محمد الفاتح الذي أضاعه العثمانيون

محمد الفاتح الذي أضاعه العثمانيون


13/02/2021

وليد فكري

عندما تُحاسَب الدول في ميزان التاريخ فإن على من يفعل ذلك أن يضع في اعتباره الإمكانيات التي كانت متاحة لهذه الدولة أو تلك لإقامة نموذج حضاري راقي، وكلما تناقضت كثرة تلك الإمكانيات مع الخمول الحضاري لتلك الدولة كان حسابها عسيرًا.

من تلك الدول دولة العثمانيين، فلو تأملنا لوجدنا أنها كانت لديها كل عوامل إقامة حضارة عظيمة، من ثروات ضخمة، وموارد متعدد، وثقافات متنوعة للشعوب الخاضعة لحكمها، ومنافذ برية وبحرية على الأبعاد الجغرافية الأخرى وما فيها من ثقافات... ولكنها أضاعت كل ذلك باعتبارها أن الغزو والحرب وجمع الثروات هي أغراض لذاتها وليست وسائل لتحقيق هدف أسمى.

لكن ما يزيد من إدانة العثمانيين في ميزان الحضارات هو إضاعتهم ذلك النموذج الذي أراد السلطان محمد الثاني المعروف بالفاتح أن يقيمه.

فمحمد الفاتح تختصره أدبيات العثمانيين الجدد وأتباعهم في كونه محارب وغازي، فتح القسطنطينية وغزا أوروبا برًا وبحرًا وبدأ تأسيس الإمبراطورية.. ولكنهم حين يتناولون الجانب "المدني" من حكمه لا يتطرقون له إلا في سطور قليلة على استحياء..

فمن كان محمد الفاتح الذي لا يعرفه الكثيرون؟

كان محمد الثاني نموذجًا مختلفًا عمن سبقوه من السلاطين، فبرغم انهماكه مثلهم في الحياة الحربية إلا أنه كان بالتوازي مع ذلك مهتمًا بالثقافة والعلوم والفنون، فقد أتقن اللغات التركية والعربية والفارسية واليونانية واللاتينية، ودرس الفلسفة اليونانية ومذاهبها وكان مهتمًا بالفلسفة الأرسطية والرواقية، وقد درس التاريخ والجغرافيا والتفسير والموسيقى والرياضيات والهندسة على عدد من أساطين عصره من الأتراك والأوروبيين.

وكان سمحًا مع الاختلافات الثقافية، فقد طلب من بطريرك الأرثذوكس أن يضع له كتابًا عن مبادئ الديانة المسيحية، وفتح أبوابه للعلماء والفنانين من مختلف أنحاء الأرض وخصص أيامًا للاجتماع بهم والتشاور معهم.. وشجع الفنون والعلوم والتعليم.

بل أنه كان يكتب الشعر باسم مستعار وكان له ديوان شعر في الغَزَل.

كانت رؤية الفاتح هي استمرار القسطنطينية في دورها الذي كانت تقوم به منذ سقوط الإمبراطورية الرومانية الغربية كجسر حضاري بين الشرق والغرب.. وقد تلفت حوله فوجد نفسه يحكم مساحات هائلة تعج بالأديان والثقافات المختلفة فقرر أن يوظف ذلك لصالح مشروع حضاري عظيم.

وفي نفس الوقت كان يدرك جيدًا أين يضع تحالفاته، فحافظ على العلاقة الطيبة بالعملاق الآخر وهو دولة المماليك، وحرص على التواد والتآخي مع سلاطينها.. أي أنه كانت لديه الحكمة الكافية ليدرك فكرة "التكامل الحضاري".

نموذج لو كان استمر على يد من خلفوه في كرسي السلطنة لكان تاريخ العثمانيين قد اختلف، ولكانوا قدموا نموذجًا حضاريًا راقيًا كنماذج بغداد العباسيين وقرطبة الأمويين وقاهرة المماليك وغرناطة بني الأحمر.

ولكن مما يؤسِف أن نموذج محمد الثاني كان مجرد استثناء في قاعدة كون العثمانيين محاربين أجلاف لا يستوعبون فكرة الحضارة ويرونها نوعًا من الخنوثة والميوعة ولا يؤمنون بتواصل إلا بالسيف والمدفع.. فكان من الطبيعي أن يضيعوا تلك الرؤية.

وللأسف أيضًا فقد ساهم هو نفسه في ذلك بذلك النص الملعون في قانونه على إباحة قتل السلطان الجديد إخوته الذكور استباقًا لأي انقلاب محتمل من أي منهم عليه، فزاد من الاحتقان والتحفز في البيت العثماني وضاعف من أجواء المؤامرات! والقارئ لتاريخ البيت العثماني الحاكم لوجد أن المؤامرات بين الأخوة بعد الفاتح وفظائع بعضهم بحق بعض قد تضاعفت عنها قبله!

وقد أدرك العثمانيون الجدد تلك الثغرة في ثوب تمجيدهم للدولة العثمانية البائدة، فأصبح حديثهم عن الفاتح ينصَب على الجانب الحربي من حياته وغزواته في الأناضول وأوروبا والبحر المتوسط، مع حديث عابر على استحياء عن وجهه الآخر كحاكم مثقف له رؤية تناقض معها التاريخ العثماني.

فهو كان يرى في انتشار العلم والثقافة في أرجاء دولته إثراءً لها، وهم كانوا يرون فيه خطرًا على سيطرتهم فسعوا لنشر الجهل والخرافات.

وهو كان يرى في التنوع العرقي والديني والثقافي مكسبًا لدولته وهم لم يروا علاقتهم بغيرهم سوى علاقة السيد-هم-بالعبد-الآخر

وهو كان يدرك أن الحرب هي مجرد "وسيلة" لحماية الحضارة بينما هم قد نظروا لها كغاية في حد ذاتها كما فعل أسلافهم في حياة البداوة والجلافة والترحال قبل أن يسكنوا المدن والقصور.

فمن الطبيعي إذن أن يكون دعاة بعث الجثمان العثماني البالي من مرقده أكثر الناس سعيًا لطمس ذلك الجانب من حياة محمد الفاتح، وأحرصهم على اختصاره في حروب وغزوات ومعارك، وأشدهم اهتمامًا بالتركيز الإعلامي على نماذج "محاربة" مثل أرطغرل وعثمان وسليمان القانوني، كيلا يسأل البعض "ولماذا لم ينفذ من خلفوه رؤيته؟"

هذا فضلًا عن أنهم بتقديمهم مثل هذا النموذج إنما يهددون أنفسهم بفقدان الفئة التي يخاطبونها بخطابهم المضلل الممجد للدولة العثمانية البائدة: فئة متطرفي الفكر المتعصبين دينيًا المنغلقين حضاريًا.. فهؤلاء لا يشترون بضاعة فيها "التنوع الثقافي" و"الاهتمام بالعلوم والفنون" بل يسارعون لأي نموذج يمكن اختصاره في سيوف ودماء ومدافع وصيحات تكبير... فالنموذج المدني لمحمد الفاتح إذن يفسد رواج "بضاعتهم".

وهذا هو أكبر دليل على تناقضهم المفضوح، فهم يمجدون من تاريخ العثماني القديم ويختصرون التاريخ الإسلامي في حكم العثمانيين بينما هم في نفس الوقت يطمسون الصفحة الوحيدة المنيرة حضاريًا في تاريخهم الدامي المظلم!

عن "سكاي نيوز عربية"


آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية