نحن في حضرة "الأخطبوط الإخواني"

نحن في حضرة "الأخطبوط الإخواني"


07/09/2019

نائلة السليني

وهل يوجد كائن أغمض من الأخطبوط؟ سواء من حيث صورته أو من حيث نمط حياته وسلوكه. أو حتى من حيث توظيفه لأعضائه. وكثيرا ما يذكّرني هذا المخلوق بالإخوان، لكن لم يخطر ببالي البتّة أنّ هذا الشبه غريب إلى حدّ التطابق، وخاصّة في محاكاته للأذرع التي يمتلكها، ويكاد كلّ ذراع يتكفّل بمهمّة خاصّة ينهض بها ويسهر على نجاحها.

ولعلّ أهمّ هذه الأذرع هو ذاك الذي يعنى بالمشغل الاقتصادي، إذ نعتقد أنّ ملفّ المالية الإخوانية من أخطر الملفّات. وقد أوقفتنا تجربتنا معهم طيلة هذه السنوات الأخيرة على حقائق ما كان لنا أن نعثر عليها في كتاب أو بحث، لأنّها تجربة ميّزت إخوان تونس عن غيرهم من الإخوان لتمكّنها من دواليب الدولة التي انفتحت لها صناديقها الاجتماعية على اختلاف أصنافها، وانقادت إليها وزارات السيادة مستسلمة.

ومع ذلك عشنا معهم أحداثا أسهمت في توضيح مناهجهم، ودفعتنا إلى السؤال عن مطامحهم، ولا ننكر أنّها أحداث على قلّتها، ولا تتجاوز أصابع اليد بحيث يتعذّر أن تكون مادّة تتوفّر على معطيات تسمح لنا بالتحليل أو حتى الاستنتاج، وقد تُحمل على الشاذّ الذي لا يقاس عليه، لكنّها في رأينا تعتبر مفتاحا يسمح لنا بالنظر في بعض المسائل التي هي في غاية الأهميّة ، مثلما يدعونا إلى الوقوف عند قضايا هي جوهرية في فهم مكانة الإخوان ودورهم لا في العالم العربي فحسب بل بالنظر في مدى خطورتهم في العالم بأسره ، وفي تقدير مدى نفوذهم وامتلاكهم لملفّات اقتصادية ومالية على وجه الخصوص.

ثمّ إنّ قصّة الإخوان بالأموال قديمة، ويمكن الحديث عنها منذ نشأة التنظيم الأولى، واعتبرت مشغلا رئيسيا في برنامج البنّا منذ البدايات. فصحيح أنّ جلّ الأبحاث في التنظيم الإخواني ارتكزت على مفهوم الإسلام السياسي وتحليل المنحى الإيديولوجي لأهل المعبد، وهي أبحاث ركّزت بالأساس على البحث في طبيعة العنف لهؤلاء ورغبتهم في إنشاء دولة خلافة بمواصفات إخوانية. ولا ننكر أنّ هذه الدراسات تعمّقت في مسائل خطيرة وجوهرية في فهم طبيعة هذا التنظيم. لكن، نعتقد أنّ الباحثين أهملوا جانبا هامّا من المشروع الإخواني، وهو عنصر أساسيّ يجيب عن الغامض في عمل الجماعة، وخاصّة يكشف ما بقي في المعتبر سرّا يتناقله الجماعة جيلا بعد آخر، ويحفظ في الوقت نفسه هذا الطابع الهلامي والسرمدي لحركتهم.

وإن قلنا هذا الكلام فنحن لا نعتبر أنفسنا أنّنا اهتدينا إلى حقيقة خفية، بقدر ما نعتبر أنفسنا أنّنا ننبّه إلى مسألة طالما اعترضتنا ولكنّنا كثيرا ما تعاملنا معها تعاملا عرضيّا. إن لم نقل عفويا أو ساذجا.

ولنأخذ مثال تونس:

ثلاثة أحداث ننطلق منها، ونعتبرها مناسبة في التنبيه إلى قصّة الإخوان مع المال، لكن تعامل المجتمع معها كان عبارة عن ردود أفعال قائمة على التعجّب والتنديد والاستنكار، ولم يتجاوز حدود الإنباء الصحفي المختزل أو انشداد الناس إلى الخبر طيلة يوم أو يومين أو قل أسبوعا على أكثر تقدير. وكثيرا ما طغى على تعليقات الناس في المواقع الاجتماعية التساؤل عن مصادر التمويل الإخواني، والمنابع التي تغذّي التنظيم.

فأوّل حادثة كانت في أوت 2012 عندما تمّ إيقاف بلقاسم الفرشيشي بمطار أورلي، وهو مستشار حمادي الجبالي رئيس الحكومة آنذاك بتهمة "تبييض الأموال"، وبشهادة الصحفي جول كان قادما من الدوحة والسعودية رفقة (نور الدين عوايني وعماد الغامزي) حاملين حقائب من الدولارات. وتساءل الجميع آنذاك عن مصادر تمويل النهضة وسياستها في تبييض المال الفاسد. ولكن ما لبثت الحادثة أن طويت ونسيها الناس، وتجاوزوها، خاصّة أنّ الفرشيشي نفسه لم يعد اسما يذكر البتّة.
عاش الرأي العام أطوار الحادثة الثانية في أوت أيضا سنة 2017: " فقد تداولت بعض وسائل الإعلام وصفحات مواقع التواصل الاجتماعي خبر سرقة مبلغ مليار ونصف تونسي من منزل مراد بالهادي، رئيس فرقة تأمين رئيس حركة النهضة راشد الغنوشي وعائلته. واكتشف هذا المبلغ عن طريق الصدفة إثر تحقيقات سابقة مع شاب تم ضبطه نهاية الأسبوع الماضي وبحوزته مبلغ مالي يفوق 30 ألف دينار. وأضاف نفس المصدر أنه لم تصل أي شكاية بخصوص هاته السرقة.
ولمعرفة موقف حركة النهضة، اتصل صحافيون بالناطق الرسمي للحركة عماد الخميري، الذي أكد أنها "أساليب تعتمد فيها بعض الأطراف لتشويه النهضة"، داعيا من سربوا الخبر إلى "الإعلان عنه بصفة رسمية".
واستنادا إلى تحقيقات صحفية فإنّ "هذا الشاب اعترف أنه سرق 75 مليون وهو مبلغ صغير جداً بمقارنة مع المبلغ الذي تركه هناك، وقد ظهر في الفيديو صور للعملات المحجوزة وهي من العملات الصعبة كالدولار واليورو." ومثل هذه الأحداث تثير جدلا في مسألة السيولة عند إخوان تونس، وعلاقتها بالعمليات المشبوهة والسرية.

أمّا الحادثة الثالثة فهي تلك التي عشناها منذ أيام: وقيمة المسروق ناهزت 250 مليونا: " فقد أكد مصدر أمني اليوم الخميس 15 أوت 2019، تعرض منزل احد المترشحين للانتخابات التشريعية عن حركة النهضة بتطاوين الكائن بضيعة فلاحية بمنطقة القرضاب التابعة لمعتمدية تطاوين الشمالية للسرقة. مع الإشارة إلى أن المسروق يتمثل في 120 ألف دينار ومبلغ من العملة الأجنبية بقيمة 40 ألف اورو وكمية من الذهب بقيمة 11 ألف دينار.
وأفاد بأن المتضرر تقدم بشكاية الى الوحدات الامنية بتطاوين التي قال انها فتحت بحثا للكشف عن المتورطين في السرقة. ويضيف البلاغ أنّ المتضرّر تحصل على المرتبة الثالثة في قائمة النهضة المترشحة للانتخابات التشريعية بالجهة."

هي كما تلاحظون مبالغ مالية كبيرة في نظر الإنسان العادي، وتدعوه إلى التساؤل عن سبب وجودها نقدا داخل البيوت عوض حفظها في البنوك. ولكن، إذا أنزلنا هذه الأحداث في سياق تاريخي لعلاقة الإخوان بالمال وسياستهم في المعاملات المالية تبدو مسألة في غاية البساطة. لأنّها تتنزّل في مقام الإشارات الخفية التي تحيلنا مباشرة على ملفّ شائك، تعاظم عبر الزمن ومنذ عهد البنّا، كما ذكرنا آنفا وإلى عصرنا الحاضر.

فالاقتصاد الإخواني، هرم متعاظم، نما وطغى وتجبّر أمام أعين الجميع عربا كانوا أو غربا أو أمريكيين، ترِك سائبا ودون قيود، وذلك لحسابات خفية فإذا به يبني الصرح الإخوانيّ، وإذا بنا اليوم نصطدم بإمبراطورية إخوانية، وإذا بنا نتساءل إن كانت الفؤوس التي بأيدينا قادرة على زحزحة حجارة من هذا الهرم.

زعيم هذا الهرم أخطبوط، وإن كان للأخطبوط ثمانية أذرع فإنّ لأخطبوط الإخوان أضعاف أضعافها، نواجهها اليوم بالفكرة واللسان ومقارعة الحجة وليس لنا من سلاح غيرها.

مقالنا القادم نتناول فيه بالتحليل كيف بنى الإخوان اقتصادهم منذ البنّا؟ وكيف أسهم هذا المشغل في تركيز نفوذ الإخوان في الاقتصاد الدولي فتحوّل إلى وعاء يستوعب استثمارات ضخمة تمتلكها الجماعة داخل الدول العربية وخارجها، فيؤمّن حياة التنظيم لأجيال وأجيال قادمة ويحفظها من الهزّات السياسية التي تعترض طريقها.

هذا المشغل سيكون بمثابة الدعوة إلى الاقتراب من الشبكة العنكبوتية التي يعود إليها الفضل في تأسيس " دولة الإخوان الاقتصادية" وهي، وإلى يومنا هذا لا تزال تحفظها من المواجهات والأزمات المالية.

عن "موقع صواب"

الصفحة الرئيسية