحن لا ننكر أنه نال حظه من الدنيا؛ فحضر مجالس الطرب وأُعجب ببعض الجواري، لكن ذلك كله لم يحل بينه وبين إدارة إمبراطوريته المترامية الأطراف، ولم يمنعه من قيادة جيوشه بنفسه، ولم يُغفله عن واجب الاعتناء بالعلم والعلماء والأدب والأدباء، ناهيك بما اتسم به عهده من حرية غير مسبوقة على صعيد التفكير والتعبير، فاجتمع في بلاطه من مثقفي المِلَل والنّحل ما لم يجتمع في بلاط حاكم آخر، على قاعدة الإخلاص التام للحقيقة.

اقرأ أيضاً: هكذا شكلت 3 نساء شخصية هارون الرشيد

وحتى نقطع شكوك المشكّكين بحقيقة أنّ هارون الرشيد قد استُهدف وما زال مستهدفا لأسباب مذهبية وشعوبية، يكفينا التذكير بما سجّله الرحّالة ابن بطوطة حينما زار مدينة (مشهد) بعد مرور قرون على وفاة الرشيد؛ فقد رأى بأم عينيه أبناء المدينة وهم يركلون قبره ويشتمونه من باب التقرّب إلى الله! وقد صدق من قال: قطعت جهيزة قول كل خطيب.



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية