محمد طُمّليه في ذكراه العاشرة: لسان عذب وساخط مصاب بالسرطان

محمد طُمّليه في ذكراه العاشرة: لسان عذب وساخط مصاب بالسرطان


23/10/2018

هو ليس كاتباً ساخراً، كما يحلو لكثيرين وصفه، واختزاله، رغم أنّ أغلب الذين يكتبون هذا النمط في الأردن، خرجوا من عباءته، وانتسبوا إلى "مدرسته". هو كاتب وحسب، ساخط، ومتمرّد وحقيقيّ وبذيء تطاوعه الكلمات، فيطاوعها رؤى واقتراباً حميماً من وجع النّاس وما يهجسون به.

محمد طُمّليه اسم فريد متفرّد من الصعب أن ينسى عاش الحياة كما كتبها ومات بسرطان اللسان

محمد طُمّليه. اسم فريد متفرّد من الصعب أن ينسى. عاش الحياة كما كتبها، ومات بسرطان اللسان الذي ظل يسخر منه إلى أن قصف حياته وهو في قمة عطائه وشبابه، في 15 تشرين الأول (أكتوبر) العام 2008 ، عن عمر 51 عاماً.  مات طمليه وهو يسخر من المرض ويهزأ به: "السرطان مجرد سكرتير مجتهد قمت بتعيينه في جسدي لتذكيري كل صباح بواجبي إزاء مشروعي الأدبي الذي يعرف كثيرون أنّني أفكر فيه منذ أيام الجامعة: رواية تضعني في الصف الأول عالمياً"!

كتب طمليه عن مرضه مقالة بعنوان "يحدث لي دون سائر الناس"

يحدث لي دون سائر الناس

في 21 شباط (فبراير) العام 2007  كتب طمليه عن مرضه مقالة بعنوان "يحدث لي دون سائر الناس":

قرر الطبيب أخذ "خزعة" من لساني لفحصها مخبرياً، والوقوف على حقيقة ما يستجدّ في فمي من تقرّحات. وقد أخذها البارحة: "خزعة" – "عيّنة" صغيرة بحجم "شريحة الموبايل": هذا ما يتبقى من الثرثرة في نهاية المطاف.

يقول طمليه: أنا أحترم الرجل الذي اخترع "السردين" كنا نتناوله ثلاث مرّات يومياً قبل الجوع بربع ساعة.

النتيجة لم تظهر بعد. ولكنّي قلق: أخشى أنْ يكون الداعي ورماً: ليس هذا فقط ما أخشاه. ولكنّي أجفل، إذ يخطر لي أن تنمو في سياق عملية "زراعة العينة" كلمات لم أقلها بعد. يقول الشاعر الفرنسي "أراغون": "لست نادماً في حياتي على شيء، قدر ندمي على امتلاء فمي بكلمات لم أقلها". هذا بالضبط ما يخيفني".

يتابع طمّليه "حدث معي مؤخراً أنني جلست على درجات "كنتاكي" أمام "السيفوي" لشرب القهوة التي تبيعها بنت سمراء في "كشك". شربت القهوة ونهضت. ثم تبيّن لي أنني نسيت جهازي الخلوي على تلك الدرجات، وسرعان ما قام "ابن الحرام" الذي عثر على الجهاز بإزعاج الأرقام المخزّنة في شريحتي. أمضيت ليلة مريرة قبل أنْ أطلب إلى الشركة وقف الخط: كانت فضيحة علمت فيما بعد أنها أسفرت عن "خراب بيوت".

والوضعية حالياً مماثلة: لي "شريحة" من لساني في المختبر. هل يسيء فنيو المختبر استخدام شريحتي، مثلما حدث أمام "السيفوي"؟ هل تكون فضيحة جديدة، و"خراب بيوت"؟

"خزعة" في المختبر: هذا كل ما يتبقى من اللغو في نهاية المطاف".

كتابته لا تشبه كتابة أخرى

هكذا يكتب طمليه. كتابته لا تشبه كتابة أخرى. إنه صنيع وحده، يكتب عن الحياة من دون تجميل. ويتغلغل إلى قلب المعاني. هكذا نراه يكتب عن يوم المرأة:

هذا يوم لا يشمل "أم العبد". حتى إنه لا يشملها "عيد الأم" الذي يجيء هذا الشهر أيضاً...

قناعتي أنّ العيدين المذكورين مرتبطان بفئة معيّنة من النساء، لنقل أنهن "جماعة الكوتا". أو "التجمعات النسوية" التي توضع فيها الأرجل "ساقاً على ساق": أنا أقصد "سيدات المجتمع" المفتونات بالعمل التطوعي والمعاقين/ المخدوعات بضرورة الفن والتبرّع، و"الأرجيلة" و"المعجنات".

اقرأ أيضاً: تيسير السبول: سار مع الوهم وانتحر بعد هزيمة العروبة

وفي المقابل، فإنّ هناك "تجمعات نسوانية" يكون الجلوس فيها "أرضي - على عتبات البيوت"؛ حيث يدور حديث سطحي وعميق حول مغبّة الترمّل المبكر، و"الكوسا خرط"، و"مسامير اللحم" في قدميْ "أبو العبد"، و"حبال الغسيل" على الأسطح.

نساء راسخات: "محض أمومة وطبيخ ودموع"/ طاعنات في الرغيف/ لهنّ هيبة في سوق الخضار/ يعشقن الإسمنت عندما يقتضي التوسّعُ بناءَ غرفة إضافية ليقيم فيها الابن الذي تزوج البارحة...".

أنا والسرطان وهواك

بمثل هذه اللغة ينشئ طمليه عوالمه التي وثّقها في قصصه: "جولة عرق" 1980، "الخيبة" 1981، "ملاحظات على قضية أساسية" 1981، "المتحمسون الأوغاد" 1984، و"يحدث لي دون سائر الناس" 2004 بالتعاون مع رسام الكاريكاتير عماد حجّاج. ثم "إليها بطبيعة الحال- نصوص خادشة للحياد العام"، و "على سرير الشفاه"، الذي يتضمن مقالات كتبها طمليه أثناء صراعه مع مرض السرطان، واشتمل على نصوص ومقالات، من ضمنها: رجال ونساء،  الجرعة الأولى، أنا والسرطان وهواك عايشين لبعضينا، أمراض ترفع الرأس، وغيرها.

"إليها بطبيعة الحال- نصوص خادشة للحياد العام"

وأما في الرواية فكان يقول: "أعكف حالياً على كتابة رواية سوف أفرغ منها في غضون أربعين سنة قادمة"!

ولد طمليه في قرية بمدينة الكرك جنوب الأردن اسمها "أبو ترابة"، صعوداً إلى حُمّة "الموجب"... حيث لم يكن في القرية "صيدلية"، ولا يتوفر فيها مثل هذا الترف الآن: كان ثمّة دكّان، و"السردين" شفاء...

ويروي: وكان أبي، مدير المدرسة، يذهب الى "الكرك" لإحضار دواء جماعي هو عبارة عن حَبّ صغير لتخفيف "مغص المعدة"، وهذا يعني أنّ طعامنا كان آنذاك باطلاً...

اقرأ أيضاً: قاسم حداد شاعر أقام ورشة للأمل فضاؤها الشعر

يقول طمليه: أنا أحترم الرجل الذي اخترع "السردين": كنا نتناوله ثلاث مرّات يومياً قبل الجوع بربع ساعة. وقلت أعلاه إن "السردين" شفاء. ولا يوجد في المستشفى أسرّة تكفي: لا يوجد مستشفى أصلاً.

لاحظوا أنّ أمراضنا كانت غبيّة: "مغص"، رضوض، لدغة من أفعى أو عقرب... وأوجاع المخاض التي تتعرّض لها الحوامل حصراً. و"السردين" مفيد في كل الحالات.

* ثم أقام "الجيران" مفاعلاً نووياً في "ديمونة". واستقبل الأهالي شحنات من لحوم مجّمدة لم تنجح "النملية" في الحفاظ عليها. والهواء لم يعد طلقاً. وظهرت في القرية أول حالة "بمبرز". وهكذا، اكتشفنا الصداع، وألم الأسنان، والاكتئاب، وغيرها من الأعراض الجانبية: ولم يعد "السردين" نافعاً، فنصحونا بأقراص "الهمبرغر". وبالمناسبة، يوجد "همبرغر ليبتون". و"الرغيف- ما غيره" صار "بيتزا".

"ماركيز" أردني

وذات مرّة، كتب محمد طمليه عن "ماركيز" صاحب "مئة عام من العزلة". وقال: سوف يتضح بعد قليل أنّ "ماركيز" أردني، وأنه من "محافظة المفرق"، وأنّه شرب ماء من "حنفية البلدية"، فأصابه مغص... مثل حوالي ألف من مواطنيه.

غيشان: كانت جنازة طمليه مهيبة؛ سيارات دفع رباعي، نُمر حكومية، وزراء بحقائب، عاطلون عن العمل، ضرّيبة أمواس وشفرات

ويتابع: أنا ذاكرتي جيدة، بل إنني أتعرّض لحسد جرّاء هذا، ومما تحفظه الذاكرة أن ثلاثة طرود بريدية ذهبت قبل خمسة أعوام إلى "مكبّ النفايات" في "المفرق". ولدى فتح الطرود، وفضّ الرسائل، قرأنا ما يلي: "أمي الحبيبة. هذه خامس رسالة أكتبها لكم من غربتي، ولم يصلني أي ردّ. هل حدث شيء جوهري وأساسي على صعيد الأسرة؟ ما هي أخبار خطيبتي "نوف"؟ أرسلت لها هدية في طرد هي عبارة عن جهاز "فلترة ماء"، مع صورة لي على حافة بحيرة جميلة فيها ماء عذب ورقراق. راسلوني رجاء، ولا تتركوا "ماركيز" وحيداً...

وكتب عن طمليه، صديقه الشاعر والصحفي زياد العناني، في جريدة "الغد"، لافتاً إلى أنّ صاحب "الخيبة" له كتابة مختلفة ينثر فيها ما لم يكتب من جارح وخارق وخارج عن المألوف، مستذكراً ما كتبه في مقال "الورطة":

"كل النساء رائعات، وليقل كل رجل ما يشاء من أوصاف رقيقة في حق صاحبته، ولكنّي أسأل بجد: هل وجود المرأة في الحياة ضروري؟

اقرأ أيضاً: محمد المهدي المجذوب.. جنون شاعر وزهد صوفيّ

أقبل بها كخالة متزوجة وتعيش مع أسرتها في "الزرقاء"، أو كأخت مطلّقة، وما عدا ذلك فإنني لا أوافق". مع أنه في سياق آخر يكتب لها:

"لك شرفة، أو لغرفتك نافذة بالضرورة: أطلّي منها نحو منتصف الليل ترينني وأراك: ماذا تنتظرين؟ أعطني الخصائل لأتسلق ونرجع معاً إلى القرن التاسع عشر".

الشاعر والصحفي زياد العناني

ينزف بالقلم غثيانه

كما يستذكر العناني مقالات طمليه التي قامت على "مفردة الهتك والاعترافات الجوانيّة" حيث لا يتورّع طمليه عن قذفها مهما كانت النتائج، خصوصاً أنّه كان يحس بأنه الأضحية الوحيدة التي أخذها ملحدون إلى حج مرفوض سلفاً، وأنه العريس الذي ذهب في إجازة شهر العسل "بمفرده"، وأنه الجندي الذي مات بآخر رصاصة أطلقها في الاحتفال بوقف إطلاق النار.

غير أنّ هذه الأحاسيس وتلك لا تلبث أن تتغير وتتجدّد في رأسه وعبر كتاباته التي جانبها النقاد فتلقفها الجمهور الذي أحبه وأحبّ مقالاته، وشاركه في كلّ شيء، ووصفه بأنه الكاتب الذي يكتب بالقلم، ويطلق بالقلم، وينزف بالقلم غثيانه ورفضه الواقع واللاواقع واختيار لواقع يقول عنه في "الطلقة الثالثة":

اقرأ أيضاً: رحيل أحمد مطلوب... العلامة والشاعر والعاشق

"أنا شخصياً لم أعش بعد، ولم يتراكم في حياتي زخم يستحق الكتابة عنه: كل ما في حوزتي من تجارب سخافات، مع أنّني أعتبر طفولتي في قرى الجنوب وانتقالي عند اليفوع للعيش في "مخيم الحسين" وضعية خاصة جعلتني أكون "أردنياً من أصل فلسطيني" و"فلسطينياً من أصل أردني" وقد بنيت كل مواقفي السياسية منها تحديداً على أساس العلاقة "الكاثولوكية" بين الشعبين الشقيقين". ويتابع طمليه: ربما أنّ دراستي في بغداد وموت أبي ودفنه في العاصمة الحبيبة المحتلة جعلتني عراقياً: عراقي شيعي وسني في الوقت نفسه، ومسيحي مثل صليب".

"المتحمسون الأوغاد"

وتظل قصته "المتحمسون الأوغاد" من "كلاسيكيات" القصة في الأردن، وهنا نصها:

.... كانت مجموعة من النمل تعمل بدأب في نقل حبوب القمح المتناثرة هنا وهناك، إلى مقر "بيت" النمل الذي تم اختياره في جذع شجرة قديمة. كان أفراد البيت مهتمين بتخزين ما يكفي من المؤن للشتاء القادم. وهي مهمة مقدّسة أخذها الخلَف عن السلف. فإذا كان مسموحاً لجماهير النمل أن تبدي رأيها في كثير من أمور الحياة. فإنّ مسألة العمل لا يمكن الجدل حول أهميتها.

اقرأ أيضاً: شاعر الحرية والإنسانية ولد بلعمش في "بريد الراحلين"

إلا أنّ نملة صغيرة أبدت في يوم من الأيام تذمرها من هذه المهمة الفارغة، وقالت لرفيقتها:

- "هراء أن تكون حياة النمل مقتصرة على نقل أشياء سخيفة".

فسألتها النملة الرفيقة بكثير من الدهشة:

- "ماذا تقولين؟ كيف نعيش من غير طعام؟".

فأجابتها النملة الأولى بلا مبالاة:

- "إنّنا سنموت على كل حال. يكفي أن يعبث بخليّتنا طفل بريء، أو تدوسنا في الطريق أقدام ضخمة، أو يحرقنا رجل محبط لمجرد أنه ضجر ويريد أن يتسلى".

فقالت الرفيقة :

- إنّ البشر يموتون أيضاً، لقد علمت أنّ جميع الكائنات تموت مثلنا تماماً، ومع ذلك فهي لا تتوقف عن القيام بشيء ما.

إنّه الواجب المقدس".

أجابت النملة الضجرة :

- "الحقيقة هي أنني مللت هذا الأمر الذي تسمّينه مقدساً، لقد فقدت عنصر الدهشة في حياة رتيبة لا جديد فيها.

إنّ حبوب القمح متشابهة حتى ليخيّل إليَّ أنني نقلت حبة قمح واحدة طوال حياتي".

قالت النملة الرفيقة :

- "إنّ المصلحة العامة تقتضي أن أقوم بكتابة تقرير مفصل عن نواياك السيئة هذه".

وهرعت الرفيقة لمقابلة النملة قائدة الفصيل.

جلست النملة الضجرة في ظل أعشاب جافة، وأخذت تفكر: "إنهم مجانين. يعملون ليل نهار وكأنّهم خالدون إلى الأبد، إنهم يزدادون سمنة فحسب، ومع ذلك فالموت يبتلع الجميع أخيراً".

انتشر خبر النملة الضجرة في أوساط النمل، وصار الجميع ينظر إليها بعين الشماتة والازدراء. حتى إنّ إحدى النملات المدلّلات قالت وهي تمر من أمامها :

- "تلك هي النملة الساقطة، كم أرجو لو يسمحون لي بدقّ عنقها".

وقالت نملة مدللة أخرى :

- "ينبغي أن لا تظل هذه النملة الفوضوية بيننا بعد الآن".

أشاحت النملة المتمردة بوجهها وهي تقول:

- "هؤلاء المتحمسون الأوغاد".

"كانكان العوام الذي مات مرتين"

وفي الذكرى العاشرة لرحيل طمليه التي صادفت منتصف الشهر الجاري، استذكر صديقه الكاتب يوسف غيشان، جنازته: "كانت جنازة مهيبة، سيارات دفع رباعي، نُمر حكومية، وزراء بحقائب، وزراء بلا حقائب، وزراء يربطون دوسيهاتهم بمغيطات، وزراء سابقون ولاحقون، مدراء دوائر، رؤساء روابط ونقابات، بعض من رفاقه السابقين في الحزب الشيوعي، كتاب، قراء، باعة رصيف، عاطلون عن العمل، ضرّيبة أمواس وشفرات، جامعو علب المشروبات الغازية، أصحاب الأخدود وأصحابهم وأترابهم".

اقرأ أيضاً: أبو نواس: ترجمة إنجليزية لـ "خمريات" الشاعر الشهير

ويتابع غيشان عندما حانت لحظة مواراة طمليه الثرى: "هناك تذكرت قصة لجورج أمادوا اسمها (كانكان العوام الذي مات مرتين) كان محمد طمليه مذهولاً بها. تتحدث القصة عن مجموعة من الشباب مات أحدهم، لكنهم لم يعترفوا بالوفاة، فأخذوه معهم – وهو ميت- إلى شاطئ البحر، وأجلسوه معهم وهم يأكلون ويشربون ويتسامرون ويتحادثون ويلكزونه أحياناً، ويطبطبون على ظهرة لكأنه معهم، ويضحكون على شيء قاله…. تمنيت لو نستطيع أن نفعل لطمليه كما فعل أصدقاء كانكان العوام".

مقالة للراحل بصوته:


آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية