من كواليس الحرب المنسية بين مصر و"إسرائيل"

من كواليس الحرب المنسية بين مصر و"إسرائيل"


20/02/2019

بعد نكبة فلسطين، عام 1948، عرف الصراع بين العرب و"إسرائيل" ما يمكن أن نطلق عليه "الحرب الخاطفة"؛ والتي يجري حسم الأمور فيها خلال الساعات أو الأيام الأولى منها، على أقصى تقدير، إلا أنّ الحرب التي بدأت يوم الأحد 8 أيلول (سبتمبر) 1968، كانت استثناء، وربما تكون الوحيدة، في تاريخ هذا الصراع الممتد لأكثر من نصف قرن.

في آذار 1969؛ بدأت "مرحلة الردع" امتدت على طول خطوط المواجهة لتدمير أكبر قدر ممكن من قدرات القوات الإسرائيلية

كانت المنطقة على موعد مع واحدة من أطول معاركها؛ حيث سُمعت للمرة الأولى منذ هزيمة حزيران (يونيو) 1967، أصوات المدافع المصرية، وهي تدك المواقع الإسرائيلية، في قصف تركز على القطاع الشمالي من قناة السويس بشكل متواصل، ما أحدث خسائر فادحة في الأفراد والمعدات على الجانب الإسرائيلي، الذي ردّ بقصف مدينة السويس، وامتد القصف المتبادل على مساحة مئة كيلومتر، على طول خط القناة، واعترف العسكري والسياسي الإسرائيلي موشي ديان أنّ خسائرهم في هذا اليوم بلغت نحو 10 قتلى و18 جريحاً . 

اقرأ أيضاً: "البرج".. فيلم كرتون نرويجي يجسد النكبة الفلسطينية

بعد أسبوعين فقط؛ عاودت المدفعية المصرية الثقيلة عملها على طول الجبهة، لـ9 ساعات كاملة، كما عبرت قوة من الكوماندوز تحت جنح الظلام، واشتبكت مع دورية إسرائيلية، قبل أن تنسحب مخلّفةً وراءها قدراً هائلاً من الدمار.

ويؤكد ديان أنّ الهجوم المصري خلف وراءه 15 قتيلاً، و34 جريحاً، وأنه زار في اليوم التالي الجبهة في منطقة الاستحكامات "الكوبرا"؛ حيث سقطت معظم القذائف، وكانت -على حدّ وصفه- تبدو وكأنّ إعصاراً مر بها.

اقرأ أيضاً: الحياة الثقافية في فلسطين قبل النكبة... شواهد تكذب الدعاية الصهيونية

استمرت الغارات المصرية ضد القوات الإسرائيلية، وتعددت عمليات التسلل خلف الخطوط، وأعمال القنص وأسر الضباط والجنود، وفي المقابل قامت "إسرائيل" بعمليات مضادة، وشنّت غارات كثيفة على مدن القناة، في معارك تميزت بالعنف الشديد والعنف المضاد.
في تلك الآونة؛ اشتد سباق التسلح بصفقات أمريكية لدولة الاحتلال، وصفقات سوفيتية لمصر، في واحدة من أشرس جولات الصراع العربي الإسرائيلي، أوجدت متغيراً جديداً في المعادلة، نتج عنه تحريك للقضية التي جمّدتها التحركات السياسية الأمريكية عقب حزيران (يونيو) 1967؛ حيث تحركت واشنطن بشكل مكثف لوقف إطلاق النار، وإعادة ترتيب الأمور لوضع أسس جديدة للحل السياسي.
مرحلة الردع تفتح ملفاً جديداً في الصراع
في 8 آذار (مارس) 1969؛ بدأت مرحلة جديدة، عرفت بمرحلة الردع، امتدت على طول خطوط المواجهة، بهدف تدمير واستنزاف أكبر قدر ممكن من قدرات القوات الإسرائيلية؛ حيث صبت المدفعية المصرية قذائفها على المواقع الإسرائيلية لمدة 5 ساعات متواصلة، فدمرت نحو 49 دشمة في خط بارليف، وأسكتت 20 بطارية مدفعية، وكان أبرز الخسائر المصرية سقوط رئيس أركان حرب القوات المسلحة الفريق عبدالمنعم رياض، على المواقع الأمامية للجبهة غرب القناة.
وفي ردّ انتقامي تواصلت الغارات المصرية بشكل مكثف لم يسبق له مثيل، وتمكنت إحدى مجموعات الصاعقة، يومي 21 و22 آذار (مارس) من العام نفسه، من قصف إحدى النقاط الإسرائيلية الحصينة في عيون موسى، وتفجير مخازن الذخيرة والوقود بالموقع، وأتمت المجموعة مهمتها بنجاح، مخلفة وراءها خسائر كبيرة في صفوف القوات الإسرائيلية.

اقرأ أيضاً: في ذكرى النكبة: كيف ينظر الجيل الحالي إلى قضية فلسطين؟
من جانبها تحركت واشنطن بشكل أكثر نشاطاً؛ ففي 27 آذار)مارس) 1969، أكد وزير الخارجية الأمريكي وليام روجرز أمام لجنة العلاقات الخارجية بالكونغرس، أنّ الوصول إلى معاهدة سلام أمر صعب للغاية، وأنّ الوصول إلى سلام تعاقدي بين العرب و"إسرائيل" هو الحل الأنسب من وجهة نظره.
وقد لخّص روجرز متطلبات التسوية في عدة نقاط تتلخص بحرية الملاحة، وأن يكون أي تغيير في حدود ما قبل الخامس من حزيران (يونيو) 1967، في إطار ما يتطلبه الأمن المتبادل، بعيداً عن فرض الأمر الواقع عن طرق ما أسماه "ثقل الغزو"، وهو ما يعني نجاح الضغط العسكري الذي مارسته القاهرة.

اقرأ أيضاً: أين تقع "نكبة" 48؟
ومع الخط السياسي المفتوح صعّدت مصر وتيرة الحرب، فارتفعت نسبة قصف المدفعية الثقيلة للمواقع الإسرائيلية من (7.2%)، في شهر آذار) مارس)، إلى (35.6%) في شهر نيسان  )أبريل)، ثم إلى نسبة (77%) في شهر حزيران )يونيو)، وتكبدت القوات الإسرائيلية خلال تلك الأشهر خسائر فادحة في الأفراد، بلغت نحو 150 قتيلاً، فضلاً عن الدمار في المواقع والمعدات.
وفي تلك الظروف عرض مساعد وزير الخارجية الأمريكي، جوزيف سيسكو، على عبدالناصر، في 15 تموز (يوليو) 1969، اقتراحاً بأن تنسحب "إسرائيل" من الأراضي التي تحتلها، ولكن ليس إلى حدود الرابع من حزيران) يونيو) 1967، وإنما إلى مواقع جديدة يتم الاتفاق عليها، مع نزع سلاح جميع المناطق التي تجلو عنها "إسرائيل"، على أن تتواجد قوات دولية في شرم الشيخ، مع تدويل المضايق، وتجريد قطاع غزة من السلاح، وحرية الملاحة في القناة، وإنهاء حالة الحرب، والتنسيق لحلّ مشكلة اللاجئين، مع وعد بإعادتهم على مراحل، وهو ما رفضته مصر.
تحوّل القتال إلى العمق المصري
قررت "إسرائيل" القيام بغارات مكثفة على العمق المصري، وتوغل الطيران الإسرائيلي إلى مسافة 50 ميلاً خلف الخطوط؛ حيث شنّ غارات عنيفة، وفي المقابل؛ ازدادت هجمات القوات المصرية شراسة، وتزايدت عمليات العبور والتسلل.
ثم حدث تحول كبير، حين قرر سلاح الجو المصري الاشتراك في المعارك، فتعددت الغارات والكمائن، وكان أبرزها قيام قوة من كتيبة مشاة مصرية، يوم 6 كانون الأول (ديسمبر) 1969، باحتلال إحدى نقاط العدو شرق القناة، وتمسكت بالأرض، لكن وزير الحربية آنذاك أمر بعودة القوة بعد أن قامت بتثبيت العلم المصري؛ لأنّه رأى في ذلك تجاوزاً للغرض المطلوب من العملية.

مع الضغط العسكري استجابت إسرائيل لمبادرة روجرز لوقف إطلاق النار ومنح الحلّ السياسي مساحة مقابل الانسحاب من الأراضي المحتلة

وإزاء العمليات المصرية المتتالية، والخسائر الكبيرة في صفوف القوات الإسرائيلية، والتي بلغت ذروتها في معركة شدوان، كانون الثاني (يناير) 1970، صعدّت "إسرائيل" من غاراتها الجوية في العمق، وحلّقت في 7 كانون الثاني (يناير) 1970 الطائرات الإسرائيلية فوق القاهرة، واخترقت حاجز الصوت، ولم تميز تلك الغارات بين الأهداف المدنية والعسكرية، فقصفت في 22 شباط (فبراير) مصنع أبو زعبل، مما أسفر عن مقتل وجرح قرابة السبعين عاملاً، قبل أن تقصف طائرات الفانتوم، في 8 نيسان (أبريل)، مدرسة بحر البقر الابتدائية، وتقتل نحو 40 طفلاً.

اقرأ أيضاً : كيف ردّت الشاعرة الفلسطينية دارين على حكم حبسها من قبل الاحتلال؟
ومع الضغط العسكري استجابت "إسرائيل" لمبادرة روجرز لوقف إطلاق النار، ومنح الحلّ السياسي مساحة على أساس الانسحاب من الأراضي المحتلة، وقد نجحت قوات الدفاع الجوي قبل ساعات قليلة من سريان اتفاق وقف إطلاق النار، في تجميع الصواريخ إلى مواقع متقدمة غرب القناة دفعة واحدة، وتدعيمها بكتائب إضافية من العمق، كما امتدت مظلة الدفاع الجوي إلى مسافة 20كم شرق القناة، وفي 8 آب (أغسطس) توقف القتال، وانتهت بذلك الحـرب التي استمرت لنحو عامين متصلين.
هل نجحت حرب الاستنزاف؟
يرى البعض، وعلى رأسهم المؤرخ الراحل عبدالعظيم رمضان، أنّ حرب الاستنزاف لم تستهدف المنشآت الإنتاجية الإسرائيلية، وأنّ الاستنزاف العسكري لـ"إسرائيل" كان ضئيلاً، وأنها لم تحقق أيّ نجاح عسكري يذكر؛ بل واستنزفت الاقتصاد المصري، ودمرت مدن القناة، وانتهت بانهيار الدفاع الجوي المصري تماماً، وفتحت سماء البلاد أمام الطائرات الإسرائيلية.

اقرأ أيضاً: BDS.. حركة مقاطعة عالمية تستنفر الاحتلال
وفي الحقيقة؛ فإنّ كلّ تصعيد على الجبهة كان يقابله تحرك مكثف على صعيد القنوات السياسية الدولية، حتى وصل الأمر إلى الحديث بشكل صريح عن الانسحاب من الأراضي المحتلة، بعد أن كان الاقتراب من هذا مستحيلاً قبل استئناف العمليات العسكرية.
أما عن الموقف العسكري، فإنّه مع تفعيل مبادرة روجرز ووقف إطلاق النار، أصبح هناك تجميع دفاع جوي قوي متعدد الأنساق يتكون من صواريخ "سام – 2"، و"سام – 3"، ونوعيات متطورة من المدفعية المضادة للطائرات، تستطيع تغطية أيّة قوات تقوم بعبور القناة، ولمسافة 15-20 كم فوق سيناء.

اقرأ أيضاً: الذكرى السبعون للنكبة: الاحتلال يحتفل في القدس ويرتكب مجزرة في غزّة!
كما احترفت القوات القيام بكل أنواع المناورات في أزمنة قياسية، ونظمت الدفاعات على أساس التكامل المدروس بين الأسلحة المختلفة، ونفذت إجراءات تكتيكية وفنية وتدريبية على أعلى مستوى، وتجمعت لدى القوات المصرية خبرات قتالية لا حد لها، خاصة قوات الدفاع الجوي، وباتت كتائب الصواريخ المصرية، على حدّ تعبير رئيس الوزراء الإسرائيلي آنذاك جولدا مائير، كعشّ الغراب، كلما دمرت أحدها نبتت بدلها أخرى.
ويمكن القول إنّ التفاوض السياسي كان يلزمه تصعيد عسكري، لفرض حقائق بعينها على الأرض، وهو ما حققته حرب الاستنزاف، الأطول زمناً في تاريخ الصراع العربي الإسرائيلي، وإن كانت أكثرها تهميشاً بشكل يطرح جملة من التساؤلات، ربما يجيب عنها التاريخ ذات يوم.



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية