من التنظيم الخاص إلى حسم.. الظاهرة الجهادية قلق مصر المزمن

الإخوان المسلمون

من التنظيم الخاص إلى حسم.. الظاهرة الجهادية قلق مصر المزمن


18/02/2020

"الماضي لا يموت أبداً"، تلك هي القاعدة التي تحكم البنية التحتية للسياسة في مصر، وهي لا تنطبق على شيء كما تنطبق على الاستمرارية التاريخية لجماعة الإخوان المسلمين، بكل ما صحبته من انغلاق وعنف وتطرف؛ وإذا ما كان هناك مشكلة يمثل فيها الماضي الحاكم والمهيمن فهي استمرارية جماعة الإخوان التاريخية.

جماعة الإخوان المسلمين واسعة وتضم عدداً من الأعضاء وهم ليسوا جميعاً على مستوى واحد من الدرجة التنظيمية

في مواجهة الإهمال الاعتباطي لماضي الإسلاموية، والذي أفرز حاضرها المُربك، نظّم مركز "دال" بالقاهرة، الأربعاء الماضي، ندوة لدراسة أوجه التماثل والاختلاف بين أشكال العنف الديني في الأربعينيات، وبين تجلّياته في العقد الثاني من الألفية الثالثة؛ سعياً لبلورة مقاربة مختلفة تستوعب دروس الماضي الجهادي وتفكّك بنية حاضره؛ فإذا كانت الحركات العنفية حديثة النشأة، لم تبدأ من الصفر فإنّ فهمها وامتلاكها العلمي ينبغي أن يكون على المستوى نفسه.
لقد نجحت الدولة المصرية في كبح الظاهرة الجهادية حتى انحسرت على نحو ملموس؛ حيث تراجع عدد الهجمات الإرهابية في سيناء، وتضاءلت بشدة في غيرها من المحافظات، كما استطاعت الحكومة وأد حركات جهادية كان من المتوقع أن تتمدد وتزدهر عقب 30 حزيران (يونيو) 2013، مثل حركة "حسم" الإخوانية؛ إلا أنّ مخاطر السياسة العنيفة لم تتبدد بشكل كلي؛ فمع استمرار مناخ التشنج السياسي والتهميش الاقتصادي والقمع، سيكون هناك من يرى بعض الجاذبية في هؤلاء الذين يتحدّون أسس وشرعية الدولة القائمة ويخططون للانتقام السياسي ممّن ساهموا في إسقاط حكم الجماعة، وهو إغراء خطير يجب مواجهته بكل السُّبُل الممكنة.

التاريخ هو المحك

تحدّث مقُدّم الندوة؛ الباحث رامي شفيق، عن ضرورة صُنع مقاربة تاريخية للعلاقة بين التنظيم الخاص وحركة "حسم"؛ فمن الصعب، بحسبه، تقديم قراءة موضوعية ومنهجية لحدثٍ ما دون ربطه بالسياق التاريخي والأحداث التي سبقته.
وأشار شفيق إلى أنّ النقطة الأهم التي ينبغي الانتباه إليها عند الحديث عن جماعة الإخوان المسلمين، هي عدم التعامل معها باعتبارها نسقاً واحداً عبر هذه الأعوام الطويلة، دون ملاحظة التغييرات التي مرت بها الجماعة؛ فهي جماعة واسعة تضم عدداً من الأعضاء، ليسوا جميعاً على مستوى واحد من الدرجة التنظيمية؛ فهناك الأخ المساعد والأخ المنتسب والأخ العامل، ومن مرتبة الأخ العامل فقط ينطلق الأخ الجهادي.

اقرأ أيضاً: كيف رد طه حسين وآخرون على الإخوان؟
والنزوع الجهادي لدى أعضاء الجماعة، إحدى القضايا الحاسمة في فكر ومناقشات الإخوان منذ رسالة المؤتمر الخامس التي قررها المؤسس حسن البنا، وهي، بحسب تعبير شفيق؛ "نقطة مفصلية في عمر الجماعة، ليس على مستوى المضمون فقط، بل على جملة التغييرات السياسية التي عصفت بمصر في ذلك التوقيت، والتي أعطت للمؤتمر الخامس زخمه وأثره في مسيرة الجماعة؛ ففي هذه الفترة وقعت مصر معاهدة عام 1936 مع بريطانيا".
ولعل الأثر السياسي الأبرز لهذه المعاهدة هو ضمور الجاذبية السياسية لحزب الوفد المصري وللملك فاروق في آن، وبداية الصعود الصاروخي لجماعة الإخوان؛ ممّا دفع حسن البنا إلى الشروع في مرحلة جديدة في حياة التنظيم، تعتمد القوة المسلحة في التغيير والوصول للسلطة.

أدّت معاهدة مصر مع بريطانيا عام 1936 إلى ضمور الجاذبية السياسية لحزب الوفد وللملك فاروق وبداية صعود جماعة الإخوان

ونسج المُحاضر؛ الدكتور عمرو الشوبكي، أطروحته، على المنوال التاريخي نفسه؛ فألح على أهمية عدم فصل النص / الظاهرة، عن السياق التاريخي الذي يتحركان في إطاره؛ فأي حركة سياسية بشكل عام، وحركات الإسلام السياسي بشكل خاص، لا يمكنها الإفلات من سطوة سياقها الاجتماعي والسياسي؛ فلا يمكن تحليل النصوص / الظواهر، سواء كانت دينية أو سياسية، بمعزل عن السياق الاجتماعي، وهذا يمكن أن يساعدنا في فهم سبب استدعاء كتابات ابن تيمية في بعض اللحظات التاريخية وخفوت استغلالها في لحظات أخرى.
وتأسيساً على هذه القاعدة المنهجية، انتقل الشوبكي إلى سؤال مشروع حول اللجوء لخيار العنف لدى الجماعة، فقد لجأت الجماعة لهذا الخيار في العهد الملكي وفي العهود الجمهورية جميعهاً، وبالتالي يجب إعادة النظر في سردية الجماعة التي تُحمّل مسؤولية انتهاجها العنف للأنظمة السلطوية؛ فقد طال حزب الوفد، على سبيل المثال، قمع الملك وقمع عبد الناصر وإقصاء السادات لكنه لم يمر بمواجهات مسلحة وعنيفة مع الدولة.

جانب من الندوة
وعلى سبيل المحاججة، تساءل الشوبكي؛ "إذا كان تبرير الإخوان للعنف بالقمع الذي طالهم في عهد عبد الناصر صحيحاً، فلماذا اشتبكت الجماعة بعنف مع كل النظم السياسية المتعاقبة والمتباينة التي مرت على مصر؟"، لافتاً إلى أنّ هذا يدل على خلل ما في صيغة جماعة الإخوان المسلمين نفسها.

معضلة الديني والسياسي

يُرجع الشوبكي الخلل في صيغة الجماعة إلى إشكالية مركزية تتمحور حول دخول جماعة دينية إلى المجال السياسي والعام، طارحاً إستراتيجية "الدمج الآمن" لحل هذه الإشكالية، التي طالما حدّت من تطور مصر السياسي، وفكرة هذه الإستراتيجية، كما شرحها الشوبكي، قائمة على افتراض إمكانية دمج الجماعات الدينية في العملية السياسية، لكن بشرط فصل الجماعة الدينية عن الحزب السياسي.

لا يمكن تحليل النصوص والظواهر سواء كانت دينية أو سياسية بمعزل عن السياق الاجتماعي والسياسي لها

وقد أُثيرت أطروحة الشوبكي حول الفصل بين العمل السياسي والدعوي (الجماعة / الحزب) على نطاق واسع منذ سقوط حسني مبارك، حيث ظلت محل نقاشات عاصفة ومحمومة من قِبل أنصار وخصوم الإسلام السياسي، على حدٍ سواء، فبرّرت الجماعة الجمع بين السياسة والدعوة؛ بأنّ البيئة السياسية العدائية التي انخرطت بها على مدار عقود، أجبرتها على العمل وفق هذه الصيغة المُلغّمة؛ إذ وضعت الأولوية لصراع البقاء، ولم تكن مستعدة لخطر تفتيت بنيتها بالفصل بين الدعوة والعمل السياسي، إلا أنّها لم تلتزم بهذا الفصل الضروري سوى على نحو شكلي ومخادع، حتى بعد أن أصبحت لاعباً سياسياً شرعياً ورئيسياً.
وكان الشوبكي، من أبرز الداعين لهذا الفصل الحتمي بين الأنشطة الدعوية وبين الحزب السياسي، الذي عليه الالتزام بالقواعد المدنية الدستورية، وطالما شدّد على ضرورة عدم السماح لجماعة دينية خارج التقاليد المدنية للدولة المصرية بوضع القواعد الدستورية والقانونية للنظام السياسي، على عكس ما حدث؛ فالذين وصلوا للسلطة بعد الثورة هم الجماعة الدينية وليس الحزب السياسي، حيث وضعت الأولى دستوراً يفتح الباب فعلاً لدولة دينية.
ويقارن الشوبكي دخول الجماعة إلى المجال السياسي بعد الثورة، بلحظة دخولها إلى المجال العام؛ حيث فعلت الأمرين بشروطها كجماعة دينية تهدف إلى تغيير المجتمع وقيمه، وهو ما أربك المشهد السياسي في الحالتين.

ليست لحظةً عابرة

منذ تشكّل الجماعة عام 1928 وحتى المؤتمر الخامس عام 1937، ظهر الإخوان كجماعة دعوية مسالمة، وتحدثت رسائل حسن البنا عن هدف دعوي بالأساس يسعى إلى تغيير قيم الأفراد وسلوكياتهم، معتبراً أنّه بتغيير 90 بالمئة من أفراد المجتمع سيتغير النظام السياسي تلقائياً، وبالتالي ليست هناك حاجة إلى ثورة أو تغيير جذري، أو حتى تحويل الجماعة إلى حزب، وقد تمّ الانقلاب لاحقاً على هذا الطابع المحافظ الذي صبغ الجماعة منذ نشأتها، حيث تحاول الجماعة اليوم إظهار نفسها كحركة ثورية، في تناقض مع أفكارها الأولى والأصيلة التي ترفض التغيير الثوري وفكرة الثورة في حد ذاتها.

طال حزب الوفد قمع الملك وقمع عبد الناصر وإقصاء السادات لكنه لم يمر بمواجهات مسلحة وعنيفة مع الدولة

وبعكس ريتشارد ميتشل، الذي ردّ فكرة التنظيم الخاص إلى النزعة الجهادية المستعرة لدى حسن البنا، يعتبر الشوبكي أنّ البنية التنظيمية متعددة المستويات، والبنية العقائدية متنوعة الدرجات لتنظيم جماعة الإخوان المسلمين؛ هما اللتان أفرزتا فكرة التنظيم السري أو التنظيم الخاص، وبالنسبة إليه، فبإمكان البنية نفسها إلقاء المزيد من الضوء على تجربة "حسم" في الفترة الأخيرة؛ فلا توجد جماعة سياسية أو دينية تشتمل على هذا التعدد ولا تنتج تنظيماً عنيفاً.
وبحسب أدبيات الجماعة، كما يقول الشوبكي، فإنّ المستويات التنظيمية تشمل؛ الأخ المساعد، ثم الانضمام الأخوي أو الأخ المنتسب، ثم الأخ العامل، الذي يقضي عامين أو 3 مع الجماعة حتّى تتم تزكيته، ويدفع اشتراك 7 بالمئة من دخله لصالح الجماعة، والمستوى الأخير هو الانضمام الجهادي، ولا يصل إليه إلا من كان عضواً عاملاً لمدة 4 أعوام على الأقل.

اقرأ أيضاً: كيف يعمل الإخوان على أسلمة أوروبا؟
وهناك عناصر تكوينية في أدبيات الجماعة، لإعداد الكادر المجاهد؛ أهمها:
- دراسة عميقة للجهاد في الإسلام
- التدريب على الأعمال الشاقة
- التدريب على توزيع المنشورات
- التدريب على التخاطب بالشيفرة
- التدريب على استعمال الأسلحة
- المبايعة على السمع والطاعة
- كتمان السر
ووفقاً لذلك، اضطرت جماعة الإخوان المسلمين إلى تبني خطابين؛ أحدهما مُعلن حول الدعوة والإصلاح ورفض الثورة ورفض الحياة الحزبية، وآخر موازي خفي عنيف حول الجهاد والتضحية، والذي أسفر عن اغتيال النقراشي والقاضي الخزندار ومحاولة اغتيال عبد الناصر.

وفي خضم عملية الاستقصاء التي أجراها الشوبكي، تبيّن أنه مع التحولات التي مرت بها البلد، وبالتحديد في عهد الرئيس السادات ومجيء عمر التلمساني كمرشد للجماعة، خفتت ممارسة العنف وتبنت الجماعة خطاباً سلمياً منفتحاً يتناسب مع مرحلة الاستضعاف، قائم على المودة وقبول الآخر، وهو نقيض خطاب مرحلة التمكين الذي ظهر مع وصولها إلى السلطة.

يرجع الخلل في صيغة الجماعة إلى إشكالية مركزية تتمحور حول دخول جماعة دينية إلى المجال السياسي والمجال العام

وفي ملاحظة لامعة، يشير الشوبكي إلى أنّ فكرة العنف لم تخفت في أذهان قادة الجماعة منذ السبعينيات وحتّى سقوط نظام مبارك، رغم انتفاء ممارسة العنف عن سياسة الجماعة؛ حيث ظلت كامنة داخل ذهن اتجاه محافظ (القطبيين)، والذي حوّل الفكرة إلى مشروع كامل يقوم على افتراض أنّ الإخوان شيء والمجتمع المصري شيء آخر، ويُمثّل تعبير "الاستعلاء الإيماني"، على قسوته، أفضل تعبير عن هذا العنف الكامن.
وبحسب الشوبكي، دخلت فكرة العنف مرحلة الكمون، بسبب تغيّر السياق السياسي؛ فقد دخل الإخوان المشهد العام كفاعل سياسي منذ عهد السادات، وحين أصبحت الجماعة منبوذة منه عام 2013، تبنت رواية سياسية مناقضة للرواية السائدة، واستدعى قسم من الجماعة فكرة العنف، وهنا تبلورت حركة "حسم" التي انطلقت عام 2014 وقامت بعمليات نوعية متعددة ضد الجيش والشرطة.
ويرصد الباحث، التشابه الذي يجمع "حسم" بالتنظيم الخاص، ويؤكد على الاستمرارية التاريخية لفكرة العنف داخل بناء الجماعة العقائدي والتنظيمي؛ حيث إنّها تواجه العنف ضد النظام وحده (وليس على طريقة داعش التي تستهدف الكل، وذلك لأنّ الحركة تتبنى رواية انتقام سياسي مما حدث في ٣ تموز)؛ أما الفارق بين الظاهرتين فيكمن في أنّ التنظيم لم يكن قائماً على فكرة الثأر والانتقام بل على مفهوم "الجهاد"، وأنّ مستوى التكوين العقائدي في التنظيم الذي أسسه البنا، أعلى بما لا يقاس من حالة "حسم" التي تتبنى خطاباً سياسياً يشبه خطاب "الربيع العربي" مع تلوينه بمفردات وتعبيرات إخوانية، وتجاهل أدبيات الجماعة المحافظة ومدها بخطاب ثوري، لطالما عارضته في مسيرتها الطويلة الملتبسة.

الصفحة الرئيسية