منى الشيمي من العزل الصحي: الكتابة من وحي الألم

منى الشيمي من العزل الصحي: الكتابة من وحي الألم


06/04/2020

ظنّت الشيمي، وهي في الخمسين من عمرها، أنّ الحياة اكتفت منها، وأنّ زواجها قبل عامين من حبيب عشقها من حروفها قبل أن يلقاها هو المنتهى، يكفي ألم أيها العالم، غير أنّ الإجابة جاءت أسرع مما تتوقع، في عزل مدينتها بالكامل، بسبب فيروس كورونا، مدينة ينتظر جميع سكانها الموت في أي لحظة، أو الحياة من جديد، ولأنّ ما عاشته الشيمي ازدادت معه صلابتها فقد اختارت الحياة، وبدأت في كتابة خطابات يومية إلى زوجها، الذي تفصله عنها مئات الكيلومترات، بين الغردقة مدينة العزل، والقاهرة مدينة الحبيب، تحكي له كل شيء، تبدأ بفلسفة العالم في التعامل مع فيروس كورونا، وتنتهى بمعاتبته الدائمة لها في أنها لا تحسن غسيل الأطباق في المطبخ، لذلك ينوب عنها دوماً في غسلها!

رحلة من الألم ألهمت الشيمي الكتابة، فكان السبيل لامرأة من صعيد مصر، لا تملك أبسط الحقوق في الحياة

منذ سنوات تركت منى الشيمي محافظة قنا، التي ولدت بها، في زيارة لأخيها بمدينة الغردقة، طالت الزيارة ومن ساعتها لم ترجع، حتى ملابسها تركتها، لا تود أن تتذكر ما كان، لكنها كتبته في روايتها "بحجم حبة عنب" التي استوحت قصتها من جزء صغير من رحلتها الطويلة مع الوجع.
رحلة من الألم ألهمت الشيمي الكتابة، فكان السبيل لامرأة من صعيد مصر، لا تملك أبسط الحقوق في الحياة مثل كثيرات من فتيات الجنوب، وبعد سنوات من البوح ترشحت رواية الشيمي للقائمة الطويلة للجائزة العالمية للرواية العربية، هنا انتبه الجميع في مصر، ودار السؤال دورته باحثاً عن ماهية تلك المرأة، وكانت الإجابة فيما كتبت الشيمي من أعمال روائية وقصصية، تحكي رحلتها كفتاة جنوبية مع الألم.

استوحت الشيمي روايتها من رحلتها الطويلة مع الوجع
سنوات من الغياب
بعد سنوات من الغياب تقرر الشيمي نقل حياتها بالكامل إلى القاهرة، فقد وجدت عشقها في صحفي مصري بجريدة الأهرام، قرأ روايتها فهام بها قبل رؤيتها، والتقيا فكان زواجهما، جزاء سنوات الوحدة لكليهما، رغبة دفعتها للعودة إلى مدينة الغردقة بعد عامين من تركها، لإنهاء أوراق حكومية متعلقة بمسألة النقل، أيام قليلة مرت قبل تفشي الوباء في المدينة السياحية، فيروس كورونا الذي أرهق العالم سجل حالة الوفاة الأولى في مصر بمدينة الغردقة، ترك مشرق مصر ومغربها ليبدأ في جوار الشيمي، في تلك اللحظة قررت الحكومة المصرية عزل المدينة بالكامل، استقبلت الشيمي الخبر بهدوء شديد، الألم مسألة اعتادت المرأة الجنوبية على مجابهته طيلة عقود كثيرة، الألم هو الروح التي ألهمت الشيمي الكتابة، وكان شيئاً متوقعاً أن تبدأ الشيمي بعد ساعات من العزل سرد يومياتها مع انتشار وباء كورونا، يوميات تنشرها على صفحتها الشخصية بموقع التواصل الإجتماعي فيسبوك، تخاطب من خلالها زوجها، الكاتب الصحفي أسامة الرحيمي، رسائل عديدة بعنوان موحد، "محاولات للتغلب على التوتر والخوف"، ربما تعيد من جديد قراءة حياتها التي كانت، قراءة أكثر نضجاً عن تلك التي سجلتها في روايتها الأشهر "بحجم حبة عنب".

وجدت الشيمي عشقها في صحفي مصري بجريدة الأهرام، قرأ روايتها فهام بها قبل رؤيتها، والتقيا فكان زواجهما

الشيمي أشارت، في حوار منشور بجريدة "الوفد" المصرية، مع الكاتبة الصحفية نهلة النمر: "لست مع مصطلح الاعتراف في هذه الرواية، لأنني بعد مرور هذه السنوات على صدورها، يمكنني أن أعترف بأشياء مختلفة تماماً، أعترف أنني عندما كتبتها لم أكن أملك الحقيقة، وأن بعض تصوراتي عن الأشياء والأشخاص فيها كانت ناقصة، وأنني لو كتبتها الآن ستكون مختلفة إلى حد كبير، ربما بمزيد من الاعتراف، لذلك لا يمكنني أن أوافق على اعتبار "بحجم حبة العنب" سيرة ذاتية لي؛ لأن الوقت أثبت لي أنني كنت أمتلك أنصاف الحقائق فقط لحظة كتابتها، كنت أمتلك رؤية تخصني وحدي، الآخرون غير مسؤولين عنها".
امرأة بعد الخمسين

منى الشيمي مع زوجها الصحافي المصري أسامة الرحيمي
انتبهت الشيمي في رسالتها الثالثة للزوج، الذي تفصلها عنه مئات الكيلومترات، أنّها جاوزت الخمسين، وتلك مسألة يقول الكثيرون من حولها إنّها خطر عليها، فالكبار مهددون بالوباء، حقيقة تنبه لها ابناها محمد وبسمة: "غادر محمد البيت ليقيم مع زميل له في العمل. قال إنه يخرج إلى العالم الموبوء، ورجوعه كل يوم يعرضني للخطر، لأنني امرأة عجوز تجاوزت الخمسين! بسمة رأت أنّ تصرفه حكيم، لأنني امرأة عجوز تجاوزت الخمسين! مرة واحدة تكفي! كيف يصبح الأبناء قساة القلوب، ويذكرون أمهاتهم بسنهن الحقيقي هكذا من دون رحمة!".

اقرأ أيضاً: فيلم "قصة زواج": هل يموت الحب؟
تحكي الشيمي دوماً في أحاديثها الصحفية عن رحلتها مع العالم في جنوب مصر، الذي يرى المرأة كائناً من درجة تابعة للرجل، حكايات تبدأ وتنتهي بالحب، فهو العون دوماً على إكمال المسيرة.
البداية كانت قصة حب نشأت في الجامعة لم تكتمل، لأن والدة الحبيب رأتها فتاة متحررة أكثر من اللازم لفتاة جنوبية، ورحلة زواج كانت محاولة لمداواة الجرح لكنه لم يندمل؛ لأنّ الزوج هو أيضاً كان مشغولاً بقلب آخر لم يستطع الفوز به، فكان زواجهما صورة أمام المجتمع، يخفيان خلفها شوقاً ألمّ بكليهما. وبعد سنوات من السبات المجتمعي جاءتها الإجابة في الحروف. عند سؤالها عن لحظة الكتابة تذكرت شخصاً شجعها على التقدم لوظيفة بالقناة الثامنة المصرية، والتي كانت تبحت عن معد لحلقات أحد برامجها: "وأنا بكتب أفكار البرامج حسيت إني بعمل حاجة تسعدني".

وجدت الشيمي عشقها في صحفي مصري بجريدة الأهرام، قرأ روايتها فهام بها قبل رؤيتها، والتقيا فكان زواجهما

تجربة العمل معدة في التلفزيون لم تكتمل، لكن رحلتها مع الكتابة قد بدأت، فاتجهت لكتابة القصة القصيرة، وبعد نصيحة من الأصدقاء بدأت في إرسال خطاباتها إلى صحف القاهرة محملة بما كتبته، ثم قرأت أعمالها منشورة، ثم هاتفها المعارف والأهل في نجع حمادي، معبرين عن دهشتهم طارحين سؤالاً مهماً: "إنت اللي بتكتبي القصص دي؟". ردها بكلمة "أيوة أنا" كان اللحظة الأولى منذ سنوات طويلة التي تشعر فيها أنها أصبحت ذات كيان، يستحق أن تسبق تعريفه بكلمة أنا، ولما سألها زوجها الراحل ردت بنفس الرد: "أيوة أنا". كلمتان من سبعة حروف، لكنها حروف خرجت من شفتيها مبتسمة، "أيوة أنا".
الكتابة حرب صامتة
عن فعل الكتابة تحكي الشيمي:"الكتابة بالنسبة ليا كانت حرب صامتة؛ لأنّ بها كنت بنتقم من كل اللي تجاهلوني، الست في الصعيد مهمشة، فكون إن إسمي يطلع في الجرنال دي حاجة ليها صدى عندنا".
في خلفية الحكاية كان صحفي من قنا يتعجب ذلك الصعود لفتاة يقولون إنها تكتب كتابة جميلة؛ لأنّ المرأة في الصعيد لا يجب أن تفعل شيئاً سوى الجلوس تحت قدمي الرجل، فقرر الصحفي الجنوبي أن يكتب مقالاً نشر على صفحات جريدة القاهرة منذ سنوات، سأل فيه سؤالاً حمل خبثاً حين سأل، لماذا تنشر الصحف قصصاً لفتاة؟ كأن الفتاة لا يحق لها أن تبدع، وإن أبدعت فمن المؤكد هناك مقابل، المقال طال كل كاتبات قنا في تلك الفترة، فتوقفن جميعاً عن الكتابة بضغوط من الأهل، وتوقفت منى الشيمي أيضاً، لكنه توقف لم يطل، عادت لتبحث عن نفسها من جديد، ضاربة بعرض الحائط أضغاث أحلام رجال الجنوب.

اقرأ أيضاً: رواية "حصن الزيدي": عودة الإمامة برداء جمهوري!
لكنها رغم ذلك لا تخجل أن تعبر عن حبها إلى قنا، فتقول عن أرضها: "فيه حاجة كده بتخص قنا، أرض قنا صلبة، حتى إن نهر النيل التف حولها ومقدرش ينحتها نهائي، وناسها كده في منتها الصلابة".
ربما كانت رؤيتها عن قنا في نظر البعض مجرد كلمات، لكن ألم الحروف أكدته ما حدث مع زوجها السابق ووليدها ذي السبعة عشرة ربيعاً. إذ مرض الأب بالكبد، وأصاب الابن سرطاناً في الدماغ، فكانت صلبة تداويهم، دون أن تسقط على مدار سنوات، تحكي عن تلك الفترة: "كنت أنزل من شقتي في الدور الرابع مسندة جوزي على كتفي أروح بيه المستشفى عشان العلاج، أرجع بيه وبعد دقايق أنزل بابني هو كمان، كنت لما بعدي في الشارع كانت الناس بتقف، محدش كان يقدر يقعد وأنا ماشية، الكل مستغرب، لكن محدش فكر مرة يمد إيده ويساعد".

اقرأ أيضاً: كمامات ومعقمات محلية الصنع تتحدى كورونا في فلسطين
بوفاة الابن لحقه الأب في أقل من أسبوع، غادرت الشيمي قنا بعد أن تركت خلفها كل شيء، واختارت العزلة في مدينة الغردقة، وبعد سنوات من عزلتها الاختيارية وجدت الحب، وعندما قررت الانتقال إلى القاهرة جوار الحبيب فاجأتها الدنيا بحكاية جديدة، تسطرها في رسائلها الآن، غير أنّ الحكاية الأجمل هو ما كان من الحبيب، عندما أدرك خطورة المسألة، فقرر دون أدنى حسابات ترك القاهرة والسفر إلى زوجته في عزلها الصحي، كي يكون بجوارها، ورغم الجوار استمرت رسائل الشيمي إليه، تعيد من خلالها رؤيتها من جديد للعالم، لكنها رؤية أكثر نضجاً، بعين الكاتبة العاشقة!



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات
الصفحة الرئيسية