مذبحة التراث على يد الإسلامويين

مذبحة التراث على يد الإسلامويين

مذبحة التراث على يد الإسلامويين


19/09/2023

 

يُعرَّف التراث بأنّه، كلّ ما ورثه الإنسان عن أسلافه؛ من معارف وعلوم وعقائد وفلسفات ومنجزات مادية، ساهم فيها كلّ أبناء الحضارة الواحدة، على اختلاف مشاربهم وميولهم؛ حيث يمثّل هذا التراث مسيرة أمةٍ أو حضارةٍ ما، عبر عصور وحقب مختلفة، كذلك كان التراث الإسلامي، الذي اشتمل على منظومات عقائدية للفكر الديني، وآراء ومقولات فلسفية، وأفكار سياسية، ومنجزات عمرانية.

 

ومن المعلوم؛ أنّ تراث أيّة أمّة أو شعب أو حضارة، متعدّد ومتنوّع، سواء في المنطلقات أو النتائج، وهذا ما تجلّى وتمظهر في التراث الإسلامي، الذي تنوّعت مدارسه الفكرية والدينية والفلسفية؛ فمن الفرق الدينية والمذاهب الفقهية، إلى الفلاسفة، أو المتفلسفة، والأدباء والمتصوّفة... إلخ، الذين استندوا في آرائهم وأفكارهم ومعارفهم إلى النصّ الدّيني، أو العقل، أو المزج بين النصّ والعقل، ما أدّى إلى ولادة فرق دينية وأحزاب سياسية، وآراء فلسفية، وأبحاث علمية، حول الكون والإنسان، في شتّى التخصصات، شكّلت في مجموعها ما سمِّي لاحقاً "التراث الإسلامي".

انحاز الإسلام السياسي السنّي إلى المدرستين الأشعرية والحنبلية والإسلام السياسي الشيعي لنظرية ولاية الفقيه وتجليات المدرسة الإمامية                       

وفي عصرنا الراهن، تعاطى الإسلامويون، ومن شايعهم، مع هذا التراث بطريقة انتقائية فجّة، أفضت إلى اختزاله في مدرسة فكرية واحدة، واستبعاد تراث المدارس الفكرية الأخرى؛ حيث انحاز الإسلام السياسي السنّي إلى المدرستين؛ الأشعرية والحنبلية، وتجلياتهما الفكرية والعقائدية والسياسية، كذلك يفعل الإسلام السياسي الشيعي، حالياً، بانحيازه لنظرية ولاية الفقيه، وتجليات المدرسة الإمامية، وبذلك استُبعد تراث المعتزلة والفلاسفة، والعلماء، والمتصوّفة الكبار، والفرق الإسلامية الأخرى المخالفة.
والسؤال الذي نطرحه، هنا، على الاتجاه الإسلاموي، ومن سار على نهجه؛ كيف لكم أن تفاخروا بوجود حضارة إسلامية، وفي الوقت نفسه تصادرون، أو تقصون، تراث تيارات فكرية وعلماء كان لهم الدور الرئيس، إن لم يكن الأهم، في تشييد الحضارة الإسلامية، وبزوغ نجمها؟
فالإسلاموي يتفاخر، اليوم، بعظمة هذه الحضارة، من على منابره، وبفضلها على الأمم الأخرى، من خلال منجزاتها؛ الفكرية والعلمية، في مختلف العلوم، التي تحقّقت على يد كوكبة من أبناء هذه الحضارة، أمثال: ابن سينا، وأبو بكر الرازي، وابن الهيثم، والكندي، والمعري، وابن رشد، وابن عربي التوحيدي، وجلال الدين الرومي، وابن بطوطة، وابن المقفَّع، والجاحظ، وجابر بن حيّان، والبيروني، وعباس بن فرناس، والخوارزمي، وابن طفيل، وابن باجة، والبتاني، والفارابي، ومسكويه، والمجريطي، وابن النفيس ...إلخ. علماً أنّ هذا الإسلاموي يؤمن، في قرارة نفسه، أنّ هؤلاء جميعاً في نظره؛ إمَا "زنادقة" أو"ملاحدة"، وفي أحسن الأحوال "مبتدعة" تُعدّ آراءهم طعناً في الإسلام!

الاختزال والانتقائية للتراث الإسلامي في مدرسة واحدة واستبعاد المدارس الأخرى أدّى إلى شيوع النزعة الإقصائية

إذاً، لماذا هذا الفصام في النظر إلى التراث الإسلامي؟! فإمّا أن يكون هؤلاء العلماء من أبناء هذا التراث، ومن طلائعه المبدعة والواعية، التي دشّنت بدايات تأسيس العلوم النظرية والطبيعية في الحضارة الإسلامية، التي سطعت شمسها على بلادهم، وعلى الحضارات الأخرى المجاورة لها، فكان لإبداعاتهم تلك السبب الرئيس الذي جلب احترام الحضارات الأخرى للحضارة الإسلامية، إمّا أن تنزع عنهم صفة انتمائهم لهذا الدّين، ولهذه الحضارة، فيحذفون من التراث الإسلامي، فلا يبقى أي معنى لتفاخر الإسلاموي بوجود حضارة إسلامية.

غير أنّ هناك صنفاً آخر من التيار الإسلاموي، كان أشدّ وضوحاً، وتساوقاً مع نفسه، ومع الفكر الديني عامة، في تعامله مع التراث الإسلامي؛ حيث وصف  العلماء، الذين قامت على عواتقهم الحضارة الإسلامية، بأنّهم "زنادقة" و"ملاحدة" و"كفرة"، لا داعي لعلومهم النظرية، أو الطبيعية، لأنّ العلم الحقيقي، في نظره، هو العلم الشرعي فقط، الذي يشتمل على العلوم الدينية فقط، وما عداه لا حاجة لنا إليه، وليس له نفع يعود على الدين وأهله، فهو بذلك  يختصر الأمر علينا، ويكشف لنا عن الوجه الحقيقي للفكر الديني الإسلاموي، بكافة طبعاته وألوانه؛ فيطالب بتعلّم العلوم الشرعية فقط ودراستها، التي من خلالها قامت الفتوحات الإسلامية، وتمكّنت من نشر الدين الإسلامي في البلاد المفتوحة، وبأنّ الحضارة الإسلامية لا تقاس بعمران الدنيا ولا بعلومها، فالمسلمون حين اشتغلوا ببناء القصور الفارهة، وتعلّم الفلسفة والمنطق والطبيعيات، وركنوا إلى الدنيا، واستهانوا بالعلوم الشرعية، رماهم الله بالدواهي والمصيبات، فالفهمَ الفهمَ، فإنّ الإسلام لم يأتِ لعمارة الدنيا إلّا بالطاعات! 

أفضى الإقصاء إلى فقر فكري ضيَّق خيارات أبناء الحضارة الإسلامية وأضاع عليهم فرصة توظيف مدارس فكرية عقلانية

وتأسيساً على ما سبق، نخلص إلى أنّ هذا الاختزال والانتقائية للتراث الإسلامي في مدرسة واحدة، واستبعاد المدارس الأخرى، وآراء الفلاسفة، والمفكّرين، والعلماء، الذين بحثوا وفكّروا في اللامفكَّر فيه، أدّى إلى شيوع النزعة الإقصائية، التي من ثمارها المُرة التي نحصدها الآن؛ نزعات التعصّب، والتكفير، والأفق الضيّق الذي تمارسه جماعات الإسلام السياسي، ومن سار على دربها وفكرها، وتبنّى سردياتها، التي تدّعي امتلاك الحقيقة المطلقة للدين والدنيا، كما  أفضى هذا الاختزال إلى فقر فكري مدقع، ضيَّق خيارات أبناء الحضارة الإسلامية، وأضاع عليهم فرصة توظيف مدارس فكرية عقلانية، كان من الممكن لها أن تسهم في تغيير زاوية النظر والفهم، للدين والتديّن، وإشاعة رؤية فكرية أكثر إنسانية للكون والوجود.


آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية