"مُيَاوَمة.. هَايكو عامِل معاصر": مع انفتاح العين في الصّبح تتكدَّس الأوجاع

"مُيَاوَمة.. هَايكو عامِل معاصر": مع انفتاح العين في الصّبح تتكدَّس الأوجاع


22/02/2021

هُنَاكَ تحدٍّ ما، ضمن قائمة طويلة من التحديات، يحاول الكاتب/ الأديب اجتيازه أثناء انشغاله بموضوع أو فكرة يرغب في الكتابة عنها، وهو إيجاد طريقة لإزاحة ستارة "الصورة النمطية" عن تفاصيل الحياة اليومية، والتقاط الأشياء المهملة التي تتهاوى في صمت، وتُدفن تحت طبقات من الصخب اليومي، تِلكَ التفاصيل التي اعتادت العين على عدم رؤيتها، من كثرة رؤيتها، في عالم معاصر تحكمه سطوة التنميط، وسهولة تحويل أيّ حدث آني إلى "تريند" أو مادة للسخرية وللضحك، في محاولة لإخفاء ثقله الجاثم على الروح.

يُصور لنا الكاتب المصري محمد فرج "العامل المعاصر" بوصفه إنساناً ينتظر الحياة، وهو في رحلة شاقة وأبدية للحصول على قوت يومه

ضمن هذا السياق، يأتي كتاب " مُيَاوَمة.. هَايكو عامِل معاصر"، للكاتب المصري محمد فرج، والصادر مؤخراً عن دار المحروسة في القاهرة. كما أنّ الكتاب عابر لأيّ تصنيف (شعر، قصة، رواية)، هو عبارة عن نصوص سردية يمتزج فيها المشهد البصري بالتفاصيل الحسية، يجري من خلالها الإنصات إلى "مونولوج داخلي" ومكثف، ومن العسير استنطاقه، داخل حياة "العامل"، التي هي أشبه بعجلة لا تتوقف، وتكمن صعوبة استنطاق هذا المونولوج باعتباره ليس مونولوجاً لغوياً؛ إذ إنّ العامل قد لا يوجد لديه الوقت للثرثرة مع نفسه، بقدر ما يحوم في عقله مشاهد تأملية عن حياة متخيلة لا تشبه الجحيم الذي يعيش تحت وطأته؛ لذلك يمكن اعتبار ما يحدث داخل عقل العامل بمثابة "المونولوج البصري"، كما تصوّره نصوص محمد فرج. 

التكوين البصري للمشهد

 وتأتي لغة الكاتب في سرده لأشكال وتفاصيل حياة العامل مركبة، بمعنى أنّها محايدة من جهة التكوين البصري للمشهد، وتحمل موقفاً تضامنياً وواضحاً مع "العامل" من جهة أخرى، من دون الوقوع في فخّ الخطاب السنتمنتالي (العاطفي) المبتذل. 

الكاتب المصري محمد فرج

نقرأ في هذا النصّ مثلاً: "مع انفتاح العين في الصَّبح، تتكدَّس بسرعة أوجاع الأمس الَّتي ظنَّ أنه تركها وابتعد عنها أثناء النوم، لكنَّها تحشدُ نفسها مع أوَّل ضوء يدخل العين، كي تذكّر الواحد بضرورة سرعة انقضاء اليوم". 

ونكمل في الفقرة الثانية: "في العمل، يرى نفسه كماكينة عملاقة ينمو عليها الصَّدأ ببطء، يغزو أطرافها، يكمن في مفاصلها. كان يتهاوى وافقًا في نفس المكان، بلا حركة تسقط أجزاءه في هدوء، بلا صخب، فقط صوت ارتطام الأجزاء السَّاقطة يحدث ضجّة مكتومة، بعدها يسود الصَّمت". 

تتحرك النصوص حول شخص "العامل" وعالمه، وما هو عالم العامل؟ يقضي أغلب وقته في مكان العمل، وجزءاً آخر في زحام المواصلات العامة، وساعات قليلة في بيته، التي تتبدّد بسرعة في النوم. 

اقرأ أيضاً: الأديب الجزائري أشرف مسعي لـ "حفريات": نعاني من داء الأيديولوجيّات

العامل المشغول بأوجاعه

كما أنّ النصوص تتماهى مع روح العامل، العامل المشغول بأوجاعه الجسدية التي لا تسمح له في التفكير بأوجاعه النفسية، بل بأوجاع الظهر، وعظام الركبة، التي باتت خشنة وتصدر ذلك الصوت "الطرطقة"، تزامناً مع تقدم العامل في العمر.

 نقرأ في المقطع التالي: "على المقعد بأكتاف مضمومة ومحنيَّة إلى الأمام، سيتغير شكل عظام الجسد، تنضغط الفقرات، تلتهب الأعصاب، تنسدّ، تتكوَّن بؤر ألم لن تفارقه فيما بعد. سيصاب في البداية بأوجاع في الرَّقبة، ثمَّ في الكتف، ثمَّ الظَّهر، حتَّى يصل الوجع لأصابع القدم". 

 صفة "العامل" لا تنحصر، كما يراها الكاتب، على العاملين بمهن تحتاج إلى جهد جسدي وعضلي، لكنها تشمل أي مهنة روتينية قاتلة قد يعمل فيها أيّ إنسان معاصر في هذا الزمن؛ لذلك يتحول الموظف الذي يعمل داخل المكتب إلى عامل تعيس أيضاً، وهذا ما يبدو من الإهداء الموجز في بداية الكتاب " إلى الزُّملاء .."؛ فالكاتب عامل والصحفي عامل أيضاً. 

 كتاب "مُيَاوَمة.. هَايكو عامِل معاصر"، للكاتب المصري محمد فرج

وفي خضمّ غرق الجميع في نمط حياة استهلاكية، والعيش تحت وطأة نظام رأسمالي عالمي، فـ "الزملاء" كثيرون في هذا العالم. 

رحلة شاقة وأبدية

يُصور لنا الكاتب "العامل المعاصر" بوصفه إنساناً ينتظر الحياة، وهو في رحلة شاقة وأبدية للحصول على قوت يومه، والشيء الوحيد القادر على فعله هو النوم، فالنوم هو الفعل الوحيد الذي سيتيح له الحلم في حياة يتمناها، وستتكرر ثنائية النوم/ الأحلام في أكثر من نصّ في الكتاب، مثل الإشارة التي تدفع عاملاً ما للنوم باكراً، فهذا العامل، وبعد انتهائه من العمل، سيخطط ويفكر في أحلام كثيرة أثناء النهار "ليست أحلاماً يريد تنفيذها في الواقع لكنَّها أحلام يريد رؤيتها نائماً (...) لذا يحاول العامل أن ينام مبكِّراً عسى أن يذهب إلى الشاطئ .. أو أن يعثر على النِّسوة اللَّاهيات معه، وأيضًا كي يلحق بحافلة العمل في الصَّباح دون تأخير". 

وفي مشهد سوريالي، تأتي الرغبة في النوم، بوصفها رغبة بالخلاص النهائي، حيث يتمنى العامل أن يركب قطاراً يأخذه إلى مكان بعيد "ينام العامل، فيركب قطارًا، يمشي القطار فوق الماء، السَّماء فوق القطار، وكما تظهر من النَّافذة مليئة بسحاب ثقيل، أبيض وأسود وأيضًا رماديّ .. إذن ستمطر (...) يوقن العامل والقطار يسرع فوق الماء أنه سيرى كيف سيصعد الأحبَّة الَّذين أخذهم الماء ليلتقوا بالماء النَّازل من أعلى، أم أنَّ الأحبَّة قد صعدوا والآن هم على وشك النزول مرة أخرى؟ يسأل العامل. لا يوجد معه في القطار من يخبره. لكَّنه يتمنَّى أن لا يتوقَّف القطار، حتَّى يلتقي الماء بالماء. علَّه يشاهد مَن غابوا منذ زمن بعيد، علَّه يكون حسن الحظّ، فيقفز من القطار، ويذهب معهم". 

صلاة صباحيَّة يجب تلاوتها كلَّ يوم: أكتافي ليست قادرة على حمل العالم/ العالمُ ثقيل/ وهذا ليس بجديد/ الجديد أنّي أكثر ضعفًا كلَّ يوم

عالمٌ آلي جداً

يبدو العامل المعاصر في حيرة من أمره في رؤيته للعالم المعاصر، عالمٌ آلي جداً، العامل حلقة متناهية الصغر داخل أحشائه، ومجرد أن تنتهي صلاحية هذه الحلقة فبالإمكان تغييرها بواحدة أفضل. كما أنّ العامل لا ينتظر أن يتغيّر العالم، بل هو يشعر بثقله "أكتافي ليست قادرة على حمل العالم/ العالمُ ثقيل/ وهذا ليس بجديد/ الجديد أنّي أكثر ضعفًا كلَّ يوم". هذا ما يبدأ به الكتاب، حيث يشير الكاتب على هامش هذا النص بوصفه " صلاة صباحيَّة .. يجب تلاوتها كلَّ يوم". 

إلا أنّ العامل ينتظر أشياء أبسط في حياته اليومية، وقد لا تأتي، كالعامل الذي يجلس أمام الشاشة، أوهمته استقبال رسائل "تفيد بأنَّ ما تم قد تمّ فعلًا، ويتمنى لو أن حاز إعجاب أحدهم، ورسائل أخرى تُذكِّر بضرورة إنجاز ما يجب إنجازه. ويبقى العامل ينتظر رسالة تنبئه بأنه جيِّد، بل ممتاز. رسالة تخبره بقبوله في عمل جديد. رسالة حبّ. رسالة تخبره بأنَّ ما يفعله له معنى. انتظار طويل. الانتظار لا ينتهي، فقط يبدأ ويستمرّ". 

اقرأ أيضاً: حاتم علي يرحل قبل أن يؤرخ للتغريبة السورية

يضعنا كتاب "مُيَاوَمة ..هَايكو عامِل معاصر" أمام مشاهد مكثفة من حياة العامل اليومية، تلك الأيام التي تتزامن مع ساعاتها الطويلة والثقيلة، أحلام بسيطة ومكثفة بمشاهد لا تقبل الإسهاب في السّرد، بل هي أشبه بقصائد هايكو.



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية