مفارقة الراعي ودونية المرأة

مفارقة الراعي ودونية المرأة


27/12/2018

معظم الأنبياء والرسل عملوا رعاة أغنام وأنعام، ونعلم أن الراعي مكرم، حيث ورد في الحديث النبوي الشريف: "كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته ...". إذاً؛ الملوك هم رعاة شعوبهم، والكهنة هم رعاة كنائسهم وأبرشياتهم، ويُحمد من الناس من يرعى شؤون الآخرين ويهتم بهم. ولكن للراعي في الثقافة الشعبية دلالة مختلفة، لا تمت إلى هذه المعاني بصلة؛ إذ يشبَّه الشخص الخامل، غير المنظور وغير المسموع، والمحروم من الأهلية والمكانة الاجتماعية بالراعي، فيقال عندنا، في سوريا مثلاً: "فلان مثل الراعي لا يحضر في وليمة ولا تفوته شتيمة".

هذا المأثور الشعبي نفسه يقال للمرأة حصراً، في بلد عربي آخر، وربما في بلدان عربية أخرى: "المرأة مثل الراعي لا تحضر في وليمة ولا تفوتها شتيمة" . فمع أنّ المرأة "راعية البيت" و"راعية الأولاد والبنات"، لا يُعترف لها حتى بالرعاية، فهي تشبه الراعي الأدنى منزلة في التراتب الاجتماعي، مجرد شبه، في هذين الأمرين: عدم الحضور في وليمة وعدم تفويت الشتيمة.

اقرأ أيضاً: 7 أفلام اشتبكت مع قضايا المرأة في مصر

لا يخفى على أحدٍ منا ما تعنيه كلمة الوليمة في المصطلحات العربية؛ القديمة والدارجة إلى يومنا هذا، والتي تحتفل بها المجتمعات العربية، تعبيراً عن الكرم وطيب النفس في المناسبات الرسمية، كالأعراس وختان الأطفال الذكور وتسمى "العذيرة"، والأعياد والموالد، وهناك وليمة "الحداق" التي قال عنها الحافظ ابن حجر: "طعام يُتخذ عند حداق الصبي" أي عند ختم الصبي للقرآن الكريم، ووليمة الولادة احتفالاً بالمولود إن كان صبيّاً. فما هو نصيب المرأة من الوليمة، وما هو نصيبها من الشتيمة المعروفة بالقدح والذم والسب؟

صورة الراعي في الثقافة الشعبية صورة شخص يعيش على هامش المجتمع وهامش الحياة غير مرئي وغير مسموع

راعية المنزل والأولاد هي من تقوم بإعداد الولائم للرجال، ولا يطالها منها إلاّ ما يتبقى في قيعان القدور، أو ما يفيض عن الأضياف، مثلها مثل الراعي، يرعى أغنام سيده فلا يأكل من لحم خرافها ولا يشرب من حليبها إلاّ بإذن ومنَّة من صاحب الُملك، وعلى سبيل الشفقة والعطف. فليس من وليمة تُقام للمرأة مهما بلغت مكانتها الاجتماعية أو تحصيلها العلمي، إلاّ ما ندر في الوقت الحاضر، حتى وليمة الزواج تُقام بعد دخول العريس بعروسه احتفاءً بفحولته. وقد تحفظ الصبية القرآن الكريم، ولكن لا يولم لها، كما يولم للصبي، ولا يحتفى بحفظها كما يحتفى بحفظه، ولا يحتفى بنجاحها كما يحتفى بنجاحه.

صورة الراعي في الثقافة الشعبية صورة شخص يعيش على هامش المجتمع وهامش الحياة، غير مرئي وغير مسموع، ولكن صورة المرأة مختلفة؛ المرأة يُعدُّها المجتمع ويهيئها لكي تُرى، بصفتها مادة التبادل الرمزي بين العائلات والعشائر، (تبادل المكانة والشرف والحسب والنسب)، ولكي تُسمع أيضاً، في حالتي الغناء والندب، ومع ذلك لا تحضر في وليمة ولا تقام لها وليمة، بل هي محور الشتيمة الأصلي أو الأساسي. فإن أكثر ما يعاب به الشاب أو الرجل هما أمه وأخته.

اقرأ أيضاً: نساء على المنابر: هل تصلح المرأة ما أفسده المتطرفون؟

معظم الشتائم التي يطلقها شخص لأي شخص آخر تطال المرأة بالدرجة الأولى، أو يُقال فلان (كالحرمة) والمقصود تصغيره والحد من رجولته، فيترفع الرجل عن الرذيلة لتلصق بالمرأة بشكل أو بآخر حتى لو كانت الشتيمة عفوية أو من دون خلفيات مقصودة، لكنها أفكار راسخة في اللاوعي الجمعي، يصدّرها في أوقات الغضب لتعويض الشعور بالنقص؛ نقص المعرفة والوعي، وتعويضاً عن الكبت الجنسي الذي تعاني منه المجتمعات المتخلفة في تربيتها منذ النشأة الأولى للفرد، هذا الفعل ليس تصغيراً للمرأة فحسب؛ إنما هو تعظيم للذكورة تعويضاً عن رجولةٍ مبتورة؛ أي إنها اضطهاد مباشر ومُعلن للمرأة واضطهاد غير مباشر وغير مُعلن للرجل أيضاً، فالمسألة تتعدى الاختلاف البيولوجي بين الجنسين، إلى الاختلاف بالإنسانية من وجهة نظر النظام الاجتماعي الذي يكّرس التراتبية والهرمية في التقسيم العمودي داخل جسده الواحد وروحه الواحدة التي تشظَّت من خلال العنف الممارس على المرأة والرجل في آنٍ واحد.

راعية المنزل والأولاد هي من تقوم بإعداد الولائم للرجال ولا يطالها منها إلاّ ما يتبقى في قيعان القدور

ليس أبناء المجتمعات العربية، التي تتمتع بموروث ذكوري، تقليدي، تجترُّه إلى هذا العصر هم المتعصبون للرجل ضد المرأة فقط؛ إنما بعض من كبار الفلاسفة أيضاً يتعصبون لذكورتهم وعرقهم، فيحتقرون المرأة حتى لو كانت أقرب الناس إليهم، وينظرون إلى أصلهم بافتخار على أنهم من سلالة ذكورية صافية ليس إلاّ، يقول نيتشه: "أنا نبيل بولندي أصيل، (...)، عندما أبحث لي عن نقيض جوهرّي، خسّة الطبع، سفالة الغرائز التي لا حدود لها، أجد أمامي على الدوام أمي وأختي، وإن الاعتقاد بأن لي قرابة مع مثل هذا الرهط من السفلة لهو ضرب من التجديف على منزلتي الألوهية ..." .

أليس هذا التمييز بين الرجل والمرأة (الأب والأم) هو ضرب من الكبرياء والتعالي على الإنسانية بماهيتها وصفاتها الطبيعية، وإسقاط الصفات الإلهية على الرجل، مع أنّ أتباع نيتشه قد دافعوا عنه بحجة إصابته بالجنون، لكن بعضهم اعتبرها لحظة غريزية صادقة متحررة من كل قيود الرهبة والحرج. ما قاله نيتشه ليس شتيمة للمرأة أو نظرة دونية لها فحسب، إنما هو احتقار وإهانة لكرامتها الإنسانية، بل إهانة للكرامة الإنسانية بوجه عام.

قد تبدو مسألة الوليمة والشتيمة من سفاسف الأمور ونثريات الحياة اليومية وتفاصيلها الصغيرة، لكنّ الأمر ليس كذلك، فحين تولم الأسرة لبناتها مثلما تولم لأولادها، وحين تحتفي بالأنوثة مثلما تحتفي بالذكورة، وحين تحترم المرأة مثلما تحترم الرجل، وتعترف لها بحقوق مساوية لحقوقه المدنية والسياسية، تكون مسائل كثيرة ومعضلات كثيرة قد أخذت طريقها إلى الحل، ويكون المجتمع قد اتجه بالفعل نحو الحداثة والمعاصرة.


آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية