مفهوم القوّة في العالم يتغير.. من يمتلكها اليوم ومن يتصنّعها؟

مفهوم القوّة في العالم يتغير.. من يمتلكها اليوم ومن يتصنّعها؟


15/11/2018

مفهوم القوة في العالم يتغير؛ لعلّ هذه أهم خلاصات ملتقى أبوظبي الإستراتيجي، في نسخته الخامسة، تحاول قوى مُتعدِّدة في العالم صياغة أفهام جديدة للقوة؛ بعضها مدفوع بغرور القدرة الفائقة على الوصول والانتشار السريع، كما في الحالة الأمريكية، وبعضها منحاز إلى القوة الصلبة، واستعراض إرادة استخدامها، كما في الحالة الروسية، وآخر مرتبك، بين قيم ومفاهيم يرفضها بدعوى الخصوصية الثقافية، وبدائل لا يمتلكها، كما في الحالة الصينية، وبين هذا وذاك، طرفٌ استلهم حكمة الأجداد، وتخلى عن الغرور، ودعوات الخصوصية، واكتفى بالعمل وفق خطة بيت النمل، كما في الحالة الهندية.

اقرأ أيضاً: أمريكا تستعد لـ"حرب سيبرانية"

أربك ترامب العالم، لعلّ هذه إحدى أبرز الحقائق الأخرى، فقد بات العالم متشككاً في جدوى الاقتصاد الليبرالي، بعد النكوص الأمريكي المستهجن عن الاتفاقيات التجارية والدولية؛ فالقيم المعولمة تفقد زخمها أيضاً بعد تراجُع دور القوة الناعمة في السياسة الخارجية الأمريكية، ولدى سيّد البيت الأبيض أولويات أخرى كثيرة تمنعه من "إنقاذ العالم"؛ إغلاق الحدود المفتوحة، وتقزيم حقوق اللاجئين.

بات العالم متشككاً في جدوى الاقتصاد الليبرالي، بعد النكوص الأمريكي المستهجن عن الاتفاقيات التجارية والدولية

تزايد أهمية وسائل التواصل الاجتماعي، وتنامي المخاطر القادمة من الفضاء السيبراني، يتصدران اهتمامات العقل الإستراتيجي الأمريكي، فيما يُنظر إلى بروز الصين وروسيا، بمثابة تحدّيَين مهمين آخرين.

روسيا تعيش حالة من "وهم القوة"، لن ينفع معها تجاهل عوامل الضعف الداخلية، وبعد استثمارها في حالة "فراغ القوة" في الشرق الأوسط، لا تنتظرها نهاية سعيدة؛ فهي وإن كسبت الحرب، تبدو عاجزة عن كسب السلام، ويحاول الإستراتيجيون الروس خفض مستوى التوقعات من حملتهم في سوريا؛ يستدركون بأنّ الجهود الروسية لا تهدف للحدّ من النفوذ الأمريكي في المنطقة، بل تسعى لعقلنته! وفي غياب الثقة بين روسيا والغرب، تتحوّل موسكو نحو الصين، والتعاون مع إيران، لكنّ عينها لا تنفكّ تراقب واشنطن.

اقرأ أيضاً: بعد سيطرة الديمقراطيين.. هل يفتح الكونغرس ملفات ترامب؟

يُعجب البعض أن ينظر إلى الصين باعتبارها القوة العالمية المقبلة، لكنّها لا تمتلك كاريزما وأدوات تفوق موقعها كـ "قوة إقليمية"، ويجادل الخبراء الصينيون بأنّ الأفهام السائدة للقوة تنطلق من عقلية ومقاييس غربية، لكنّهم لم يقدموا أية مقاييس، أو مفاهيم، صينية بديلة، وهنا مكمن الضعف.

يطرح الصينيون مقومات أخلاقية للصعود الصيني؛ انتهاج الصين فلسفة اللّاعنف وعدم التدخل، وامتلاك ثقافة تُعلي من شأن العيش المشترك وتقاسم الموارد، لكنّ للجغرافيا السياسية رأياً مختلفاً، وأكثر عملانية، ثم إنّ العالم يرفض النظر إلى "مبادرة الحزام والطريق" باعتبارها "خطة مارشال"، وما تزال الشكوك تثار إزاء نوايا "استعمارية" خلف المبادرة التي ستحكم السياسة الخارجية الصينية لعقود قادمة، وتعمل هذه المخاوف الدولية على عرقلة الطموحات الصينية، إضافة إلى تحديات موضوعية عدة، أبرزها: ضعف العملة الوطنية، وضعف متوسط دخل الفرد، والإشكالات المتعلقة بأصالة المعرفة.

اقرأ أيضاً: البوتينية والترامبية في وطن عربي ممزق

أوروبا في مرحلة تحوّل تاريخية؛ فلم يعد القادة الأوروبيون قادرون على "عقلنة" التغيرات السريعة في مجتمعاتهم، والقيم الأوروبية باتت أمام تحديات كبرى، في ظلّ الدعوات الانعزالية القومية وخطابات الشعبوية على شرعية الصناديق بشكل مضطرد، بل ومتنامٍ، ففكرة الاندماج الأوروبي نفسها أصبحت عرضة للتهديد، ناهيك عن الانفتاح العالمي، وتستشعر دول الاتحاد الأوروبي تهديداً مصدره السياسات الأحادية للإدارة الأمريكية، وتراجع زخم التحالف بين ضفتي الأطلسي، فقد بات الأوروبيون يفكرون جدياً بالعمل على إعادة التوازن مع الولايات المتحدة في الدفاع والأمن.

تزايد أهمية وسائل التواصل الاجتماعي وتنامي مخاطر الفضاء السيبراني يتصدران اهتمامات العقل الإستراتيجي الأمريكي

الجهود الصينية بدأت تثمر في إفريقيا، والبعض بات يتحدث عنها كقوة صاعدة، وهناك تطور في العنصر السكاني، ونزوع أكبر للاستقرار، وترشيد الحوكمة، فإفريقيا استفادت من العولمة، لكنّها ما تزال في حاجة إلى تجديد قيادتها، وتحسين المؤسسات والأنظمة لجذب المستثمرين، وقبل كلّ ذلك؛ إعادة هيكلة الشراكات الإستراتيجية غير المتوازنة.

الهند تبدو متفائلة في إمكانية الحفاظ على زخم النمو الاقتصادي، رغم استمرار التحديات التقليدية، وهي محقّة في هذا التفاؤل إلى حدٍّ بعيد، وبالطبع لا يمكن تجاهل أثر قضية كشمير، ومخاطر الإرهاب، أو حتى الخلافات مع باكستان والصين في عرقلة الصعود الهندي.

اقرأ أيضاً: خطاب ترامب ومواجهة العولمة

تركيا تنقصها الواقعية في طموحاتها السياسية؛ فهي لا تحظى بدور أساسي في النظام العالمي، واكتشافها حدود قوتها الاقتصادية والدبلوماسية والعسكرية بعد "الربيع العربي"، مرتبط بتردّي الحالة العربية لا قوة النموذج التركي، ولعلّ الملف السوري يمثل اختباراً قاسياً لهذه الحقائق، كما يرتبط جزء مهمّ من قوة تركيا بقيادة أردوغان وقدرته على استخدام بعض أوراق الضغط والمساومة.

اقرأ أيضاً: هل يخصخص ترامب الحرب في أفغانستان؟

أما إيران؛ فما تزال تعوم في "خرافة القوة"، وقد خانت الحكمة الفارسية خامنئي، فلا أسس اقتصادية تدعم محاولات التوسع الإيرانية في المنطقة، كما أنّ تجاوز مُحددات وعناصر القوة الموضوعية خطأ جسيم، مثل ذلك ينطبق أيضاً على الحالة القطرية؛ التي تجاهلت عناصر حاسمة مثل: الجغرافيا، والعامل الإنساني، في محاولاتها ممارسة دور غير متناسب.

أين العرب في هذه الخريطة؟

العالم العربي لا يعاني من إشكالات في فهم القوة وتحولاتها في عالم اليوم، فلا وقت في شرقنا المحترق للفهم! النار تحتاج مزيداً من الحطب، والمتبرّعون لإذكائها كثيرون، ولعلّ الإمارات تعدُّ استثناء، ربّما، من حالة التردي العام في المنطقة العربية، وتتحدث الإمارات بلغة مختلفة، وتدافع عن نموذجٍ، تجادل بأنّه قائم على القوة الذكية، ويهدف إلى حماية الاستقرار، ودعم التنمية والإصلاحات، لكنها تستدرك؛ بأنّ الاستقرار الذي تدعو إليه لا يعني الحفاظ على الوضع الراهن، أو مقاومة التغيير؛ بل منحه المناخ الطبيعي والهادئ، وتتشارك أبوظبي الكثير من هذه القيم مع دول الاعتدال العربي؛ من بينها السعودية والأردن.

اقرأ أيضاً: عروبة الإمارات.. ومنصّة مدرسة

بينما ما تزال معظم الدول العربية في طور البحث عن الدولة، ومعظمها يعاني مؤشرات الدول الرخوة والفاشلة، وتبدو معاندة التغيير سمة عامّة في المنطقة.

وفي ظلّ حالة الفوضى القائمة، يتزايد الحديث عن تقارب إستراتيجي عربي-إسرائيلي، ينطلق من رؤية مشتركة للتهديدات الأمنية؛ إيران والإرهاب، وتسويق مثل هذا الطرح يرتبط عادة بأطروحات مبهمة لحلّ النزاع الفلسطيني-الإسرائيلي؛ أحاديث وتسريبات مجهولة الهوية حول "صفقة قرن"، وربما لا يسعف الحال حتى بـ "صفعة قرن".


آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية