مسلمو قريتي

مسلمو قريتي


11/09/2018

الأب ميلاد الجاويش

ما سأكتبه خبرةٌ وليس إنشاءً فارغًا، جزءٌ من قلبي وليس تبجيلاً مزيّفًا. أريده تحيّةً إلى مسلمي قريتي في عيدهم. ولدتُ في قرية ثلثها مسلمون وثلثاها الآخران مسيحيّون. أوّل احتكاكي بالإسلام كان عبرهم. منذ صباي عرفت أنّهم مختلفون عنّا، ولكنّ اختلافهم ما أبعدهم عن قلبي. لم أسمع من أهلي إلاّ الخير عنهم. يزوروننا في مناسبات عدّة، بل كلّ يوم كانت قدم أحدهم تطأ عتبة بيتنا. أتذكّر “مِنفي” صديق العائلة الوفيّ، و”فوّاز″ الذي لا يحلو الذهاب إلى قرية أمّي إلاّ معه، و”إم مرعي” جارة الرضا، أطال الله بعمرها، التي لِلُطفها تبتسم الملائكة… كانوا مسلمين من غير أن يغالوا في إسلامهم على نحو منفّر. في قاموس شرعهم، قد يكونون من المخالفين؛ ولكن في قاموس المحبّة، فهُم آثروا شريعة الألفة. مشاهد كثيرة تتراكم في مخيّلتي عنهم وعن طيبتهم. شاركونا كلّ شيء: أفراحنا وأتراحنا، أعيادنا ومواسمنا… حتّى في الكنيسة، كنت أراهم في الخلف، يشاركوننا الصلاة في المناسبات. قليلات من نسائهم كنّ يرتدين “الإشارب”، غير أنّهن فرضن احترامهنّ بوقارهنّ. كثيرة المرّات التي سمعت فيها كيف أنّ شبّانهم تكاتفوا مع شبّاننا على ضرب وطرد من ساورته نفسه من شبّان القرى المسلمة المجاورة أن يتسلّل إلى أعراس “المسيحيّين” ليتصبّب على صبايانا. أمّا صوت الآذان فكان جزءًا من طفولتي. أتذكّر كيف كان دعاء “حيّ على الفلاح” لغزًا لي كولدٍ صغير. كنتُ أظنّ أنّ الشيخ يدعو إلى “الفلاحة”، إلى فلح الأرض في قريتي التي تتوسّط سهل البقاع الخصب! لا يزال يتردّد في أذنيّ صوت الشيخ عبد الباسط عبد الصمد الأخّاذ. مع انتشار الانترنت، يخطر ببالي أحيانًا أن أعود وأسمع صوته المبدع في تجويد القرآن.

ما أرويه ليس سذاجة. مسلمو قريتي أروني وجهًا حلوًا عن الإسلام لا أزال أفتخر وأنادي به أينما حللت. جاؤونا بالسلام والألفة. لم أقرأ كتابهم الكريم، ولا كتب الفقه والعقائد. كانوا هم مدرستي في فقه التحابّ والتقارب.  فيهم شيء من الإنجيل، من المسيح الذي أعشق، من غير أن يكونوا من أهل العماد. أخبرتني “أم ياسين”، جارتنا الوديعة، كيف كانت وهي صغيرة تفرش سجّادتها للصلاة، وعندما تركع تتلو ما تعلّمَته في مدرسة الكنيسة البدائيّة: “أبانا الذي في السماوات”. ولمّا كانت أمّها تنبّهها قائلة: “هذه ليست لنا، بل صلّي الصلاة الأخرى”، كانت تردف: “السلام عليك يا مريم…”؛ فتعود أمّها لتقول لها: “ليست هذه، بل الصلاة الأخرى”. لم تتعلّم “أم ياسين” صلاة الفاتحة إلاّ عندما فتحت جمعيّةُ المقاصد الإسلاميّة مدرسةً لها في قريتي. لا أنسى أيضًا ما شاهدته بأمّ عيني السنة الماضية، لمّا رافقتُ كاهن القرية لأداء واجب العزاء بجارنا “أبو محمود”. جلسنا برهةً من الزمن، وقبل أن نغادر بادر كاهن القرية وتلا صلاة “الأبانا” عن روح الميت، وأنهاها راسمًا إشارة الصليب. ولمّا خرجنا، أبديت له تأثّري بما رأيت، فقال لي: “نعم، هذه هي العادة هنا. وهكذا يفعل الشيخ أيضًا إذا جاء معزّيًا بميت من عندنا، يتلو الفاتحة عن راحة نفسه”. أمثولة في الرقيّ قلّ مثلها هذه الأيّام.

أقول هذا من غير أن أكون مُغرَّرًا به. أعي تمامًا أنّ قريتنا بعيدة عن المثاليّة، وأنّ أهلها، مسلمين ومسيحيّين، ليسوا ملائكة أطهارًا. فكثيرًا ما اعترى علاقاتهم المتبادلة شوائب وصراعات خفيّة، لا سيّما أثناء الحرب وبعدها وإلى اليوم؛ وكثيرًا ما انجرفوا وراء المصالح والتحزّبات السياسيّة الضيّقة والنعرات العائليّة البغيضة، غير أنّ منطق المحبّة والرغبة في العيش معًا كانا دائمًا الغالبين. الناس تحتاج إلى قلوب صافية كي تتعايش وتتلاقى أكثر منها إلى عقائد وأنظمة. ما أشاهده اليوم من فظائع تُرتكب تحت راية الإسلام، والذي يشكّل بالتأكيد مأساة إلى عامّة المسلمين، يجعلني أرتمي بين أحضان ذكرياتي، تلك التي رسّخها في وجداني مسلمو قريتي، وأردّد في نفسي: ليت مسلمي العالم كمسلمي قريتي!

عن صحيفة "يورابيا"



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات
الصفحة الرئيسية